|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  23 / 8 / 2017                               د. حسام آل زوين                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 من على البعـد ..
كـلام ... ولروحـه السلام ...

د. حسام آل زوين
(موقع الناس)

... السماء ما بين زرقاء نيلية صافية وفضية في السمت ... كادت تكون بنفسجية وردية عند أختفاء قرص الشمس في افقها من خلف الجبال المحيطة بالطريق المعبد الممتـد من ولاية كليفورنيا الى ولاية أريزونا ، وعلى يسار ويمين الطريق تدور مراوح الرياح (بريشاتها الثلاث الكبيرة) لتوليد الطاقة الكهربائية ...، وبقطع شـوط من الوقت بدأت النجـوم تتلألأ كأنها الالماس بألوانها الزاهية البهيجة ، خرجت عن حجمها المعتاد المألوف ، ... وانت ... كانك ذلك السوبرمان يمسك بها . السيارة تشق طريقها كانها سفينة فضاء لا يسمع لهدير محركها سوى ازيز ما تنفثه مخارج كابت الصوت من مخزونها ، كتلك التي تشبه الصحن ارادت ان تحط ليلا في صيف 1984 ما وراء الاعلام ، تتنقل ما بين نجوم الدب الكبير والدب الصغير والقطب والزهــرة والميزان ..

اخترق هذا الصمت والهدوء عبر مسافة لا بأس بها بعد ان تبادلا اطراف الحديث وشجونه ، مفاجئة ابنه اليافع ، بسؤال لم يخطر بباله بأن سـؤالا من هذا القبيل يـدور في ذهنية الابن من الجيل الجــديد ذو الثقافة والمعارف الاوربية ... ؛ لماذا اكثر الشــيوعيين العراقيين الذين صادفتهم وجالستهم هم من المثقفين ! .

انتهزها الوالد فرصة ثمينة لكي يتيقن بقرب عن اهتمامات الابن ومدى ادراكه وما يجول في تفكيره وجدية سـؤاله حقا ، وليعكس له حقائق واجوبة عايشها من وسـطه الاجتماعي ايام دراسته الجامعية وشبابه لكي يفهمها ، أضف الى ذلك الخوف من ان يغالبهم النعاس وهو ماسك بالمقـود لهذه المسافة البعيدة .

صمتٌ للحظات ، اراد الوالد ان يمسك رسن الحديث ...، وانطلق بكلامه ؛ ... بعد ايام سوف تحل ذكرى اربعينية رحيل السكرتير الاول للحزب عزيز محمد الذي قاد الحزب منذ الستينات في كل محطاته الصعبة والمراحل والظروف المعقدة والمؤلمة بعد ان فقد الحزب خيرة الرفاق واعدمت خيرة قياداته والمتمثلة بالسكرتير سلام عادل ورفاقه الاخرين ، وانت تعرف بعضا من ابنائهم وبناتهم والذين منهم لازال سائرا على نهج الاباء . اي قاده في ظروف العمل السري والعلني وفترة الكفاح المسلح .

توسع الحديث بتشعباته ... .
وضمن عمل الحزب في نضاله السياسي والوطني ومعاركه الوطنية منذ نشأته الاولى في أذار 1934، وما تضمنته برامجه في السياسه الثقافية من غناء ، ركز بتوجهاته في الجانب التثقيفي ايضا لاعضائه واصدقائه ومناصريه ، حيث شكلت حلقات تثقيفيه في القراءة والاطلاع على الادبيات الحزبية والاهتمام بالمستوى الثقافي للاعضاء بشكل ملزم وحيث ماهو متوفر للقراءة ... وتبادل الكتب الثقافية في كافة مشاربها ومنابعها من الاداب والفنون والموسيقى والمسرح وعلوم الاقتصاد والفلسفة والسياسة هذا فضلا عن انشاء مكاتب صحفية وحلقات ودورات وندوات حزبية ثقافية تفسح المجال للاعضاء والاصدقاء الاطلاع والقراءة والتعرف على الثقافات والفنون والتراث بكل الوانه ومدارسه واتجاهاته ؛ وطنية كانت او عالمية حينها ، ساهمت بتطوير الوعي الانساني والاجتماعي وانعكاسات ذلك على مجمل مستوى الوعي الثقافي والاجتماعي لرفاقه، وداخل المجتمع بكل اطيافه وقومياته واقلياته على حد سواء .

هذا فضلا عن اصدار جريدته وصحفه ومجلاته وكراريسه ونشرياته الدورية التي تعني بنشر الفكر التقدمي النير انذاك والتي لعبت دورا مهما في زيادة هذا الوعي الثقافي بين افراد المجتمع والوعي الاجتماعي عموما والاهتمام بالمبدعين والمهتمين بهذا النشاط بتنوعه مما خلقت اجيالا من مختلف اطياف الشعب العراقي نهلت من الفكر والاداب والثقافة الوطنية والعالمية من كل منابعها الصافية . وليس هذا وحسب بل وبنفس الوقت حرص الكثيرين من الرفاق من ارتوى من هذه المناهل والمنابع الثقافية النيرة وخبرتهم لايصالها للاخرين على تشجيع واعداد من تلاهم ويتلوهم من السائرين في طريق الشعب ... .

على طول الطريق تبادلا الحديث عن شخصية عزيز محمد ، وذكر له بعضا من اقواله عن قرب ؛ ذات مرة حضر ابو سـعود احد المعارض الفنية ، قال كلمته التي لازالت مخزونة في الذاكرة ؛ بان الشيوعيين يصدأون بدون الفـن ،... وفي احد الجلسات الانصارية بفترة الغداء الجماعي ؛ تحدث عن النقـد والنقـد الذاتي ؛ بان ممارسة الانتقـاد هو كالملـح للـزاد ، ابو سعود مسالماً ، بجواره أباً ، متواضعاً ، جميل المُحيا ، حسن النية . ... احس بان ابنه انصت للحديث بكل تفاصيله .

... ذات مرة ، في فترة دراستي في السبعينات ، التقيت مع احد المقيمين العراقيين د. أحمـد النعمان في موسكو ؛ الفنان ، الصحفي ، الاستاذ في المدرسة العربية انذاك ، وكانت مني زلــه عتب في النقاش ، فاجائني برده لمقولة عملاق الادب الروسي الروائي دوستويفسكي ( 1821- 1881) ؛ " كلنا خرجنا من معطف غوغل " ... ونحن كلنا خرجنا من عباءة الحزب الشيوعي العراقي ... الامر الذي دفعني الى قرائة رواية "المعطف " للروائي والكاتب الروسي نيقولاي غوغل ( 1809-1852 ) ... كانت موسكو ومنذ بداية الستينات تزهـو بخيرة الشباب العراقي الطالب للعلم والثقافة ، فاستقطبت اسماء منهم ؛ ليس في مجال الاختصاصات الطبية والهندسية والادبية فحسب بل غـدت لامعة في الاقتصاد والسياسة والصحافة والفن والعمارة .

خرج الابن من صمته بعد ان خفف من سرعة السيارة ، أتعلم ياأبتي ؛ على يمنك ، اختار المعماري الامريكي فرانك لويد رايت بيتا له في تلافيف تلك التلة ؛ أتعلم بانه قد زار العراق في 1957 والتقى مع النحات العراقي جـواد سـليم وباقي المعماريين وجماعة بغداد للفن الحديث انذاك ! ، ليس هذا بحسب بل مجموعة كبيرة من المعماريين العالميين امثال ؛ لي كوربوزيه ، كروبيوس ، جيو بونتي ، آلفـار ألتو، اوسكار نيماير ... وغيرهم ، أحقا كانت بغداد تزدهر بهذا المستوى والوعي الثقافي والفني لكي تجذب هؤلاء المعماريين المشهورين لزيارتها وتقديم تصاميمهم ! .

اقتربوا قليلا من وجهتهم ... لا زالت النجوم تتلألأ في سماء صافية مقمرة وكانها سماء الليالي البيضاء لبلدان الشمال ، الفجر هادئ يكاد أن يكون له اقتراب ، تذكر اوقات حراساته الليلية القارصة في شتاء كردستان وكم كان يحلو له بنشوة حينما ينوب عن دور حراسة الاخرين المنكبين على تحرير صفحات الجريدة ولاعداد المواد لاذاعة صوت الشعب العراقي ، في الليالي الشـتوية المقمرة في الاودية العميقة البعيدة تلك ، الا زالت مواقـد المقرات تنفث دخانها للسماء ! ، لازال في الذاكرة عزيز محمد مبتسماً وهو يوقع ميثاق الجبهة الوطنية ، وهو في مؤتمر للحزب الشيوعي السوفياتي ، يُقَـلـد وسـام لينين ، وهو بتواضعه الابوي جالس مع الانصار ... ، من على هذا البعد ... رحمة وغفـرانا ... تحية وسلاما لابي سـعود وجه الخير المسالم ، لروحه الطيبة الطاهرة ولرفاقه الشجعان الميامين ممن رحلوا عن هذا العالم الاغبر المغبر الاصفر .. ، جنان الخلـد ... ويبقى الذكر الطيب له ولهم دوما على ما غرزوه وزرعوه من خير وحب الناس والوطن في قلوب ونفوس من اقترب وتقرب منهم .
 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter