|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  2  / 4 / 2017                                حيدر شيخ علي                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

عبد الرحمن منيف - الآن، هنا وذكرياتي في السجن

حيدر شيخ علي
(موقع الناس) 

اكتب هذه السطور بألم شديد، متذكراً واقعة حصلت أواخر عام ١٩٨٧، ولم تحسم حتى اللحظة، بعد مرور ثلاثين عاماً بالضبط.

أواخر العام ١٩٨٧ كنت قد خرجت لتوي من سجن ايفين الرهيب، (طهران) بعد ما يقارب ست سنوات عجاف، بعد توجيه اتهامات واهية بالتجسس لاكثر من دولة. خرجت بجسد مهشم، لكن بروح قوية، مفعمة بالأمل.

في لقاء لي مع الصديق الغالي فالح عبد الجبار، في دمشق، تسامرنا، واعدنا ذكريات الأمس، واحلام الغد.

في مجرى الكلام عن سنوات السجن، تولدت الرغبة لدينا نحن الاثنين في أن ندوّن سيرة السجن.

من جهتي كنت حريصاً على أن أسجل ما رأيت وسمعت واختبرت بجسدي وعقلي.

ومن جهة الصديق فالح عبد الجبار، كانت الرغبة قوية في توثيق هذه التجربة - المحنة الانسانية.

أمضينا أيام نسجّل الوقائع، يوما، بعد يوم، من لحظة الاعتقال الاولى، وتفاصيل الحياة اليومية، في زنزانة الانفرادي، كما في "قاووش" السجناء، أو في سراديب التعذيب. سجلنا عشرة أشرطة أو أكثر، بثلاث ساعات للشريط الواحد. بعد فترة أشهر، فهمت من الصديق فالح عبد الجبار أن عبدالرحمن منيف الروائي، القريب من العراقيين وأوساطهم في المنفى الدمشقي، أبدى رغبته في الاطلاع على الأشرطة، فاستجاب الصديق لطلبه عن طيب خاطر.

مرّ عامان أو أكثر ونحن بانتظار عودة الأشرطة. بعدها صدرت رواية "الآن، هنا - أو شرق المتوسط ثانية" عام ١٩٩١ للروائي عبدالرحمن منيف، وهي تحمل مقدمة بقلم المسرحي السوري الشهيد سعد الله ونوس (النسخة المهداة لنا تحمل هذه المقدمة، التي حذفت في طبعات لاحقة) أهدى لي عبد الرحمن منيف نسخة من الرواية، كما أهدى نسخة أخرى إلى صديقنا فالح.

بعد قراءة الرواية رأينا أن كامل قصتي في السجن أدرجت فيها، رغم أن منيف أضاف أيضاً قضايا أخرى إلى المتن. فرحنا باهتمامه بموضوع السجناء. لكن هالنا أن لا يذكر منيف ولو بكلمة أنها تجربة حيدر الشيخ علي، وأنها تجربة شخصية لشيوعي عراقي معروف ، ووجه قيادي في حركة اليسار. وحسبما أخبرني الصديق فالح عبدالجبار أن جهوده لاسترجاع الأشرطة باءت بالفشل، قبيل وفاة الروائي عبدالرحمن منيف.

قررنا أن نعيد جلسات التسجيل تعويضاً عما فات. ولا أدري إن كان الزمن سيمنحنا مثل هذه الفرصة.

أكتب هذه بمثابة وصية إكراماً لذكرى تجربة مريرة لي ولرفاقي في السجن. أعرف أن المئات إن لم يكن الآلاف مروا بمثل هذه المحنة، أو أكثر، لكن الحق يوجب ذكر مصادر النصوص وهوية أصحابها.

لعل أسرة الراحل عبدالرحمن منيف تتلطف وتعيد لنا تسجيلات ذكرياتي في السجن، بصوتي وصوت فالح عبد الجبار.

ولعل لهذا النداء من مجيب

 

ادناه مقال الدكتور فالح عبدالجبار في جريدة الحياة


مذكرات السجين العراقي حيدر الشيخ علي ينتحلها عبد الرحمن منيف ويُسقط الاسم

فالح عبد الجبار
الحياة -  السبت 1 / نيسان / 2017

حتـى تعرف بطل رواية «الآن، هنا» لعبد الرحمن منيف (الطبعة الأولى ١٩٩١) يجب ان تعرف بطلها العراقي. وحتى تعرف بطلها العراقي يجب ان تعرف ديرسو اوزالا بطل المخرج الياباني كيرو ساوا . والعراقي هو حيدر الشيخ علي. كنت اسميه «ابن الأرض»، نقابي، مفعم حيوية، وذكاءً فطرياً، لا تصنعه أطنان من الكتـب، سرعة بديهة وروح مراح، تلتقط مفارقات الحياة. كلما شاهدت فيلم كيرو ساوا « ديرسو اوزالا» تذكرت حيدر. ذاك صياد ماهر، ابن البراري، العارف بخبايا الطبيعة، نذر العواصف وآثار النمور، والضواري، في اقاصي سيبيريا. هو الناجي في وسط صحارى الثلج والغابات، المستأنس بزئير المفترسات، وحفيف أشجار الغاب، يعجز عن العيش في المدينة، ويقتل فيها في اول لحظة غفلة. حيدر، شارك مع عبد جاسم وآخرين في اشعال اول اضراب عمالي (عمال الزيوت) بوجه نظام الحزب الواحد البعثي. كان المتفاوض عن السلطة صلاح عمر العلي، عضو مجلس قيادة الثورة آنذاك الذي أمر بالهجوم أخيراً. يتذكر العمال حيدر الشيخ في عمله مع د.عبد جاسم (رئيس لجنة الإضراب والتفاوض) في التفاوض الجريء الواضح. حملة التصفيات التي بدأها نظام الحزب الواحد البعثي بزعامة صدام حسين، عام ١٩٧٨، حملت حيدر الى الجارة إيران، في تنظيم سري وسط المهجرين العراقيين.

يوم زرت إيران صحبة زهير الجزائري وحكمت داود في جولة بحث ميداني ربيع ١٩٨١، التقيت حيدر مراراً. خشينا عليه من تكرار اللقاء. رسمياً، كنا نحمل جوازات يمنية وبضيافة سفارة فلسطين لا كعراقيين. ودعنا بذكريات مرحة، فرحة، كعهده دوماً في التقاط كل ضروب الفكاهة من واقع الحياة. لا أحد يجاريه فيما يسميه الفرنسيون: سرعة البديهة. فهو تجسيدها الحيّ. صدمت يوم عرفت، بعد زيارة شهر كامل لإيران، وعودتنا، زهير وحكمت وأنا، الى دمشق «قلب العروبة النابض» بالكراهية، ان جهاز المخابرات الإيراني ألقى القبض عليه بتهمة التجسس للعراق. حصل ذلك أواخر عام ١٩٨١.

لسبــــب ما شعرت اننا كنا السبب في انكــشافه. لعل رغبته العارمة في مرافقتنا، (والقيام بدور المضيّف السخي) أنسته بعض ضرورات التـــكــتم في أجواء الريبة التي ترافق الأنظـــمة الجديدة، خصوصاً إذا كـــانت تخوض حرباً داخلية وخـــارجية. عاماً بعد عام كنت انتظر اخباره، أجهزة المخابرات لم تكتف بالسعي الى «قنص» اليساريين العراقـــيــين، بل فتحت ابوب الجحيم على اليسار الإيراني: توده، فدائي خلق. انقلبت الثورة على اليسار الذي دعا اليها وساهم فيها، وأخلص لها.

يوم خرج حيدر، بوساطات من سوريا (الأسد - الأب) وساطات اثبتت ان لا صلة له بالجاسوسية المزعومة، كان أشد نحافة مما كان عليه. فآثار الأصفاد، والتعليق من السقف، والفلقة والجلد بحبل (كيبل) معدني، لاتزال تحكي ملحمة العذاب. استمعت إليه، يروي الحكاية تلو الأخرى، بأسلوبه القصصي، العفوي، الشيق. في هذه القدرة على السرد الجذاب لا يجاريه أحد من كتاب القصة، سوى عربي واحد: يوسف ادريس، تشيخوف العرب (برأيي اللامتواضع).

كانت كلماته الحارة، المفعمة بالحياة تتحول في مخيلتي الى صور حية، أولجتني الزنزانة الانفرادية التي تركوه فيها قرابة ثلاثة اعوام او نحوها، كيما يتفكك، وينهار، فيركع عند اقدام جلاديه، او يصاب بلوثة جنون. اكتشف الجلادون (أصحاب عمائم) انه من معدن آخر، لا ينكسر، ولا ينثلم، مثل معدن كوكب السوبرمان: كريبتون.

حكايته في سجن ايفين هي حكاية جيل كامل من اليساريين الذين قضوا، او تحطموا، او شنقوا، في سجون الفاشية العلمانية والدينية سواء بسواء. سجلت حكاياه، واستنطقته، لحظة لحظة على مدى أيام، وتجمعت الذكريات في أكثر من عشرة شرائط (كاسيت)، بثلاث ساعات لكل شريط. اودعني حيدر ذكرياته لأصوغها كتاب وقائع، بلا تزويقات، بلا رتوش: الحقيقة العارية.

في مصادفة (سيئة او حسنة؟) التقيت الروائي الراحل عبد الرحمن منيف وتجاذبنا الحديث على وقعة «سمك مسقوف» أعدّتها شلة مثقفين عراقيين جاءوا مثله الى المنفى الدمشقي. حدثته عن ديرسو اوزالا العراقي، حيدر الشيخ علي. التمس منيف ان يطّلع على مضمون تسجيلات السجن. كان هذا خريف عام ١٩٨٨.

لم يُعِدْ منيف الأشرطة كما وعد، على رغم تكرار مطالبتي. ثم حدث أنْ توجهت، مع كثرة، الى المنفى الجديد، لندن.

بعد عام او نحوه، صدرت رواية منيف: «الآن، هنا». وصلت ٣ نسخ هدية من المؤلف الى بطل الرواية حيدر الشيخ علي (نقلها له الصديق انتشال هادي)، وهي تحمل اهداء بخط يد منيف: «ربَّ أخ لك لم تلده أمك». ووصلت نسخة أخرى لي، هذه النسخة تحمل مقدمة بقلم المسرحي الراحل سعدالله ونوس، الضمير الثقافي الحيّ. تقع الرواية في ٣ اقسام: الأول، الدهليز، مقدمة متخيلة عن لقاء يساريين في براغ. الثاني، حرائق الحضور والغياب، والثالث، هوامش أيامنا الحزينة. مضمون قسم حرائق الحضور والغياب منقول نصاً عن مذكرات حيدر المسجلة صوتياً، كما ان هناك موتيفات منها في القسم الثالث. وبهذا اعتمدت الرواية اعتماداً شبه كامل على ذكريات حيدر. كان الاهتمام بتعرية القمع مسّرة لكل من له ضمير، ومبعث اعتزاز لنا ان تجد تجربة حيدر طريقها الى الانتشار.

لكن الرواية كما مقدمة ونوس خلت من أي إشارة الى صاحبها، صحيح ان مكان وزمان الحوادث ألغيا تماماً، في إطار ترميز فني او تهرب من الواقع، الا أن حيدر، شأني انا، أصيب بما يشبه الصدمة بسبب اغفال ذكر مصدر القصة الذي اخذ في شكل نصيّ. ما السبب في إلباس هوية البطل طاقية إخفاء او اغفال المصدر؟ هل هو الاعتقاد بأن من حق الروائي أخذ كل ما يصادفه، نوع من الاعتقاد بامتلاك الأشياء بمجرد ان يقع بصر المرء عليها؟ ام الاعتقاد بأن تحرير المادة فنياً يلغي حق انتسابها إلى لآخر؟ أم هو إغفال غير مقصود؟ ام هو إقصاء لهوية الشيوعي بدافع تحزّب أيديولوجي؟ لقد رحل منيف ولن نعرف جليّة الأمر. لعله اودع مكنونه لشخص ما، سنظل بانتظاره حتى لو كان غودو بيكيت! لكن الثابت ان حق الملكية الفكرية غائب.

منذ نحو عقد من السنوات، ترك حيدر منصبه الوزاري (وزير النقل) في حكومة إقليم كردستان العراق. وتخلى مؤخراً عن موقعه في اعلى هيئة قيادية للحزب الشيوعي العراقي طواعية، فاسحاً الطريق، بملء إرادته للجيل الشاب. ومنذ عقد أيضاً وهو يقاتل مرضاً عضالاً بهدوء نادر. قبل أيام (٢٥ آذار- مارس )٢٠١٧ اتصل بي هاتفياً من أربيل متذكراً محنته في السجن ومحنته في سلب هويته وتجربته. ها أنذا أدون شهادتي.


رابط المقال في جريد الحياة:
مذكرات السجين العراقي حيدر الشيخ علي ينتحلها عبدالرحمن منيف ويُسقط الاسم
http://www.alhayat.com/Articles/21050584/














 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter