|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  27  / 7 / 2011                                 حكمت حسين                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



في ذكرى رحيله
الجواهري ..... أبيّ النفس لم يخشى الموت

حكمت حسين
(موقع الناس)

الصدفة وحدها ، جمعتنا سويا في رحلة العودة من براغ الى دمشق في تشرين الثاني 1989 ، التقينا في قاعة المغادرين ، كان في توديعه الصديق رواء الجصاني وفي توديعي الصديق عصام الصفار ، ودخلنا صالة الترانسيت في منتصف النهار تقريبا ننتظر الطائرة السورية التي ستقلنا ، طال انتظارنا اكثر من اربع ساعات دون ان نعرف سببا للتأخير ، كانت احاديثنا متنوعة وانا كنت سعيدا ان اجلس امام هذه القامة الشماء ، احاورها ونتبادل الاسئلة والاجوبة كانت ساعات طيبة حقا معه ، واخيرا اقلعت الطائرة التي من ضمن رحلتها الهبوط في مطار بودابست لوقت قصير ، جلسنا سويا فليس هناك من ارقام للمقاعد كباقي شركات النقل الجوي ، ورغم ان تذاكرنا كانت سياحية فقد طلبت المضيفة منه ان ينتقل الى مقاعد الدرجة الاولى ، وبالطبع قبل هو الطلب وطلب ايضا ان اكون انا "صديقه" معه ، وتم ذلك .

حدثني عن اشياء كثيرة وحدثته عن حركة الانصار ونشاط الحزب الشيوعي وكان يستمع بانتباه ، حتى وصلنا مطار بودابست وعندها ابلغونا ان هناك عطل في الطائرة ولن نتمكن من مواصلة الرحلة وعلينا المبيت في بودابست لحين قدوم فريق تصليح من دمشق في اليوم التالي . الجميع كان منزعجا واستغرقت اجراءات نقلنا الى فندق داخل المدينة بعض الوقت ، ونمنا ليلتنا بعد عناء التأخير بعد ان اطمأنيت على راحته .

في صباح اليوم التالي ، وفي مطعم الفندق لتناول الفطور ، التقينا من جديد وتناولنا الفطور سويا ، وبالقرب من طاولتنا كان هناك ثلاثة عراقيين على طاولة اخرى ، اخبرته ان هؤلاء لم يكونوا معنا في الطائرة ، وربما هم من العراقيين الزائرين في بودابست . بعد ان سمعوا منه انه يبحث عن سجائر ، بادر احدهم لتقديم علبة سجائر له ، رفضها بتهذب عال ، وقال لي : يبدو انهم مو من جماعتنا ، وكان يقصد بوضوح انهم ربما من رجال النظام ، حيث السفر خارج العراق ممنوعا سوى لازلام النظام ، انه أبيّ النفس حقا .

حصل على السجائر بعد ان زارنا الرفيق ناصر الثعالبي اثر اتصالي به برفقة رفيق آخر وامضوا بعض الوقت معنا ، بعد الظهر نودي علينا للذهاب الى المطار ، وعند وصولنا وضمن اجراءات التفتيش ، صفّرت ألة الفحص اليدوية التي مررتها موظفة التفتيش على جسمه ، واتضح ان مجموعة مفاتيح صغيرة كانت هي السبب ، قال لي : انها مفاتيح الحوش . قلت في نفسي انك لا تفتح او تغلق ابوابا ، فلماذا تحمل مفاتيح الحوش ، ولكني انتبهت انه يقصد مفاتيح منزله في براغ .

عند صعودنا الى الطائرة قال لي : لا اعتقد انهم اصلحوها بشكل جيد . ومرت جملته عابرة بالنسبة لي . وحلقت الطائرة ، وانتقلنا الى الدرجة الاولى كما في المرة السابقة ، وكان معنا في مقاعد الدرجة الاولى الفريق الفني الذي قدم من دمشق لاصلاح عطل الطائرة .

في منتصف الرحلة ، وكان حينها يحدثني عن اتحاد الادباء ايام عبد الكريم قاسم وعن الشاعر علي الحلي نحن نستمتع بكؤوس الويسكي الذي قدموه لنا ، واذا بانوار الطائرة تنطفئ ، ويشتعل ضوء احمر سريع الحركة ، ونهض اعضاء الفريق الفني بسرعة وسحبوا من تحت المقاعد حقائب او خزائن ، واظلمت الصورة امامنا .

شعرت ان الموت يقترب مني ، انا الذي كان عليّ العودة قبل اسبوع مع رفيقي غريب صالح ، ولكني فضلت البقاء اسبوعا اضافيا توفره لي بطاقة الطائرة ويتوفر لي سكن وفرته منظمة الحزب في براغ ، والاهم من كل هذه الاسباب متابعة تطورات الوضع في براغ وتشيكوسلوفاكيا التي كانت تغلي نحو التغيير ، التظاهرات تتسع كل يوم ، وسكرتير منظمة براغ عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي يوهمنا ان الاشتراكية بخير في تشيكوسلوفاكيا ، ولكنها بعد عشرة ايام فقط انهار النظام الاشتراكي بقوة التظاهرات الجماهيرية .

انا الخارج من سنوات النضال في كردستان سالما ، والمتعرض للسلاح الكيمياوي ، والخارج سالما أيضا من حصار الجيش بعد انتهاء الحرب مع ايران مقتحما سيطرات الحكومة قبل وبعد الموصل وصولا الى الحدود . انا الذي لم امت في ساحة النضال ضد الديكتاتورية ، هل اموت هذه الميتة البائسة . كل هذه الاسئلة راودتني وانا في حالة خوف مما سيحدث لنا .

اما هو ، الجواهري الكبير ، فقد ظل مسترسلا في حديثه عن اتحاد الادباء وعن الشاعر علي الحلي دون ان يكترث بما حوله . كم مر من الوقت ؟ ربما اكثر من عشر دقائق ، ولكنها كانت كالسنين . واخيرا انطفأ الضوء الاحمر ، واشعلت انوار الطائرة ، وتنفست الصعداء ، والتفت الي قائلا : ألم اقل لك انه لم يصلحوها بشكل جيد ، وواصل الحديث عن الحزب الشيوعي العراقي ، وأثني على بعض قادته ، ومواضيع اخرى . بعد انتهاء المشكلة زارنا كابتن الطائرة ليطمئن عليه ، والتقطنا الصورة المرفقة ، وسألني بجدية : من اراد التقاط الصورة ؟ اجبته انا ، رد : حسنا لك هذه الصورة يا ابو اقبال . لم يكن يخشى الموت في تلك اللحظات العصيبة .

وصلنا دمشق في وقت متأخر من المساء الخريفي المظلم ، وفي صالة التشريفات (التي دخلتها لاول وآخر مرة ) كانت كريمته السيدة خيال بانتظاره ، قال لها : كانت رفقتي طيبة مع ( ابو عبد الباقي ) رغم انه كان يناديني طيلة الوقت بكنيتي ابو اقبال ، كان مسرورا اننا نعرف بعضنا مسبقا ، وتواعدنا على ان ازوره في اليوم التالي واشاركه لعب الورق . للآسف لم أف بوعدي له .

أن تكون بقربه ليومين ، ان تسمع صوته مباشرة ، أن تأكل معه على طاولة واحدة ، أن تساعده في ارتداء معطفه ، ان تستمع له ، ان تتحدث عن الحزب ومواضيع اخرى وهو يستمع لك باصغاء ، ان يحكي لك ذكرياته وانت في عمر الطفولة ، ان ترفع نخب معه ، ان يحدثك عن مدن براغ وكارلوفي فاري ، ان يعرف انك شيوعي ويحدثك عن الحزب الشيوعي وذكرياته مع بعض قادة الحزب ومسيرته ، أن يحدثك عن عبد الكريم قاسم ، كل تلك الاشياء الكبيرة كانت مع الجواهري ، كم انا ممتن لتلك الصدفة التي جمعتني به .

هل تدرس قصائده وتجربته الطويلة في مدارس وجامعات العراق ؟

انه يستحق أكثر من تمثال في بارك سامي عبد الرحمن في مدينة أربيل .


27 تموز 2011
 


 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter