|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الخميس 11/10/ 2012                                 حسين درويش العادلي                               كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

من الأزمة ما قتل

حسين درويش العادلي

الأزمات المزمنة والمستنسخة التي لم تعرف تفكيكاً وحلاً بعد.. هل ستقتل الدولة؟ سؤال يتكرر كلما عشنا أزمة، كلما لاحت بالأفق أزمة، وكلما خشينا أن تبتلعنا الأزمات فتقضي على بقايا الأمل بولادة دولة عراقية وطنية مدنية مزدهرة.

السياسي هو المسؤول

الدولة تنتجها السياسة، والسياسة مهمة الساسة على تنوع مدارسهم الآيديولوجية، فهم الذين يرسمون للدولة قدرها صعوداً أو انحطاطا،.. فإذا ما عاشت أو ماتت دولة فاعلم أنَّ المسؤول عن حياتها أو موتها هم الساسة.

السياسة في الدولة المدنية هي مهمة وطنية قانونية مؤسسية حواضنها القيم ويحكمها القانون وتضبط مساراتها الأنظمة،.. والسياسة في الدولة السلطوية مُلك وقدر، إذ تقوم وتقوم على فكرة الأب والرمز والضرورة. السياسي هو المسؤول عن الدولة، هو المنتج لقيم الدولة وبنيتها واتجاهاتها، لأن بيده فعل الدولة، وبالذات في المراحل التأسيسية من عمر الدول، وفي المراحل الإنتقالية التي تعيشها، وفي مراحل الأزمات التي تعصف بالأمة والدولة.. هنا يكون للسياسي فعل حاسم فيما يتصل بمصير الدولة.

المنتج للأزمة

إنها فلسفة الدولة وبنيتها ونخبها مَن ينتج جوهراً هشاً للدولة يحول دون استقرارها وتطورها،.. فعندما تستورد فكرة الدولة دون اشتراطاتها العضوية من مواطنة فعالة وديمقراطية منتجة وتعددية حقيقية وتنمية متصلة، وعندما تولد الدولة وتسيّر على وفق الفلسفة الأبوية البطرياركية المركزية الشمولية عوضاً عن الشرعية الديمقراطية المدنية، وعندما تختطفها السلطة لتغدو ملكاً لفرد أو حزب أوعرق أو طائفة أو إثنية فتصادر وحدة أمة الدولة، وعندما تفتقد جوهرها المتصل بالعدالة والمتحقق بالقوانين والمصان بالمؤسسات لتغدو مجرد حكم يقاد بالمغامرة والنزوة والشهرة والفساد، وعندما تفقد الدولة علويتها وحياديتها فتكون أداة سلطة للهويات العرقية الطائفية المناطقية الحزبية فتبتلع وتتجيّر وتحتكر.. عندها تغدو لبوس دولة تمارس وظائف الدولة احتيالاً وزوراً، وعندها تكون الدولة أرضاً خصبة لتوالد الأزمات بفعل تراكم المشاكل وتجذرها، وعندها تكون الدولة مأزقاً تنوء بنفسها وبمواطنيها جراء سياسات الإحتيال والإختطاف والتجيير والمغامرة.

هل الدولة مأزومة؟

نعم، إنها مأزومة منذ تأسيسها الحديث، فدولتنا العراقية ومنذ 1921م والى يومنا هذا تعيش أزمات تتصل ببنيتها وسياساتها ونخبها.. أزمة هوية، أزمة تعايش، أزمة شرعية، أزمة سلطة، أزمة وحدة، أزمة سلام، أزمة تنمية... ولم تعرف بعد حلاً جذرياً لمشاكلها التي تراكمت لتلد أزمة تلو أخرى طيلة التسعين حولا.

يخطىء مَن يظن أنَّ أزمة الدولة العراقية هي أزمة استبداد وحسب فإذا ما زال المستبد زالت العوامل المنتجة للأزمات، كلا، بل هي أزمة تتصل ببنية الدولة ومدارسها السياسية ونخبها المنتجة لفعل الدولة على الأعم الأغلب، والإستبداد الأبوي الشمولي أحد عناصر القلق في بنية الدولة المنتج للأزمات،.. الإستبداد كنهج وثقافة ومعيار هو خطيئة من خطايا التأسيس والإدارة للدولة لا جميع خطاياها،.. وهنا يكمن وعي أزمة الدولة.

وعي الأزمة

أزمة الدولة العراقية هي أزمة أسس ومعايير ونخب وسياسات لا تفيد معها الحلول الترقيعية والصفقات الإرضائية ولا تدرك الحل بالتلفيق والتمييع والترحيل.. إنها أزمة دولة بكل أركانها، إنها أزمة مركبة من أزمات آسنة تتصل بأخطاء التأسيس وعبثية الإدارة وعشوائية السياسة وتواضع أداء الساسة.

جوهر الدولة المنتج للأزمات يتمثل بأسسها الخاطئة، فقد قامت الدولة العراقية الحديثة على وفق ثلاثي: القومية، المذهب، الإستبداد، فأنتجت سلطة عرقية طائفية مستبدة، ففقدت الدولة علويتها وحياديتها وعدالتها وهويتها الوطنية الجامعة، وفقدت شرعية سلطاتها بفعل الإحتكار والتجيير والإستبداد.. وما إن سقط نموذج الدولة هذا في 2003م حتى تم استنساخ فشل الأسس باعتماد نموذج الدولة التوافقية القائمة على وفق مبادىء: المكوّن العرقطائفي، والحكم التوافقي الفيتوي، والمحاصصة العرقطائفية الحزبية للدولة كمؤسسات، فنتج لدينا دولة الهويات العرقطائفية المبتلعة حزبياً وفئويا.

قبل 2003م كان لدينا مسمى دولة، هي سلطة ذات نواة عرقطائفية مركزية صلبة مستبدة بالدولة ومغامرة بها، وبعد 2300م أنتجنا مسمى دولة، هي تكدس سلطات لمكونات عرقطائفية متناشزة متصارعة على الدولة ومبتلعة لها،.. إنها خطيئة الجوهر المراد تكوين نواة صلبة للدولة على وفق معاييره.. خطيئة مستنسخة بلبوس جديد.

هنا يكمن وعي فشل مشروع الدولة العراقية، إنه فشل الجوهر الصلد لفكرة الدولة ولأسسها ومعاييرها من مواطنة وديمقراطية وتعددية ومدنية وقوى وطنية تشتغل على وفق فرضية الدولة لا قوى عرقطائفية حزبية تشتغل على وفق فرضية الأمة الفرعية والمجد الحزبي والرمزية الأبوية،.. هذا هو الفشل المسبب للأزمات والمنتج لها على طول الخط، فتاريخ دولتنا زمن مستنسخ لفعل سلطات لا تاريخ تراكمي لفعل دولة.

هل هناك تسوية للأزمة

لا، لم نلمس حلولاً وتسويات للأزمات المتجذرة والطارئة والمهددة لكيان الدولة،.. هناك استنساخاً للأزمات، إحتيالاً وترحيلاً وتمييعاً لها،.. والأخطر هناك إنتاجاً وتوظيفاً للأزمات لتكريس الواقع المأزوم لخدمة مصالح عرقطائفية فئوية شخصية معلنة ودفينة. إنها قضية وعي لأسس أزمة الدولة التي تلد وتتوالد عند كل استحقاق وطني يخص أمة الدولة وكيان الدولة كدولة، وهي أيضاً قضية إبداع حل يدرك طبيعة الأزمة ويفككها وينتج بديلاً إنقاذياً عوضاً عنها، وهي أيضاً قضية اخلاص وطني حقيقي من قبل مَن بيدهم حل الأزمة وايجاد مخارج لمآزقها، وإلاّ كيف يعقل ويقبل بقاء وتجدد الأزمات منذ رحيل الدكتاتورية والى يومنا هذا،.. فما زالت الدولة مأزومة، وما زالت قضاياها الجوهرية لم تعرف تسوية أو حلا، وما زال التضاد والصراع وتضارب الرؤى والإرادات يهدد وحدة الأمة وكيان الدولة،.. يجب ألاّ ننسى بأننا وليومنا هذا نختلف ونتصارع على شكل الدولة، على هويتها وثرواتها وسياساتها وأنظمتها ومؤسساتها، بل نختلف ونتصارع على قضاياها السيادية من سياسة خارجية وحدود سيادية وعلم ونشيد وطني!! فهل نحن أمة وطنية حقيقية ترغب بتجاوز أزماتها وانتاج وحدتها الصلبة ضمن كيان دولة متماسكة وناجحة ومستقرة، أم نحن تكدس أمم متصارعة تبحث عن لبوس سيادي وتتنافس لنيل الثروة والسلطة على حساب بعضها بعضا؟

الحل أزمة

عندما تغيب الرؤية المشتركة لبناء الدولة، وعندما تغيّب الأسس الصالحة لإنتاج الدولة، وعندما تفتقد قوى الدولة إرادة الحل، وعندما يقل منسوب الولاء الوطني لصالح الولاءات العرقطائفية الفئوية الشخصية، وعندما تسود قيم الغنيمة والمصالح الضيقة،.. عندها تكون أية صيغة حل أزمة بذاتها، لأنها ستعبر عن رؤية ومصالح فئة دون أخرى.

ما لم يكن الحل بمستوى أزمة الدولة، بمستوى فشل أسسها ومعاييرها وبنيتها، وما لم تتوافر قوى ونخب بمستوى المهمة التاريخية لبناء الدولة، وما لم تستحضر عناصر الوعي والحكمة وتغليب المصالح العامة، فإنَّ أي حل مهما كان لا يعدو أن يكون مأزقاً بذاته، فلا يمكن إنتاج الحلول وإدراك مخارج الأزمات إلاّ على أساس من أرضية المشتركات ووفق الأسس المعيارية لبناء الدول وعلى يد نخب وطنية تستشعر مهامها ومسؤولياتها تجاه أمتها ودولتها وتاريخها.

من الأزمة ما قتل

ستقتلنا الأزمات، ستقتل الدولة وتجزء أمتها الوطنية ما لم ندرك الحل، سيما ونحن نعيش عصراً تحولياً نوعياً في تاريخ المنطقة، ونحن في أتون صراعاته وخضم تناقضاته وقلب محاوره المتضاربة بعنف وشراسة،.. لن نستطيع الحفاظ على دولتنا ومصالحنا ونحن مأزومون حد النخاع.

تحتاج الدولة العراقية لكتلة وطنية تاريخية قادرة على إدراك المأزق وتلمس الحل وابداع خارطة طريق انقاذية،.. وإلاّ فعلى العراق السلام.

 


 
 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter