| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

فائز الحيدر

 

 

 

الأثنين 6/9/ 2010

 

لقطات من الذاكرة (8)

مواقف لا تنسى في عتـق

فائز الحيدر

عتق مدينة صغيرة فقيرة في كل شئ ، ليس فيها وسائل لهو لقضاء وقت الفراغ ، لا أثر لوجود الحدائق العامة ولا الملاعب الرياضية والنوادي أو الأنهار وما يحيط بنا من كل الجوانب جبال قاحلة جرداء ذات لون بني تبعث الكآبة والحزن في النفوس ، ومع كل ذلك يحسدنا رفاقنا الذين يسكنون في المدن المجاورة لها على وجود دار سينما صيفية قديمة تعرض أفلاما" مر عليها عقود من الزمن ، ومع ذلك ورغبة في كسر الحياة الروتينية التي نعيشها يوميا" يصبح لزاما" علينا بين فترة وأخرى مشاهدة بعض الأفلام حتى ولو كانت قديمة يشاركنا رفاقنا القادمين من المدن المتباعدة في عطلة نهاية الأسبوع ، ورغم إن حرارة الجو لا تطاق نهارا" فمقاعد السينما المعدنية تكون باردة ليلا" ولا يمكن الجلوس عليها نتيجة المناخ الصحراوي البارد ليلا" في مثل الوقت من شهر تشرين الأول / أكتوبر من السنة ، ولتفادي ذلك كان كل منا يأخذ بطانيته معه ليضع نصفها على المقعد ويلف جسمه بالنصف الثاني لحماية نفسه من البرودة .

ومن الطرائف التي أتذكرها في تلك الفترة ، كان يتفق البعض منا للذهاب الى السينما والتمتع بمشاهدة أحد الأفلام العربية أو الأجنبية ، وبرغم من إنها قديم ولسنوات خلت ولكنها تعتبر حديثة بالنسبة لنا ، عادة ما كنا نجلس في الطابق الثاني المجاور لغرفة ماكنة عرض الأفلام حيث تربطنا علاقة جيدة مع مدير العرض وهو أحد طلاب المدرسة الثانوية ، بعض الأحيان كنا ندخل السينما بدون أن تكون لدينا فكرة عن الفلم لتلك الليلة هل هو عربي أو أجنبي ، والجميع يقول ندخل السينما ونشوف !!! وهدفنا قضاء الوقت وكسر الكآبة التي يعاني منها الجميع ، والمضحك وبعد بداية العرض ومرور فترة من الزمن قد تتجاوز النصف ساعة أحيانا" يلتفت إلينا الرفيق ( أبو جواد ) ويسأل :
ـ يا جماعة هل عجبكم الفلم ؟ فتأتيه الأجوبة
ـ لا بالطبع مو خوش فلم لو ندري كان ما أجينا الليلة !!!
عندها يذهب أبو جواد الى غرفة العرض حيث تتواجد العشرات من الأفلام على الرف ويختار أحدها ويرجوا من العامل تشغيل الفلم الذي أختاره بدل الآخر المعروض والذي تم عرضه ثلثه تقريبا" ، فيتجاوب العامل معه ويوقف الفلم ويفتح الأضوية لفترة الأستراحة وبعدها يبدأ بعرض الفلم الآخر الذي تم أختياره ، وفي نهاية العرض كان يتقدم إلينا بعض الأخوة اليمنيين متسائلين :
ـ هل فهمتم شئ من الفلم ؟ أشو القصة في البداية أختلفت عن النهاية كمان والممثلين أختلفوا ، شنو القصة ؟ عارفين شو القضية ؟
ونرد عليهم بإبتسامة خبيثة .... كعادتنا عندما نكون في حالة من عدم الراحة وتوتر الأعصاب ..
ـ أن الفلم الأول كان مقدمة لما سوف يتم عرضه في الأسبوع القادم .

رغم كون مدينة عتق عاصمة لمحافظة شبوة إلا إنها تفتقر الى أسواق بيع اللحوم والأسماك وما يتم تناوله من قبلنا هو لحوم المعلبات فقط ولا أثر للحوم الطازجة ، خصصت المحافظة للدكتور أبو ظفر وبحكم عمله بعض المواد الغذائية شهريا" وكمساعدة له ولعائلته ومعضمها من المعلبات مع نصف كيلو لحم بقر يوميا" وهذا إمتياز ينفرد به أبو ظفر ولا يمكن أن يحصله رفيق آخر ، ورغم قلة كمية اللحم هذه فكان أبو ظفر يقتسمه مع بقية الرفاق في البيت الآخر ، أو تقوم الرفيقة أم ظفر بعمل بعض الأكلات الشعبية البسيطة ومنها ( خبز عروك ) ومع ذلك فالأخوة اليمنيين يعلقون أحيانا" ( والله العراكيين مدلعين ، يعملون من اللحم خبز ) .

جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من أكثر الدول العربية تنوعاً باللهجات الجميلة ، بسبب تنوع تضاريسها وثقافتها وخلفيات سكانها . فهناك على الأقل ثمان لهجات مختلفة عن بعضها فلهجة أهل الجبال تختلف عن لهجة سكان السواحل والصحراء ، وتعتبر لهجة مدينة عدن الأقرب الى الفصحى ، لكون سكانها خليط بين أجناس و قبائل كثيرة فتجد العرب و الهنود و الأحباش و الصومال ، وبين اليمنيين أنفسهم تجد منهم من جاء من مدن تعـز أو يافع أو صنعاء أو وادي حضرموت ألخ ، هذا الخليط كون لهجة يمنية خاصة فيها من الهندية و الأنجليزية الكثير بسبب الإحتلال الإنجليزي لمدينة عدن والذي دام أكثر من 128 سنة ، و هي لهجة سهلة خفيفة سريعة النطق ، أما اللهجة اليمنية في مدينة عتق وعموم محافظة شبوة هي لهجة بدوية لقربها من جنوب المملكة العربية السعودية وعمان وأصبح من الواجب علينا تعلمها بسرعة .

كان جميع رفاقنا القادمين الى اليمن لا يجيدون اللهجة اليمنية ، وقد صادفتنا صعوبات وطرائف عديدة في حياتنا اليومية بمفردات اللغة ، ومن الطرائف التي واجهت الدكتور أبو ظفر في بداية عمله في عتق هو جهله لبعض المفردات في لهجة المنطقة القريبة الى البدوية ، فقد كان لا يفرق بين الكلمتين ( كُمبل وشمبل ( فالأولى تعني بطانية والثانية تعني نعال أبو الأصبع ، وفي إحد الأيام زارته أحدى الأمهات وهي تحمل طفلها المريض وبعد أن فحص الدكتور أبو ظفر الطفل وكتب له العلاج إلتفت الى الأم قائلا" :
ـ حافظي على الطفل من البرد وغطيه جيدا" بالشمبل .
وهنا فتحت الأم عينيها بتعجب وإستغراب وقالت ...
ـ أيش يعني يا دكتور أغطيه بالشمبل ؟ وهنا تدارك أبو ظفر الأمر وضحك وقال لها :
ـ أقصد الكُمبل ، أعذريني لهذا الخطأ لأني أجهل لهجتكم ، سأتعلمها في المستقبل .

مدينة عتق كأي مدينة يمنية تكثر بها المعز الجائعة والحمير والكلاب السائبة ، تجول في الشوارع والأزقة ليلا" ونهارا" وهي تبحث عن شئ تأكله في النفايات وأكوام المزابل ، ووصل الحال بتلك الحيوانات أن تبحث في كل زاوية من أزقة المدينة حتى وصل بها الجوع لأن تأكل حتى علب مسحوق التايد الكارتونية الفارغة ، وقد حدثني أحد الأخوة المسؤولين مرة ، إن الحكومة منعت قتل الحمير لكونها تهم الأمن القومي وتعتبر وسيلة لنقل المعدات العسكرية في فترة الحرب والأزمات ، وهذه الحماية الحكومية قد أدت الى تزايد عددها حتى أصبحت تسيطر على الشوارع بحثا" الطعام .

في إحدى الليالي كان الرفاق في دار التربية يغطون في نوم عميق كان أخي الشهيد سلام الحيدر يقوم بتصليح الأوراق الأمتحانية لطلبة الصف الرابع الثانوي في ساعة متأخرة من تلك الليلة ، في تلك الدقائق كسر السكون صوت وقع أقدام قرب الباب ، تكررت هذه الأصوات ، فظن إن هناك شخصا" يحاول دخول البيت في هذه الساعة المتأخرة من الليل ، هرع بهدوء الى المطبخ ولم يجد شيئا" يحمله سوى سكينا" كبيرة ومن خلف الباب أخذ ينادي عن الطارق لعدة مرات دون جواب وعندما فتح الباب لم يرى أمامه سوى حمارا" وقد دخلت أحدى رجليه في علبة فارغة ، ضحك كثيرا" وذهب الى فراشه ليحدث رفاقه بهذا الموقف المضحك ولتدخل هذه الحادثة في سجل حوادث عتق المضحكة.

في مثل هذه الظروف التي نعيشها في مدينة عتق الصحراوية لابد من البحث عن ما يسد لنا الفراغ القاتل أحيانا" وأن تكون علاقاتنا مع الجميع جيدة ، فكنا نبحث عن أية مناسبة لكي نحتفل بها وننسى التعب والهموم ولنمتع أنفسنا بساعات هادئة . وبما إننا في شهر تشرين الأول / أكتوبر فقد أقتربت ذكرى ثورة أكتوبر الأشتراكية ، وقد تعود الشيوعيون على الأحتفال بها سنويا" ، ووجدنا إنها فرصة مناسبة للأحتفال بها هنا في في عتق ، إجتمع شمل كافة الرفاق في ذلك اليوم وتم دعوة بعض الأخوة اليمنين والكوبيين والسوفيات الذين يعملون كمستشارين في القاعدة الجوية في المدينة لتناول طعام العشاء في ذكرى الثورة .

بلغ عددنا أكثر من ثلاثين شخصا" ، ولكن يواجهننا السؤال ما هو الطعام الواجب تحضيره للضيوف والمدينة تعاني من شحة المواد الغذائية وخاصة اللحوم والأسماك ؟ طرح بعض الرفاق إفكار عديدة ولكنها غير قابلة للتنفيذ ، فالأسواق تفتقر الى الأسماك واللحوم والخضروات ، لا يتوفر لدينا سوى المعلبات وهي بكل الأحوال غير كافية ، فما هو الحل إذن ؟

إقترح بعض الرفاق الذهاب الى مدينة ( بئرعلي ) حيث تتواجد التعاونيات السمكية ومنها يمكن الحصول على أنواع مختلفة من الأسماك الطازجة ، وبئر علي مدينة ساحلية وميناء صيد على طرف الخليج وتتبع إدارياً لمحافظة شبوة وتبعد حوالى 250 كم عن مدينة عتق ويحتاج للوصول أليها أربع ساعات على الطريق الصحراوي ،

تمتاز المدينة بشواطئها الجميلة ذات المياه الزرقاء والرمال الذهبية ، لذا تعتبر من أجمل شواطئ اليمن بالإضافة إلى آثارها التاريخية ومنها ، مرتفع بركاني يعتقد إنه ناتجا" عن انفجاراً بركانياً كبيراً قد تعرضت له هذه المنطقة في الأزمنة الجيولوجية السحيقة نتج عنها هذا التشكيل التضاريسي الجميل تعلوها بحيرة كبيرة ، وهو الأن مكان الميناء القديم ( قنا ) الذي يعتقد إنه الميناء الرئيسي لدولة حضرموت اليمنية القديمة .. ويعرف هذا المرتفع البركاني بـ( حصن الغراب ) وفيه اثار لبرج مراقبة خاص بالميناء وصهاريج مياه ، وأطلال قديمة وخرائب مبنية من أحجار الصخور الجبلية والأسمنت الحجري ، كتابات أثرية ومعبد ديني قديم ، ومباني موغلة في القدم وبأشكال هندسية وفنية ومختلفة .

تطوع ثلاثة من الرفاق للذهاب الى هناك وتحقيق المهمة ، غادروا في الصباح الباكر ووصلوا بئر علي عند الظهر ولكن مع الأسف لم يحصلوا على مبتغاهم بسبب شحة الصيد في هذه الأيام ولم يكن أمامهم أختيار غير الأستماع لنصيحة الصيادين وشراء ما يتوفر لديهم وعادوا به إلينا قبل الغروب ، وقفت السيارة أمام المستشفى وهرعنا أليهم فرحين للمساعة على إنزال ما حصلوا عليه من أسماك ، ولكن كم كانت المفاجئة عندما رفعنا القماش الذي يغطي السمك الموعود لنرى كوسج كبير ( سمك القرش ) يقارب طوله المترين ويسميه اليمنيون بـ ( اللخم ) ممدود في حوض البيك آب ، فرح البعض منا وأنزعج البعض الآخر الذين كانوا يعتقدون إن أكل هذا النوع من السمك من المحرمات في الدين الأسلامي ، يعتبر اللخم وجبة غذائية لذيذة ومتعارف عليها في المجتمع اليمني خاصة في محافظات عدن وحضرموت وشبوة والمناطق البعيدة عن سواحل البحر والتي تعاني من شحة في الأسماك ، كون اللخم يحتمل النقل والتخزين لفترة طويلة ، عادة ما ينظف اللخم من الأحشاء والرأس ويقطع ويباع بالكيلو في أسواق السمك ويأكل وهو طازج ، أو يملح ويجفف فوق أسطح المنازل تحت أشعة الشمس ويحفظ لأشهر لاحقة أحيانا" وهو ما يسمى لدينا في جنوب العراق ( المسموطة ) ، وتتفنن العوائل اليمنية بطبخه وبأشكال عديدة وطرق متنوعة أشهرها مع الرز.

ليس لدينا متسع من الوقت فأمامنا ساعات قليلة لموعد حظور الضيوف ، تعاون الرفاق على تقطيعه ، وتم أختيار ما يمكن شويه بفرن الطباخ وتم قلي بعض قطعه بالدهن ، ولكبر حجم الرأس والذيل فقد تركا إلى اليوم الثاني ليتم تناوله من قبل المتواجدين ، كان إحتفالنا بهذه المناسبة فرصة عظيمة للحديث وتبادل الآراء والغناء وفرصة لا تعوض للرفاق الذين لم يذوقوا طعم لحم ( اللخم ) اللذيذ خاصة رفاقنا وضيوفنا السوفيات .


الهوامش ـــ
1 ـ بلقيس الربيعي ( أم ظفر ) ، يوميات عتق والشهيد أبو ظفر ، الحوار المتمدن - العدد: 2125 - 2007 / 12 / 10
2 ـ أبو ظفر .. هو الدكتور الشهيد محمد بشيش حسين الظوالمي من محافظة السماوة .
3 ـ الصورة العليا لمدينة عتق أيام زمان .
4 ـ الصورة السفلى المرفقة لمدينة بئر علي .
 

 

لقطات من الذاكرة (7) - البساطة والتواضع والتضحية في مدينة عتـق
لقطات من الذاكرة (6) - الحيـاة في مدينـة عتــق
لقطات من الذاكرة (5) - التوجـه الى مدينـة عتـق
لقطات من الذاكرة (4) - الوصول الى عـدن
لقطات من الذاكرة (3) - التوجـه الى مدينـة روســا
لقطات من الذاكرة (2) - مغـادرة أسطنبول إلى صوفيا

لقطات من الذاكرة (1) - مغـادرة الوطـن



كندا /2010



 


 

free web counter