| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

فائز الحيدر

 

 

 

السبت 28/8/ 2010

 

لقطات من الذاكرة (5)

التوجـه الى مدينـة عتـق

فائز الحيدر

قاربت الساعة منتصف الليل ، الرفاق في المنظمة مشغولين بتوزيع الرفاق على بيوت عديدة ، وقع إختياري على بيت إبن العم صلاح الحيدر الذي يسكن مع عائلته في المجمع السكني في حي المنصورة الجديدة ، هذا الحي السكني الذي شيدته قوات الأحتلال البريطاني عام 1962 ليكون حي سكني للجنود البريطانيين ولكن بعد الأستقلال وخروج القوات البريطانية من اليمن وزعت شقق الحي على صغار الموظفين وأصحاب الدخل المحدود.

دخلت شقة إبن العم صلاح وسط الترحيب بعد أن فارقتهم في بغداد منذ سنوات عديدة وكنت أتوقع أن أجد لي مكانا" مريحا" للنوم بعد التعب والأرهاق الذي رافق رحلتنا الطويلة من مدينة روسا البلغارية وحتى عدن ، ولكني فوجئت بغير ذلك ، فالشقة مكونة من غرفتين صغيرتين وتقع في الطابق الأرضي لعمارة سكنية مكونة من ثلاثة طوابق ، تسكن إحدى غرفها عائلة الأخ صلاح المكونة من خمسة أشخاص والغرفة الثانية يسكنها أخيه صارم الحيدر مع زوجته وهناك على الأقل ستة من الأقارب يفترشون صالة الأستقبال الصغيرة وهم غارقين في نوم عميق جنبا" إلى جنب وكأنهم في قاعة أحد السجون العراقية ، ومنهم علمت إن أزمة السكن وأنقطاع التيار الكهربائي لعدة ساعات يوميا" في عدن تعتبر من الأزمات العصية عن الحل نتيجة للتطور الكبير الذي تمر به الجمهورية الفتية ولكثرة الوافدين أليها من العرب والأجانب للعمل في القطاعات المختلفة . لا أدري كيف وجدت مجال لأضع بطانيتي بين الآخرين وسط السنفونيات المختلفة الصادرة من غالبية الراقدين ، ولتجنب تلك السنفونيات والحرارة وارطوبة العالية فضلت النوم في اليوم الثاني مع بعض الأخوة في الساحة الأمامية للعمارة بحثا" عن الهواء البارد ونقضي ليلتنا بالدردشة والنكات ولغاية الصباح الباكر .

كان الوافدون الى اليمن من مختلف الأعمار والشهادات والمراكز الوظيفية ، ولم يكن غريباً في ذلك الوقت رؤية رفاقنا العراقيين نساءا" ورجالا" في الأسواق والمنتزهات ودور السينما والشوارع في أحياء عدن وخاصة منطقة التواهي والمنصورة وخور مكسر وعدن الصغرى وحي كريتر وكازينو نشوان الواقع على البحر، كما وأعيد التنظيم الحزبي بشكل جيد ، وتوزعت الأعمال ، فتشكلت الفرق المسرحية و( فرقة الطريق ) الغنائية التي ساهمت بالكثير من النشاطات الفنية والغنائية في داخل اليمن وخارجه لوجود الكثير من الفنانين مثل الفنان فؤاد سالم والملحن المبدع المرحوم كمال السيد والمطرب سامي كمال والفنان حميد البصري وزوجته شوقية والمبدع الشهيد النصير أبو شمس والفنانة ثرية والفنان العراقي جعفر حسن وعازف الأيقاع حمودي عزيز وآخرين ، حيث كانت فرقة الطريق تصدح بأغانيها في كافة المناسبات العراقية واليمنية والتي أصبحت على لسان كل مواطن يمني وعراقي... ولا يمكننا أن ننسى تلك الأغاني ومنها .. ( لا له وطنة لاله ) ، و ( بغداد شمعة ) و( شيلي تمر بالليل نجمة بسمانا ) و ( يابو علي ) و (مكبعة رحت أمشي يمة ) ، و ( راح المطر .. أجه المطر وأحنا بلا حبيبة ) و (لا .. لا .. أبو المواني) وأغاني أخرى أطرب لها الجمهور اليمني ، والذي كان يستمع اليها لاول مرة . أما في المجال المسرحي فقد تم تقديم عدة مسرحيات على قاعة المسرح الوطني في منطقة التواهي كان لها صدا" كبيرا" في عموم اليمن ومنها مسرحية ( مغامرة رأس المملوك جابر ) للكاتب ( سعد ونوس ) ، مثلها المسرحيون صباح المندلاوي ، صلاح وسلام الصكر ، أنوار البياتي ، أسماعيل خليل وغيرهم الكثير ، كذلك تم تقديم مسرحية العملاق للكاتب ( جوهر مراد ) ومسرحية إمرأة من هذا الزمان ومسرحية الليالي البيضاء .

في اليوم الثاني لوصولي إلى عدن زارنا ممثل منظمة الحزب المرحوم ( معن جواد ) وأبلغني ضاحكا" إن الضيافة العربية لا يمكن أن تستمر أكثر من ثلاثة أيام وعليك الأستعداد للذهاب الى مدينة ( عتق ) عاصمة محافظة ( شبوة ) يوم غـد ، لوجود فرصة عمل لك هناك في مجال أختصاصك في القطاع الزراعي وسيقوم رفاقنا هناك بتذليل كافة العقبات التي قد تواجهك ، تقع مدينة عتق على أطراف صحراء الربع الخالي المحاذي للحدود مع المملكة العربية السعودية حيث يعمل غالبية رفاقنا هناك في حقل التدريس والطب وغيرها ، وبعد نقاش عقيم وطويل حاولت إيجاد بديل آخر قريب لكن محاولاتي باءت بالفشل فرضخت للأمر وإستعديت نفسيا" لتلك الرحلة التي توقعت بإنها ستكون شاقة .

في تلك الفترة كانت عدن تعاني من أزمة سكن كبيرة لذلك كانت كل عائلتين أو أكثر تسكن في بيت واحد ، أما العزاب فيشترك ستة أو ثمان منهم وحتى عشرة أحيانا" في بيت ، وللتخفيف من أزمة السكن تم الأتفاق مع الحكومة اليمنية على توزيع العراقيين على المدن اليمنية المتباعدة التي يرفض الكثير من اليمنيين العمل بها لبعدها عن العاصمة ولقلة الخدمات فيها .
ونظرا" لعدم وجود خط باصات مباشر الى مدينة عتق فكان لزاما" علينا أن نستقل الباص المتوجه الى مدينة المكلا عاصمة حضرموت ، ومن ثم النزول في منتصف الطريق عند مفرق طريق عتق والأنتظار لفترة لا نعرف مداها وقد تطول عدة ساعات لكي نحصل على سيارة تقلنا الى هناك .

ينطلق الى المكـلا باصين يوميا" أحدهما في الساعة السابعة صباحا" والآخر في منتصف النهار ، أخترنا الموعد الأول لطول المسافة التي تنتظرنا وعلينا الوصول الى عتق قبل غروب الشمس حيث تنعدم حركة النقل بعد هذا الوقت لوعورة وخطورة الطريق الجبلي المؤدي الى المدينة . توجهت صباحا" مع أثنين من الرفاق إلى محطة الباصات في حي الشيخ عثمان المجاور لحي المنصورة الجديدة حيث عشنا الأيام الثلاث الماضية .

تحرك الباص في الساعة السابعة والنصف وأنا وبقية الرفاق في وضع نفسي سيئ ، لا نعرف كيف ستسير حياتنا هناك ما هو مستقبلنا فيها ؟ ، هل نعرف الرفاق المتواجدين فيها ؟ ما هي فرص العمل المتوفرة هناك ؟ وكم ستستغرق فترة عملنا فيها ؟ وفيما لو حصلت شخصيا"على عمل كيف أستطيع أن أدعو زوجتي للخروج من العراق وأقنعها لترافقني الى هذه المدينة الصحراوية المنعزلة عن العالم ؟ هؤلاء هم الشيوعيين العراقيين ، لقد كسروا الحواجز وضحوا بالكثير من راحتهم وصحتهم وقاموا بعملهم خير قيام لبناء دولة اليمن الديمقراطية الشعبية في الوقت الذي كان الأخوة اليمنين لا يفضلون العيش في تلك المدن ، عمل الشيوعيون في قرى متباعدة جدا" في وديان الجبال وفي أجواء صحراوية جافة ولعدة سنين ، صعوبة في السكن ، أزمة في المواد الغذائية ، شحة في الماء والكهرباء ، قلة في الرواتب ، ومع ذلك فهم سعداء بما قدموه وحازوا بذلك على شكر وإمتنان الشعب اليمني وحكومته التي لم تبخل بمساعدتهم أيام محنتهم .

بعد مرور ساعتين في الطريق الصحراوي المحاذي للبحر وصلنا الى مدينة (زنجبار) عاصمة محافظة أبين حيث تصب بالقرب منها عدد من الوديان لتشكل ما يعرف بـ « دلتا أبين » والتي تعتبر أخصب الأراضي الزراعية في اليمن ، ويخترق محافظة أبين طريق أسفلتي يمتد مئات الكيلو مترات من عدن في الغرب الى محافظة شبوة في الشرق وعبرها حتى المكلا على شاطئ البحر العربي ، ومن هذا الطريق هناك طرق فرعية تنتهي بمدن جعار ، لودر ، شقرة ، مكيراس وغيرها وفي جميع هذه المدن تجد لدينا رفاق عراقيين يعمل غالبيتهم في مجال التدريس ويلتقي بعضهم البعض أحيانا" في المناسبات أو في العطل الرسمية .

بدون توقف واصلنا طريقنا في الطريق الصحراوي نحو المكلا ، وبمرور الوقت بدأت الحرارة والرطوبة بالأرتفاع التدريجي التي تسبب عدم الأرتياح لجميع الركاب وحتى وصولنا الى الطريق الساحلي المشرف على البحر والذي شيدته أحدى الشركات الصينية ، منظر البحر جميل بمياهه الزرقاء وأمواجه الهادئة وحيوانات الدلفين التي تقفز بين الحين والأخر وكأنها تطارد الباص الذي نستقله ، بينما يواجه هذه المشاهد على الجانب الأيسر من الطريق جبال شاهقة جرداء سوداء اللون ، تعلو بعضها فوهات بركانية خامدة منذ قرون وتحول سطح بعضها الى بحيرات نتيجة تجمع مياه الأمطار داخلها وتحولت الأرض المحيطة بها الى أرض سوداء بسبب الصخور البركانية المتساقطة .

ما بعد الظهر وبعد خمس ساعات من السير المرهق وصلنا الى مفترق مدينة عتق ، توقف الباص جانبا" وأخبرنا السائق بالنزول وأنتظار سيارة تقلنا الى هناك . نزل معنا راكب آخر طاعن في السن من الأخوة اليمنيين له نفس وجهتنا وفرحنا لذلك لكونه سيكون دليلنا طيلة الطريق ، الحرارة لا تطاق ، ليس هناك محطة لوقوف السيارات أو أي شئ يمكن الوقوف تحته يقينا من حرارة الشمس المحرقة ، قضينا الوقت نتبادل الحديث مع الأخ اليمني ونبحث عن المزيد من المعلومات عن طول المسافة الى عتق وطبيعة الحياة فيها والطريق الذي سنمر فيه. وعلمنا منه أن الطرق وعر جدا" ويتجاوز طوله 250 كم أي يحتاج الى حوالي أربع ساعات لقطعه سياقة .
لحسن الحظ لم يدم إنتظارنا أكثر من ساعتين على الطريق العام حتى وقفت أمامنا سيارة جيب رباعية الدفع قديمة متوجهة الى هناك ، ركبنا جميعا" في المقعد الخلفي بعد أن وضعنا حقائبنا فوق أرجلنا لضيق المكان وتحركت السيارة بنا فورا" بطريق جبلي ضيق ووعر مملوء بالحفر والمطبات صعودا" ونزولا" ، كان علينا أن نقف جانبا" عند مواجهتنا لسيارة قادمة من الجهة المعاكسة ويلازمنا الخوف عند النظر أليها وإطاراتها لا تبعد سوى بضع سنتمترات عن حافة الطريق وأي خطأ تكون نتيجته السقوط في الوادي السحيق .

قرى صغيرة هنا وهناك مبعثرة ومكونة من عدة بيوت تحيط بها بعض محاصيل الذرة الصفراء وعلف الحيوانات ، بيوت بنيت من الطين أو من الحجر الأسود على قمم بعض الهضاب عادة ما تكون قد بنيت من قبل الأقطاعيين وكبار الملاكين قبل الأستقلال ولا أدري كيف يصل أليها ساكنيها بدون وجود طريق واضح يصل أليها ، خرائب لأثار قديمة نشاهدها بين فترة وأخرى تدل على حضارات قديمة مندثرة لم تهتم بها الدولة ، رايات مختلفة الألوان وضعت فوق بعض البيوت المهدمة يقال إنها أضرحة لرجال دين قدماء لا أحد يعرف أسمائهم ، جبال شاهقة ، تلال وهضاب ، أودية خصبة تفتقر الى الأشجار ، بيوت مبنية من الطين وعلى الطريقة اليمنية القديمة مبعثرة في الوديان ، تتخللها طرق ترابية تثير زوبعة من التراب خلفنا عند المرور بها .
بعد مرور أكثر من ساعتين من السير إنتبه السائق إلى إننا توقفنا عن الحديث معه ودخل كل منا في خلوة مع النفس حيث تمر في نفس كل واحد منا سلسلة من الأفكار والذكريات وأخذت أدندن مع نفسي .
جنة ... جنة ... جنة ..
والله يا وطنه ، يا وطن يا حبيب ...
يا أبو تراب الطيب ...
حتى نارك جنة ....... وللربع الخالي وصلنا ...... وللربع الخالي وصلنا... بعد شتريد يا وطنه !!!


 

لقطات من الذاكرة (4) - الوصول الى عـدن
لقطات من الذاكرة (3) - التوجـه الى مدينـة روســا
لقطات من الذاكرة (2) - مغـادرة أسطنبول إلى صوفيا

لقطات من الذاكرة (1) - مغـادرة الوطـن



كندا /2010



 


 

free web counter