|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  17 /5 / 2015                                 فرات المحسن                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

كارل ماركس في العراق
(1)

فرات المحسن

التحضير والوصول

الرسالة تبدو واضحة وضوح الشمس في هذا اليوم المشرق، هكذا فكر كارل ماركس وهو يعيد قراءة مضمون الرسالة التي وصلته من بعض مريديه في العراق . دعوة صريحة وكريمة لا لبس فيها، تظهر حاجتهم لوجوده بينهم في العراق، وتستعرض الرسالة بفيض من العبارات المشوقة والمشجعة الغرض من الزيارة، وفي مقدمتها رغبة حقيقية من المشايعين في الوصول لمعرفة متكاملة عن طبيعة الأحداث ومقارباتها من خلال تحليل نظري مطابق وسليم للواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي الحاصل في العراق.وهم يعتقدون وهذا هو الصواب، بان منهجية تحليلاته وبمقاربات المادية الجدلية والتاريخية، سوف تظهر بصورة جلية طبيعة الحدث العراقي ، مسبباته ووقائعه ثم مخارجه وأيضا استخلاص النتائج وتقديم الحلول.

في الرسالة شيء من طلب غريب، لم يعره ماركس اهتماما جديا بادئ الآمر، بل وبشكل أولي فكر بإبعاده عن تفكيره في الوقت الحاضر على الأقل، فدراسة كتب الدكتور علي الوردي مثلما يطلبها منه مريدوه العراقيون، لن تكون بذات جدوى لملامسة الحدث اليومي وتحليل الواقع العراقي في الراهن من الوقت، وفي أجواء الرأسمالية المتوحشة التي تغلغلت في حياة الكثير من شعوب الأرض. فالموضوعة بوقائعها وطبيعتها العامة، لها مقاربات وتداخلات ومتجاورات ومتضادات، تتطلب الغوص في أبعاد مكنوناتها بروية وأناة، دون المجازفة والعجالة والتسطيح . لا بل أن بعض الإشكالات تتقاطع حتما وفكر علي الوردي ومنهجيته بالتحليل. هكذا خطر في بال ماركس وهو يقلب الرسالة ثم يدسها في جيب بنطاله. ورغم عدم اطلاعه على تحليلات ورؤى المكنى بالدكتور علي الوردي ، فأنه لم يترك لهذا الآمر أن يشغله طويلا، لذا اتصل هاتفيا بزميله فردريك أنجلز الذي يعيش في الطرف البعيد من مدينة لندن وطلب منه معلومات كاملة عن العراقي علي الوردي، فزوده فردريك بمعلومات موجزة عن مجموعة أسماء لشخصيات بحثية عراقية تشترك جميعها باسم علي ، اكتفى كارل بانتقاء شخصيتين منها،يبدو أنهما باحثان اجتماعيان قبل أي شيء أخر، واكتفى بسيرتيهما الموجزة وأهمل الباقين، بعد أن تيقن بأن حيرته في الآمر ليست أكثر من حيرة فردريك في هذا المضمار، وقرر أن يجهد مستقبلا للتعرف على شخصية علي الوردي بتفاصيل أخرى من خلال مريديه حين يصل بغداد.

الرسالة التي وصلته كانت واضحة وشاملة، لم تهمل حتى الأشياء والمستحقات الصغيرة وهذا ما جعله يغمط مريديه دقتهم ومنهجيتهم في الإعداد والترتيب لرحلته القادمة إلى بغداد،وحسب هواه وطبيعته المنفتحة والمؤمنة بقيمة الإنسان وفطرته الطبيعية الطيبة، فقد ابعد عن ذهنه مطالبتهم في الوقت الحاضر بأجور رحلته واكتفى بالرضا من تعهدهم بدفع جميع مستحقات الرحلة له حين وصوله إلى بغداد.

لثلاثة أيام شغل ماركس تفكير عميق وهو يلملم حاجياته. وضع جهاز الكومبيوتر في حقيبته الصغيرة وأعد حقيبة السفر الكبيرة، وضع فيها ملابس تكفي لفترة عشرة أيام .

عشرة أيام تكفي وسوف لن يضيع فيها وقته.هكذا حدث نفسه. من الطبيعي إن مشايعيه قد استعدوا لزيارته استعدادا جيدا، وسوف يقدمون له من الاستبيانات والإحصائيات والوقائع ما يغني عن جهد كبير عليه أن يبذله في محاولات التحليل والاستنتاج لواقع الحدث في العراق، هذا ما خطر في باله وهو يضع بعناية وخفة ربطات العنق المنتقاة من قبل رفيقته روزا جوار بدلته الكحلية وقمصانه الصيفية الخمسة بألوانها المختلفة. دس تحتها ملابس داخلية ومنشفة وساعة منضدية اعتاد أن ترافقه في مختلف سفراته وتجواله خارج أقامته وسط العاصمة البريطانية الصاخبة، بعد أن أتخذها مجبر دون تردد مقرا لسكناه، بعيدا عن أجواء الكراهية التي واجهها في بلده ألمانيا. لم يهمل أو ينسى أن يضع قنينة العطر التي أهديت له قبل أسبوع مضى عند احتفالهم بعيد ميلاده الذي يحفظه الكثير من الرفاق ويهمله هو عن عمد. وضع جوارها تحت الملابس قنينة المطهر البلاستيكية، ربما لن يجد في العراق ما ينفع لتطهير الأكف. هذه واحدة من مصائب الرأسمالية المتوحشة، هكذا فكر كارل في الآمر، مطارات العالم بدأت تأخذ الاحتراز الشديد والحذر والتحوط، وتمنع ركاب الطائرات، وبحجة الحذر والتوجس من الإرهاب، أن يصطحبوا معهم حين يصعدون إلى الطائرة ، قناني العطر أو أي علبة سوائل أخرى وحتى أدوات حلاقة أو الملاعق والسكاكين والقداحات، بدعوى أن ذلك يمنع احتمال تعرض الركاب أو الطائرة لعمليات خطف أو تهديد بالتفجير . هكذا هي الرأسمالية الخائفة المرتجفة بعد أن حققت أعلى مراحلها الامبريالية، باتت اليوم ترتجف من وليدها المشوه القاتل الذي ولدته سفاحا بعد اغتصاب خيرات الشعوب. على أية حال حقيبة السفر كبيرة وتتسع للكثير، ولن أحمل معي في الطائرة سوى جهاز الكومبيوتر وحقيبة اليد واكتفي بأخذ كتابين مهمين من الجائز أن أجد فيهما ما ينفع أو ينشط في ذهني بعض الأفكار والدالات، هذا ما دار في خلده وهو يقوم بترتيب حاجياته في جوف الحقيبة.

الكتاب الأول الذي فكر بحمله، كان بعنوان المتخيلات الاجتماعية الحديثة لشارلز تايلر، فهو وبمحتوى جدا راقي وذكي يتحدث عن تشكيل الهوية الوطنية، ومنابع الذات والحداثة والعولمة والدين، عبر فكرة المتخيل الاجتماعي ، هذا سوف أنتفع منه في استنباط الطرق لمعرفة الكيفية التي يتخيل فيها شعب ما الحال الذي عليه، ربما الشعب العراقي يقارب معرفة وجوده الاجتماعي أن تطابق ذلك مع الوقائع والحراك اليومي والعام للعراقيين. أيضا سوف أحمل معي كتاب المجتمع الشبكي The network Society لدارن بارني الذي يتحدث فيه عن اقتصاد المعرفة والعولمة، وحال الدولة القومية والثقافة والجماعة، ومعنى العمالة والبطالة في العصر الرقمي. تلك جميعا سمات مشتركة لجميع شعوب العالم. هكذا حدثته نفسه تلك الساعة وهو يقلب مجموعة الكتب فوق المنضدة التي تتوسط الغرفة ذات الأثاث المزدحم والمرصوف بغير عناية.

بقناعة نافذة تيقن أن دارن بارني وشالز تايلر يتوصلان في آن واحد وبخطوط مشتركة رغم تباينهما في الاتجاه، إلى اكتشاف تلك السمات التي تبلورت كفكر متجدد يفرض نفسه لتحليل المسيرة التاريخية للرأسمالية ونتاجها المتبلور في العولمة المتوحشة التي قلبت موازين أعراف الحياة العامة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية وفي المقدمة منها السمات والهياكل الثقافية، وباتت الكثير من شعوب العالم تترك مصائرها للمجهول، وتفقد سماتها العادية والمألوفة لصالح تشكيلات متوحشة تدفع بها وتحيطها بالخوف والاضطرابات. فالأسواق المفتوحة وهيمنة الشركات الكبرى وعمالة الفقراء والنساء المستلبات والأطفال ، والتفاوت الطبقي والتهديد اليومي للرعاية الاجتماعية وتخريب البيئة والتلوث وهيمنة ثقافة الابتزاز والربح والتسطيح الفكري.

ليس هناك أدنى شك بأن كتاب دارن بارني سوف يمتعني جدا بمحتواه. وهو يحاور نفسه راح ماركس يضغط ويفرك الإبهام في يده اليسرى ، وتلك عادة يمارسها حين يضغط عليه التفكير وتدور في رأسه الرؤى والحسابات المتسارعة، وقد اكتسب تلك العادة جراء القلق والتوتر الدائمين الذي عاشهما طيلة حياته وبالذات خلال الضغط المتولد على النفس أثناء البحث والتحليل وتكثيف الأفكار حول وحدة صراع المتناقضات وقانون نفي النفي، وأيضا العمل المعرفي المضني في محاولة مقاربة وتحليل تحول الكم إلى كيف، والبحث في المسيرة التاريخية والتطور الحتمي للبشرية، وفق المنطق الجدلي وبالأدوات الثورية وتلك أس النظرية الشيوعية العلمية التي وضعها مع صديقه الوفي فردريك . راح ماركس في صمت طويل ينظر لأرضية الغرفة ساهما يحدث نفسه عن طبيعة العولمة المتوحشة التي أستعرضها وفصلها دارن في كتابه وكيف انه يقاربه بالفكرة وفي الكثير من الاستنتاجات والمخارج.

وضع حقيبة السفر جوار السرير وتركها مفتوحة، فهناك احتمالات كثيرة واردة، ربما تتطلب منه وضع بعض الحاجيات التي سوف يحتاجها خلال العشرة أيام التي عليه أن يقضيها في العراق. لحد الآن لم يفكر بجلب هدايا لمريديه ومشايعيه في العراق، وقد أبعد عن ذهنه مثل هذا الآمر، فهو لا يعرف عنهم شيئا محددا. لا عن طبيعتهم وطباعهم، و لم يشاهدهم أو يلتقي بهم، وهو بالمطلق لا يملك أي تصور عن أحجامهم وأشكالهم وأذواقهم ورغباتهم، سوى حديث عابر لبعض الأصدقاء عن المظهر الخارجي للعراقي وبعض طباعه العامة، وكان الوصف غير مجدي وليس محببا بل كان منفرا ومزعجا. ولذا لن يجازف حتى بشراء قناني عطر من النوع الرخيص لتقديمها هدايا لمستقبليه في مطار بغداد الدولي، وهو وفي حقيقة الآمر غير ميال لتبادل الهدايا ولا حتى لمثل تلك البروتوكولات والمجاملات التي يجدها غير مجدية ومنافقة في بعض الأحيان، ويعتقد أنها تكريس لتقاليد برجوازية ليس إلا.

قضى يومه في البحث عبر جهاز الكومبيوتر بين مواقع كثيرة منها الموسوعة الحرة ويكيبيديا وكذلك غوغل لعله يجد فيها ما ينفعه ويساعده خلال رحلته أو جولاته في مدن العراق. وجد الكثير من المعلومات المشوشة والمربكة، لا بل كانت هناك معلومات متضاربة ومتضادة لا يمكن للمرء معها أمساك الحقيقة. أصيب بالدهشة والحيرة وهو يطلب بعض المعلومات عن بغداد كمدينة. ففي خارطة لموقع غوغل وجد إن اسم المطار يظهر في بعض الأماكن باسم مطار صدام، ثم يظهر في موقع أخر باسم مطار بغداد الدولي. وقد اضطر أن يجدد البحث لمرات عديدة في محاولة لمعرفة عدد المطارات الدولية في العاصمة العراقية، فلم يجد غير هذا المطار، ومطار أخر اندثر منذ زمن بعيد وكان باسم مطار المثنى. ولكن حيرته تحولت إلى إرباك حين بحث في طبيعة أحياء مدينة بغداد ومحلاتها، فظهر له احد أحيائها الكبيرة مرة باسم مدينة صدام ثم مرة أخرى باسم مدينة الصدر وفي خارطة ثانية كان اسم ذات الحي مدينة الثورة ومن ثم نال في أعوام مضت تسمية الرافدين. أصابته الحيرة وهو يقلب الصفحات بحثا عن ثبات هوية لمدينة لا يستقر أسمها على حال، وتساءل عن السبب والدوافع لتلك التغيرات. أيعني هذا أنه أمام مزاج متقلب أو مشاعر وعواطف مرتبكة مصابة بعِصاب وهلوسة اجتماعية سياسية،أم أنها ظاهرة ناتجة عن عوامل قسر وترويع بسبب تنافس وصراع داخل أحياء تلك القصبات والمدن. أم هناك ظروف قاهرة خفية تضطرهم للتمويه ومن ثم اختيار أسماء مختلفة لمكان جغرافي واحد. أم تراه حالة من تماهي الخائف مع جلاده. ومع استمراره في البحث والتقصي وجد أن هذه التغييرات والتحولات ليست مقتصرة على مدينة بغداد وإنما تطال الكثير من مدن العراق وأحيائها.

* * * * * *
حطت الطائرة فوق مدرج مطار بغداد الدولي. كانت الساعة تشير إلى الثانية ظهرا من يوم جاف في شهر تموز. خارج نافذة الطائرة القريبة منه بدت ساحة مكشوفة يتقاذف الهواء فيها بقايا أكياس بلاستيكية وأوراق صحف. بدت ملامح بناية المطار غير واضحة بسبب الغبار الكثيف الذي ينم عن طقس عاصف ملبد بالتراب.كان يوما عاديا من أيام قيض العراق اللافح.

قبل أن يخمد هدير محركات الطائرة تصاعدت ضجة بين الركاب وكان وقعها عليه كبيرا: الله مصلي على محمد وآل محمد.سمع هدير الجملة يتصاعد ويتردد بنغمات مختلفة في أحشاء الطائرة ، كررها بعض الركاب ثلاث مرات مع مط نهاية الجملة بنغمة خاصة. مقدمة لم يستحسنها ماركس وبدت وكأنها تحدا لمشروعه أو هي استفزاز مقصود لشخصه،فهمس سرا وكأنه يحدث نفسه، الدين هو عجز العقل البشري على التعامل مع حوادث لا يمكن فهمها، ولا حظ وهو يلوك حيرته، أن هناك من يرفع عن عمد كفه ويفتح أصبعيه علامة النصر، فتساءل مع نفسه هل يعني لهم هبوط الطائرة انتصار، أم هو المعني بتلك الإشارة.

فُتح باب الطائرة فاندفع هواء حار داخل جوفها . صاح شخص كان يجلس ليس بعيدا عن مقعد ماركس ، واوو... ما هذا الدفيء يا الهي، أنها شمس الوطن وحرارته التي تبعث النشاط والحيوية في الروح. تبسم له ماركس كأنما يشاطره القول، وشعر ببعض الاطمئنان حين تلاقت عيناهما.فالوطنية عنده تتبدى في كل ما يفعله أو يظهره المرء. وقف أغلب الركاب في الممر وراحت الأيدي تتسابق مسرعة في محاولة سحب الحقائب من الرفوف. تقدم البعض مسرع نحو مقدمة الطائرة ولكن فجأة سمع صوت المضيفة وهو يرتفع ويطلب من الجميع العودة إلى مقاعدهم والبقاء فيها لحين ورود معلومات أخرى. راح البعض يتململ ويثرثر في بداية الآمر بصوت مكتوم، وآخرون يشتمون ويصرخون ويتذمرون من الحر.أستمر الحال لما يقارب النصف ساعة دون أن يبرر للركاب بقائهم وعدم مغادرتهم الطائرة . أصبح الوضع لا يطاق مع بكاء الأطفال وصراخ البعض وهذيان العجائز وشتائم الشباب وسبابهم على سلطة رئيس الوزراء ووزير النقل والبرلمان، لا بل كانت كمية الشتائم تغطي وتطال جميع من هو مشارك في السلطة. كان ماركس يدير رأسه في جميع الاتجاهات يراقب حركة الركاب ويستمع لأحاديثهم وصراخهم ويدقق في نوع الشتائم وطبيعتها في محاولة منه أن يلم بالحدث بشكل دقيق. كان يود أن يجد علاقة بين رئيس الوزراء ووزير المواصلات وأعضاء البرلمان بالحالة التي وضع فيها ركاب الطائرة. كان صبورا دقيقا في بحثه عن سبب تلك الهستيرية التي انتابت البعض من الركاب، فسأل الراكب الذي يجلس جواره عن الدوافع لمجمل تلك الشتائم التي صبت على رأس الحكومة فلم يجد جوابا شافيا وإنما أزداد الوضع غموضا مع جملة الراكب التي تكونت من ثلاث كلمات لم يجد ماركس معها بدا من الصمت وهز الرأس علامة جهل مفرط، ولكنه رددها مع نفسه ووجد فيها ما يرفع من مستوى ارتباكه، فتمتم وهو يمسد لحيته الكثة.

ـ عمي حكومة فاكسه..
عشرون دقيقة أخرى مضت وسط الضجيج وارتفاع درجة الحرارة والروائح العطنة التي نزت عن بعض أجساد الركاب المتعرقة. أعلنت المضيفة عن انفراج الأزمة والسماح بالمغادرة، فاندفع الركاب وكأنهم سجناء أطلق سراحهم للتو، فراحوا يتدافعون للوصول إلى باب الطائرة بضجيج وشتائم لم تهدأ أو تستكين. كان الطيار والمضيفات يودعون الركاب بابتسامات مغتصبة وتقطيب وجه ظاهر، وسمعهم ماركس حين اقترابه، يلوكون من وراء أسنانهم وبصوت خافت جملة غريبة،ود لو يسألهم عن معنى الكلمات التي جاءت فيها.
ـ دفعت مردي بعصا كردي..روحة بلا رجعه.

مضت بهم سيارة الباص نحو بوابة المطار، وعرف الركاب من سائقها بأن حجزهم في الطائرة كل ذلك الوقت، كان سببه مصادفة وصولهم مع وجود وفد حكومي ينوي السفر بمهمة سرية ومستعجلة خارج العراق. ولأجله أفرغت قاعات المغادرة والوصول، ومنع وجود أي مسافر في ساعة مغادرة الوفد. ضج الباص بهستيريا الشتائم والصراخ والتذمر وكان أشدها قسوة صوت عفطة طويل جعلت عيون الجميع تتلفت دهشة بحثا عن مصدرها.

سلم كارل ماركس جواز سفره للموظف الجالس داخل الكابينة، فطالع الرجل ماركس بشيء من الفضول وكانت ثمة ابتسامة شاحبة تظهر فوق شفتيه، ثم طلب من ماركس النظر في الكاميرا الصغيرة التي وضعت في الجانب الأيمن من الكابينة، وهي التي تلتقط صورة العين للدلالة والكشف. بعد ذلك سأل الرجل كارل ماركس عن أسمه الكامل ثم راح مرة أخرى يتملى به بتمعن وفضول ظاهر بعدها قال:
ـ سبق أن جئت إلى بغداد، أليس كذلك ؟
ـ كلا يا سيدي، أنها المرة الأولى.
ـ مستحيل، فأنا شاهدتك سابقا، شعرك ولحيتك ليست غريبة عني. متى كانت أخر زيارة لك إلى بغداد.
ـ مثلما أخبرتك، هذه زيارتي الأولى إلى العراق.
ـ لا تمزح معي ، أنت من أي بلد؟
ـ أنا ألماني الجنسية.
سحب الموظف جهاز الهاتف ونادى على شخص بكلمة سيدي.
ـ هنا شخص ألماني الجنسية قادم من انكلترا . يدعي إن زيارته هذه هي الأولى للعراق. وأنا اشك في هذا، فسبق لي أن شاهدته لمرات عديدة وهو يدخل عن طريق المطار بذات اللحية والشعر الكثيف، وحتى أسمه سبق أن تكرر أمامي، أعتقد أن الأمر يتطلب التحقق من شخصه.

سحبته من كفه بشيء من الخشونة يد ثقيلة شديدة السمرة مثل وجه صاحبها بثيابه العسكرية المرقطة، بعد أن قال تفضل معي إلى غرفة المقدم. تقدم العسكري برفقة ماركس نحو باب غرفة موارب قليلا يخرج عنها دخان سجائر كثيف يحمله هواء بارد رطب. كان الضابط يحمل فوق كتفيه صورة نسر ونجمة، ويجلس متشنج متوفز متوتر وراء منضدة عريضة تحتل الجهة اليمنى من الغرفة، وثمة لوحة معلقة على الجدار خلف الضابط كتب عليها بخط عريض ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) تبسم ماركس وهو يقرأ الخط بلونه الذهبي فوق رقعة القماش الحمراء داخل برواز خشبي أسود اللون ودندن مع نفسه بصوت مكتوم، قد يوجد العقل لدى الإنسان ولكن ليس دائما بشكل عقلاني.

أمام وجوار المنضدة سبعة كراسي بمساند غلفت بقماش فاقع الألوان يشغلها سبعة من العساكر ببزاتهم المرقطة ولكن دون رتب عسكرية ظاهرة، وثمة تلفزيون معلق فوق جدار الغرفة المواجه لمنضدة الضابط. الجميع ومعهم الضابط كان مشدودا نحو شاشة التلفزيون. كان هناك عرض للعبة كرة قدم ، عرف ماركس أنها تجري بين فريقي برشلونه وخصمه العتيد ريال مدريد. لم يكن ماركس يهوى كرة القدم بقدر هوايته للكتب والفلسفة ودائما ما كانت رياضته المفضلة هي المشي . راح بفضول يطالع محتويات الغرفة والضابط ومجموعة العساكر الذين يحتلون الكراسي السبع، ويضجون بالصراخ بين فترة وأخرى. يتفاعلون بعفوية ويغيبون عما يحيطهم مع دحرجة الكرة بين أقدام اللاعبين. تقدم الجندي وقدم نفسه للضابط بعد التحية، وقال بصوت عال أنه قد جلب الشخص المطلوب. لم يرفع الضابط عينيه عن شاشة التلفزيون وأشار لماركس بصوت مسموع أن يجلس عند زاوية الغرفة البعيدة فوق السرير الذي رصف هناك. كان الفراش مبعثرا وكأن أحدهم قد استيقظ من النوم للتو وترك فراشه في حالة إهمال شديد. جلس ماركس عند طرف السرير وراح ينظر نحو الضابط لعله يتجاوب مع وجوده ويلتفت ليحدثه . كان الضابط منفعلا ومتشنجا وهو يراقب أحداث المباراة ،وعند لحظة أهدار هدف لفريق ريال مدريد ضرب الضابط بكفه الثقيلة فوق المنضدة وأطلق سيل من شتائم وكفر صريح لم يسبق لماركس أن سمع به حين كان داخل الطائرة ولا حتى من الشباب العراقي في الأحياء الخلفية لمدينة لندن.
ـ أستاذنا العزيز، هناك من ينتظرني خارج المطار وعليَّ أن أأخذ حقيبتي أيضا.ما المشكلة التي تعترض مغادرتي؟
هكذا ناشد ماركس الضابط وهو يقترب منه.
ـ عد إلى مكانك ، لم يبق على المباراة سوى القليل، أجلس فأنت ضيفنا وسوف تحل مشكلتك بسهوله، أجلس ولا تتعب نفسك بالتفكير، بالمناسبة من تتوقع له الفوز في هذه المباراة؟

عاد ماركس إلى جوار السرير وترك الضابط دون أن يجيب على سؤاله. وبدوره عاد الضابط يشارك أصدقاءه متابعة المباراة دون أنتظار الحصول على جواب عن سؤاله. أستمر الوقت يسير بتثاقل والجميع لاه بالمباراة. وأخيرا فاز ريال مدريد ومع فوزه تهلل وجه الضابط وراح في موجة من فرح غامر وصراخ وتصفيق ثم لوح بيديه في الفضاء وراح يهتف. علي وياك علي .. علي وياك علي .. علي وياك علي .. ثم صرخ بفرح ونشوة
ـ خرخش .. عيوني خرخش ، شنو حسبالك رونالدو فلس فلسين، هذا حلال المشاكل أخو أخيته.
بدوره اخرج أحد العساكر رزمة من نقود وضعها فوق المنضدة أمام الضابط وكان وجهه يكتسي بعلامات حزن مكين.
أدار الضابط وجهه نحو ماركس قائلا.
ـ كَصتك حلوه علينا أستاذ ماركس ، تدري لو خسران الريال جان مشكلتك أنلاصت وأتأجل حله الباجر، أي سولف أستاذ شنو مشكلتك؟.
ـ لحد الآن لا أعرف السبب وأي مشكلة تعترض دخولي العراق.
ـ سبق لك أن زرت العراق .
ـ كلا هذه هي المرة الأولى.
ـ ولكن ضابط التفتيش يقول أنه سبق وإن شاهدك تدخل العراق وهو يعرف شخصكم جيدا.
ـ ربما أن الضابط شاهد صوري في بعض الأماكن أو قرأ لي بعض الكتب. فانا صاحب كتاب رأس المال ونظريتي عن مستقبل العالم معروفة يتداولها الملايين من البشر، والطبقة العاملة في العالم أجمع ترفع صوري وتتداول كتبي.
ـ وما هي نظريتك باختصار أستاذنا الفاضل، تكدر تنورنا رجاءا؟
قال جملته ترافقها حركة خفيفة من الرأس توحي بنوع من الاستخفاف. ولكون ماركس لم يواجه أو يتعرف على مثل هذه الحالة سابقا، في جميع لقاءاته، ولا حتى في جداله مع أعدائه، لذا لم تكن لتعني له حركة رأس الضابط العراقي وطريقة طرحه السؤال وابتسامته المتخابثة الصفراء، حالة من السخرية أو شيء من الهزأ.
ـ أنا كارل ماركس قدمت نظرية في النظام الاقتصادي العالمي ومستقبله الاشتراكي وحتمية انهيار الرأسمالية وانتصار الشيوعية، ولدي تحليلات فلسفية في وحدة صراع الأضداد وقانون نفي النفي.
ـ يعني .. لتخوفنا بهذه الانهيارات والصراعات، هسه أحنه بيا حال، وأنته دخلتنه بالفلسفة، وقانون ما أدري شنو ما شنو، كَول من البداية أنته شيوعي وفضه.
ـ لا ..
ـ بس شلون أنت تكول مألف كل هذه الكتب ومو شيوعي.
ـ لم نصل بعد لمثل هذه المرحلة لندعي بأننا شيوعيون... نحن ممهدون.
ـ يمعود تره أحنه ما عدنه خلك لهيجي سوالف. هسه قل لي.. شنو تريد؟.
ـ لا أريد سوى أن أحصل على جوازي واذهب إلى بغداد فهناك من ينتظرني.
ـ عمي تفضل ، أعذرنا من التقصير.
ثم نادى على الجندي الواقف وراء الباب وطلب منه أن يأخذ معه ماركس لإكمال معاملة دخوله العراق.ثم أردف قائلا:
ـ هسه عرفت شنو سالفة ضابط التفتيش أحمد .. هذا يعرفك زين لأن هو شيوعي، ويريد يغطي على نفسه.. خوش والله خوش .. بنصنه ملحد وما ندري.

أسئلة مشروعة

1 ـ ما الذي سوف يواجهه ماركس في العراق؟
2 ـ هل يتمكن ماركس من الإلمام بالوضع العراقي ويتوصل لتحليله وفق معطيات النظرية الماركسية ؟
3 ـ كيف يقدم السياسي والمواطن العراقي العادي المساعدة لماركس كي يتسنى له النجاح في مهمته؟
4 ـ ما هي نتائج زيارة ماركس للعراق ؟

كل ذلك مشروع لوقائع وأحاديث قادمة

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter