|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  19  / 1 / 2012                                 د. فاخر جاسم                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

عبدالإله الياسري... وقوافل أحزانه ...

د. فاخر جاسم
(موقع الناس) 

ولد الشاعر عبدالإله الياسري في مدينة النجف، واستلهم أجواء الشعر في محافلها الأدبية، ومن شيوخ اللغة والأدب حيث كانت تربطه بهم علاقة طيبة منذ بدأت عليه ملامح الشباب.

ترعرع الياسري في أجواء اتسمت بالمعاناة والكدح بالرغم من كونه من أحفاد السيد نور الياسري المعروف بسعة الثراء ورفعة المنزلة في الربع الأول من هذا القرن ؛ باعتباره أحد كبار السادة الياسريين.

تمرّد على الأجواء والعادات العشائرية التي كانت تغلف محيطه العائلي بوقت مبكر، كان يحلم بوطن لا جـوع فيه ولا سيادة إلا للفقراء والكادحين.

رحل الى بغداد في نهاية الستينات لغرض الدراسة في كلية الآداب مع حمل طموحاته واحزانه ، ليجد في بغداد عكس ما كان يريد ويهدف إليه.فقد اراد للشعر ان يكون أداة مقاومة بيد الكادحين والأخيار،اداة تجسد واقعهم المقهور وطموحاتهم لمستقبل افضل ،غير ان الترغيب والترهيب واجهاه لإصطياد حريته وشعـره وطموحاته من قبل الرموز الثقافية للنظام الجديد.

كانت بدايته مع الشعر مبكرّة، وبالرغم من ملامح الحزن التي ميزت تلك البدايات الشعرية، حاول جاداً توظيف الحزن لهدف آخر ، وتحويله الى مقاومة بشكل ما ضدّ الظلم والفقر. كان الياسري لامعا بين زمرة الشعـراء الذين زاملوه فترة الدراسة الجامعية،وحكاية هذه القصيدة تروي لنا كيف دخل شاعـرنا عالم الشعــر بقوة وخصوصية فرضت نفسها.

في البدء لا اعرف سبب بقاء هذه القصـيدة في ذاكرتي منذ أنشـدها لي اول مرة عام (1971م).هل لكونها جسدت عمق الحزن العراقي الدفين؟ ام أنها تنبأت بمدى القهر والجوع الآتي من فتحات القطار الذي تسـلط على قيادته دعاة الإشتراكية المزيفين،وساروا به بسرعة تفوق سرعة الضوء،ليخلف في وطن مهد الحضارات والخيرات،الحزن والجوع والعذاب، وبمديات وانعكاسات لم تكن معروفة عندنا او عند الشعوب المعاصرة، ولا حتى في التاريخ المتداول،عملية هدم وخراب لم يسلم منها الزرع والضرع،وحتى حالة دمار استوعب خرائبها الثروات والبشر؟!

أجواء القصيدة
إعتادت كلية الآداب ان تقيم مهرجانا شـعريا كل سنة،غير أن مهرجـان عام 1971م كان متميزا. فقد اهتمت بالتحضير له عمادة الكلية بشكل استثنائي،لأنها أرادت - من خلاله - الرد عمليا على مقال نشرته جريدة الثورة (جريدة النظام الرسمية) تحت عنوان (الأدب يحتضر في كلية الآداب).اسـتدعت عمادة الكلية كل من تجد فيـه الكفاءة لإنجاح المهرجـان، وشكلت لجنة تحكيم من اساتذة قسم اللغة العربيـة. حضر المهرجان نائب رئيس الجمهورية - في وقتها - صالح مهدي عمـاش، بدلا من رئيس الجمهورية الذي كانت عمادة الكلية تتوقع حضوره، إضافة الى العدد الكبير من الشخصيات الرسمية، وجمع غفير من اساتذة الجامعات العراقية وطلابها، مع جمهرة المتذوقين للشعر والأدب من خارج الجامعة.

كانت كلية الآداب تضم مجموعة من الشعراء الشباب،أمثال نبيل ياسين وحميد الخاقاني وخلدون جاويد وحسن المرواني و(صاحبنا) عبدالإله الياسري وغيرهم لاتحضرني أسماؤهم الان،شارك اغلبهم بالمهرجان الشعري. منحت الجائزة الأولى لقصيدة (انا وليلى..فاشطبوا اسماكم) وهي قصيدة غزل للشاعر المرواني ، واعطيت الجائزة الثانية للشاعر الياسري على قصيدته (قافلة الأحزان) التي قوبلت باستحسان كبير وقوطعت بالتصفيق مرات من قبل الحاضرين،بمن فيهم نائب رئيس الجمهورية صالـح مهـدي عماش الذي قدّم بنفسه  هدية خاصة للشاعر (قلم حبر باركر 51 !)

ويبدو ان الجو الحماسي الذي خلقته القصيدة، والتجاوب معها من قبل الجمهور ، وانسجامه مع موقف الشاعر الذي جسدته القصيدة،موقف ارتفع فيه صوت الرفض والتحدي وسـط الصمت الغريب امام اسـتفحال ارهاب السلطة الجديدة.هذه الحالة غير المحسوبة خلقت نوعا من الهلع والإرباك عند عميد كلية الاداب - انذاك - الكتور محمود غناوي ، الذي صعد للمسرح مسرعا بعدما أنهى الياسري قصيدته،محاولا تهدئة الجمهور بحركة من يديه ، يريد الحديث معهم،وهو في حالة مفضوحة الإرباك والهلع،وحين إطمان لصمت الحضور، قال بالنص الكلمات التالية:

"هذا الشاعر واهم.. ومغرر به.. نحن نعيش في ظل الثورة بخير وعافية"

وبقوله هذا اراد أن يُثبت براءته من القصيدة وشاعرها امام كبار قادة السلطة في الدولة.



قافلة الأَحزان

حملتُ شراعَ الموتِ في صمتِ آلامي
وأَرضعتُ من ثدي التباريـحِ أَعوامــي
حملتُ دموعَ الأَرضِ في جفنِ لوعتي
وخضَّبتُ في جـرحِ الملايينِ أَنغـامــي
أَنا الظمـأُ المهمـومُ أَلهثُ حاملاً
على ظهـريَ المسبيِّ تابـوتَ أَحلامــي
فـلا فرسـي يعـدو فأَنقذَ رايتـي
ولا حـربتي تُـردي ولاســاعـدي رامِ
وها أَنـا،يابغــدادُ،جئتُـكِ ميِّتـاً
قفي واخلطي الحنَّـاءَ بالمدمـعِ الهامـي
قفي واحضني نعشي لصدرِكِ، وارتمي
على شفتي العطشَى اغسلي وجهيَ الدامي
خذي الحزنَ من عينيَّ يقصصْ حكايتي
وينبئْـكِ كيف الريـحُ أَلـوتْ بأَعلامـي
هبينـي رصيفـاً تَسْـتكِنَّ حقـائبي
عليـه فقد ماتـتْ من السـير أَقـدامي
فما منحتْـني غيـرَ حـزنٍ مدينتي
وغيــرَ انكسـاراتٍ وذلٍّ وأَوهـــامِ
أَنا القمحُ والنخـلُ العـراقيُّ أَنحني
جفافـاً، وأَهوي جانب الشاطئِ الطامـي
أَنا القريَّـةُ الخضـراءُ قحطٌ أََذلَّني
فأَطفأتُ فانـوسي وأَخفيـتُ إِكـرامـي
****
جرحتُ بأَحجاري سـنابلَ واحتي
وخبَّأَت في ثـوبِ التحـرُّق أَنسـامـي
تَسحُّ على هدبي الغيومُ ،وفي دمي
هجيـرٌ يُميتُ الزهـرَ في حضنِ أَكمامي
وفي أُفقي ريـحٌ تصـارعُ زورقي
تُهشَّـمُ مجـدافـي، وتقتـلُ إِقدامــي
وتجثو على صدري الطعينِ مدينتي
فيشـهقُ مـوَّالي،وتخبـو رؤى جامـي
فذي"دجلةٌ" ترغـو، وتلك َحدائقـي
تجـفُّ، وغصني يلتـوي وردُه ظامـي
وذا السـنبلُ النامي،وذلك منجلـي
يحـنُّ الى طيـفٍ من السـنبلِ النامـي
أُصلَّي وطـرفي للسمـاءِ وليتنـي
رأَيتُ سـراباً يرحـمُ الأَرضَ في عــامِ
أَكـادُ ـ إِذا فـلَّ الزمانُ صريفتـي
وهاجـرتُ كالشـحَّاذِ أَحمـلُ أَيتامــي
ـ أُهشِّمُ محرابي ، وأَسحقُ توبتـي
وأَرجـمُ تكبيـري، وأَعبــدُ آثـامـي
أَنا قصَّـةُ الجوعِ العـراقيِّ.أَختبـي
بضحكتيَ البلهــاءِ،أَقتـاتُ أَسـقامـي
أَنا البلـدُ المنكودُ .أَتربني الأَسـى
وأَفـزَعَني طيفي وأَشــبـاحُ أَيَّامــي
****
أُغطِّي ربيعَ الجرحِ في صمتِ لوعتي
ويُـورقُ غابـاتٍ من الدمــعِ إِيلامـي
وأَغـرسُ للأَحبابِ في الشعرِ وردةً
تُخبِّـئُ بالعطــرِ المُطيَّـبِ إِسـقامـي
فهلْ عرفتْ نـوحَ الحمائـمِ بلـدتي
وعمقَ البكـاءِ المرِّ في وجـهِ بسَّــامِ؟
وهلْ عرفَ الشعبُ الحزيـنُ ربابتي
تَغـصُّ بآهٍ مـن تثـاؤبِ إِضـرامــي؟
تُحـدِّقُ في وجه السـحابِ رمالُـه
وتبكي فينمو الموتُ في حقلِ أََعوامــي
تعالَ وخذْ ياجـوعُ قمحَـكَ من دمي
ودَعْني أَمتْ وحدي على رمـحِ آلامـي
وخَلِّ عـراقَ الحـزنِ يبتـلَّ رملُـهُ
وتَخضـرَّ باليـومِ المُذهَّـبِ أَحلامــي
أَنا المغرمُ الهيمان شـعبي حبيبتـي
وأَنفاسُـه لحنـي وعينـاه إِلهـامــي


عبدالإله الياسري: بغداد -1971م
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter