|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  18  / 12 / 2014                                 ذياب مهدي آل غلاّم                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الطم الفكري .. غلق منافذ التمدن والتحضر الحداثوي ...؟

ذياب مهدي آل غلآم

استهلال : جاء في لسان العرب / حرف الطاء / طمم :-
طمم : طم الماء يطم طما وطموما : علا وغمر . وكل ما كثر وعلا حتى غلب فقد طم يطم . وطم الشيء يطمه طما غمره وأصله من طم الشيء إذا عظم . وطم الماء إذا كثر ، وهو ملأه حتى علا الكيل أصباره . ويقال للشيء الذي يكثر حتى يعلو : قد طم وهو يطم طما ، وجاء السيل فطم كل شيء أي علاه ، وهو الداهية تغلب ما سواها الطامة . ومن ثم قيل فوق كل شيء طامة ، ومنه سميت القيامة طامة .

المدخل :
يشكل الفكر الانساني الاساس في البناء الاجتماعي سواء كان هذا المجتمع بدائيا يغلفه الفكر الطوطمي او في قمة تحضره يلعب الفكر العلمي دورا رائدا في بنائه و توجيهه. كما يصعب الفصل بين الفكر و المجتمع الفاعل فيه فكلا الطرفين يؤثر في الاخر و يتفاعل معه. مرت اوربا منذ القرون الوسطى و حتى عصرنا الحاضر بمراحل اجتماعية و فكرية مختلفه .اسست هذه المراحل بمجملها الوضع الفكري و الاجتماعي الحالي . المجتمع المتعلم المتمدن . كما وضعت اسس ديناميكية التطور الاجتماعي . ومن اهم المراحل التي ما نزال ندرك صداها في عصرنا هي ما يدعى بعصر التنوير (1650-1700) والثورة الصناعية (1750-1850) والحركات الانسانية.

بدأ عصر التنوير في اوربا حوالي القرن الثامن عشر حيث بدئت فلسفة العقل دورها في تحريك المجتمع و الدفع باتجاه تعزيز المعرفة . بدء هذا الاتجاه العقلاني في القرن السابع عشرمتمثلا بباروك سبينوزا وجون لوك وفولتير واخرون.

لقد كان باروك سبينوزا مفكرا عقلانيا ، واجه الكثير من الرفض والمصاعب من قبل المتشددين اليهود ولكن افكاره وجدت صداها في عصر التنوير . استندت هذه النهضة الفكرية على اعلاء شأن التفكير العقلي والنقاش الحر من دون خطوط حمراء . جاء عصر التنوير بعد عصر القمع الفكري (فترة محاكم التفتيش) ومن ثم تلى عصر التنوير الثورة الصناعية والحركات الانسانية . وجاء كارل ماركس ورفيقه انجلس ليغير وجه التاريخ نحو مدارك العقل والنور . لقد قادت السيادة العقلية الى التطور الصناعي والتطور الاجتماعي .

طامة : فكرة لا علم خارج الفكر الديني ؟
أن التطور الصناعي والتطور الفكري هذا ، ما قاد الى حركات انسانية جبارة منذ القرن الثامن عشر قادت الى الغاء التعذيب والعبودية والتمييز الجنسي والعنصري .... لقد ظهر الحركات الانسانية ضمن تجمعات اصلاحية صغيرة نشطة استطاعت ان تُفعل المجتمعات الغربية باتجاه حركاتها الانسانية . ولعبت الاكاديميات العلمية دورا بعد ان تطورت هي الاخرى لتساهم في مجتمعاتها. يتميز القرن الثالث عشر في كونه قرن نشوء الجامعات حيث تاسست جامعة باريس (فرنسا) واوكسفورد (انكلترا) وكمبردج (انكلترا) وبادوا (ايطاليا) ونابليس (ايطاليا) وفي نفس القرن تاسست المدرسة المستنصرية في بغداد . بقت الجامعات الغربية وتطورت وهي ما تزال قائمة تحمل تراثها المتصل معززة المعرفة الانسانية بالكثير من الانجازات في حين لم يكتب للمستنصرية ان تتطور وعندما تأسست الدولة العراقية (1921) كانت هذه الجامعة مجرد بقايا اطلال وخرائب ومكان لخزن البضائع . كانت المستنصرية مدرسة تهتم بالعلوم الدينية وبقت كذلك حتى اندثارها المتذبذب . في حين نجد الجامعات الغربية كانت قد بدأت بصورة مماثلة ولكنها تطورت لتشمل كافة جوانب المعرفة والعلوم . ان سبب ذلك الخمول والسكون وثم الاندثار" الطم " هو المفهوم الاجتماعي للعلم الذي بلوره الفكر الاسلامي والذي يؤكد على ان لا علم خارج الفكر الديني .

من الخلاصة اعلاه نجد ان التطور الاجتماعي الغربي سار باتجاه تراكمي تدريجي ومن خلال القوى الفاعلة فكرية كانت او اجتماعية ومر بمراحل التطور الطبيعية . لا شك في أن التطور التكنولوجي المتسارع ترك ويترك تأثيراته الفكرية على الإبداع الفكري والفني في المجتمعات المتطورة . لذا كثيرا ما تظهر وبنفس سرعة الانجاز التكنولوجي أنماط فكريه وأطروحات تحاول أن تستوعب الحياة الحديثة . أن المجتمعات الغربية تعتمد النظم الدقيقة والمترابطة في بناء حياتها . وهذه النظم ذات جذور تعود لعدة قرون دون أن تقف يوما عن التحديث والتطور .

وكما يحاول الغرب أن يدرس كل شيء ليس لاجل الدراسة فقط بل للاستفادة فأن الغرب درس متفلسفا تطوره الحضاري المتسارع . وكانت على اثر ذلك مفردة الحداثة (Modernity) والتي شاء حظها أن تدخل قواميس المصطلحات الفلسفية المعاصرة . واختلف مفكرو الحداثة فيها ومتى بدأت مرحلة الحداثة هذه و... ألا ان مما لاشك فيه ان عصر التنوير والثورة الصناعية والحركات الانسانية كان لها دورها الاساسي في مواجهة التحديات وقادت الى معطيات حديثة في مختلف جوانب الحياة السياسية والفنية والعلمية ... لذا فان البعض من فلاسفة الحداثة يعيدها الى القرن الخامس عشر والبعض يحيل بدايتها الى عصر التنوير. ونتيجة التطور المتسارع هناك من يرى بان الحداثة مرت بادوار ثلاث . وهناك من يرى ان هذه المجتمعات الغربية قد دخلت مرحلة ما بعد الحداثة (Post-modernity) بعد النصف الثاني من القرن العشرين .

طامة المجتمع العربي والاسلامي : العيش بخمول وطم حضاري...!؟
لقد سبق و ان بينا بان المجتمع العربي والاسلامي عاش حالة غير طبيعية من التخلف الحضاري منذ القرن الحادي عشر او الثاني عشر وحتى سقوط الدولة العثمانية . وباندحار الدولة العثمانية المتخلفة حضاريا في الحرب العالمية الأولى بدأ المجتمع العربي والاسلامي محاولات عسيرة للتململ من اجل الاستيقاظ ومن ثم النهوض من انطمامه الفكري .

على هذا فان هذا المجتمع لم يعرف بعد نمط التفكير العقلي (مثالاً : عبارة القرآن حمّال أوجه إنما كانت أستشعاراً عبقرياً من الإمام علي للمأزق الذي سيتعرض له الكتاب في المستقبل) والتفكيرالعقلي الذي قُمع وطم مع المعتزلة والذي كان الاساس في عصر التنويرالغربي . في الوقت الذي كانت المجتمعات الغربية تعيش صراعات عسيرة من اجل التحديث المستمر، كان المجتمع العربي والاسلامي يعيش خمولا حضاريا ولنقل : طم للفكرالحضاري . (من تمنطق فقد تزندق ، طامة) لذا لا معنى لوجود الحداثة في هذا المجتمع بل كان هناك تراجعا "Backwardness" مرعبا ويزداد تراجعا مع الزمن بالنسبة للمجتمعات المتطورة . وبعد الحرب العالمية الاولى حيث بدأ الامتزاج الحضاري مع العالم اخذ التراجع بالتوقف . وهنا تشكل الحرب العالمية الاولى نهاية النفق الزمني للتراجع . اما المرحلة اللاحقة والتي ما زالت فاعلة هي مرحلة ما بعد التراجع "Post-backwardness" .

لقد توقف التراجع مع بداية القرن العشرين ولكنه ما زال فاعلا . ان الجذور التي تمتد الى قرون عدة لا يمكن اقتلاعها بسنين ولا عشرات السنين . ان مرحلة ما بعد التخلف هي مرحلة البحث عن الطريق او الهوية . انها ولا شك مرحلة مضطربة الا ان الاشكالية الكبرى هي ان سبب التخلف الاساسي ما زال قائما وبعيدا عن الاهتمام . أن نمط التفكير السائد والمقيد بخطوط حمراء كثيرة تجعل من مساحة الحرية الفكرية ضيقة جدا. وبذلك تكون الحركة الفكرية شبه مستحيلة على ذلك كانت كافة محاولات التململ من اجل الاستيقاظ والنهوض عديمة الجدوى ، وهذا ما سميناه الطم الفكري الحضاري .

ما بعد التخلف والطم الفكري ، البحث عن طريق او هوية :-
هنا يجب ان نؤكد اربعة انعطافات مهمة في تاريخ تطور المجتمع العربي والاسلامي وعلى اساس الابداع الفكري :

1- ظهور الاسلام ونشوء الدولة القومية والاسلامية. وبداية ظهور ابداع فكري متميز مع بداية ظهور المرحلة العقليه في الفكر الاسلامي . استمرت هذه الفترة ما يقارب الاربعة قرون .

2- نهاية الحرية الفكرية وقمع الابداع العلمي حوالي القرن الحادي عشر . وهذا ما قاد الى الركود الفكري والخمول الاجتماعي والانعزال عن الحضارة الانسانية . "الطامه" استمرت هذه الفترة ما يقارب التسعة قرون .

3- الحرب العالمية الاولى . قادت الحرب الى تغيرات سياسية كثيرة ومنها نهاية الدولة العثمانيه التي كانت تسيطر على معظم العالم الاسلامي والعربي . تشكل الحرب العالمية الاولى مرحلة بداية نهاية الانعزال الاجتماعي عن الحضارة الانسانية في بداية القرن العشرين .

4- خلال القرن العشرين ظهرت مراحل التململ الاجتماعي من اجل الاستيقاظ وثم النهوض وتكون الدول الوطنية القومية المستقلة والبحث عن هوية . هذه المرحلة هي مرحلة ما بعد التراجع والتي تمثل اخطر المراحل في تاريخ هذا المجتمع . والفضل يعود للثورة البلشفية التي قادها الحزب الشيوعي السوفيتي بقيادة لينين .

أن مرحلة ما بعد التراجع ما تزال في بدايتها ولم تتخطى بعد حدود التململ غير الواعي . وابرز ما يمثل هذه المرحلة هو الصدمة الثقافية الاجتماعية (Culture Shock) . الصدمة الثقافية ذات طابع حزبي فردي ، نواة تأسيس الأحزاب الشيوعية في المجتمع العربي والاسلامي ، كانت صدمة للفكر الرجعي المتخلف والسلفي الديني اللاهوتي . ان الصدمة التي نريدها للنهوض من طامة التخلف الفكري هي اختلاط الفرد بمجتمعات جديدة مختلفة متمدنة ، والعودة الى مجتمعه من اجل نقل هذه التجربة التعليمية الفكرية الحضارية ، فلعل وعسى يخرج المجتمع العربي والاسلامي من هذا الطم المميت . وهذه الحالة معروفة في علم النفس والاجتماع . الا ان الصدمة الثقافية الاجتماعية الناتجة عن اختلاط مجتمع معزول بمجتمعات اخرى فهذه حالة نادرة .

 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter