|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  8  / 11 / 2023                                 داود أمين                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

في ذكرى رحيل الشاعر عزيز السماوي

داود أمين
(موقع الناس)

لا أذكر بالضبط متى وكيف تعرفت على الشاعر الفقيد (عزيز السماوي) ، لكني واثق إن ذلك كان قبل إنقلاب البعث في ١٧ تموز عام ١٩٦٨ ، ودليلي على ذلك إنه عند إطلاق سراح الرفيق البطل (عقيل حبش) الذي كان محكوماً بالإعدام بسبب نشاطه المسلح في الأهوار ، ضمن تنظيمات القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ، وكان ذلك بعد إنقلاب البعث ، أذكر إننا زرناه معاً مع عدد من الأصدقاء بينهم الشاعر الفقيد كاظم الركابي والقاص الفقيد عبد الجبار العبودي ، وكان عقيل قد خرج تواً من السجن بعد العفو الذي أصدرته السلطة بسبب الضغط الجماهيري لأبناء مدينة الناصرية وغيرها من مدن العراق ، ولتحسين صورتها البشعة أمام العراقيين !كما أذكر قبل زيارة عقيل حبش كانت لنا أنا وعزيز لقاءات كثيرة في بيت الشاعر كاظم الركابي، وكنا وقتها محسوبين جميعاً على تنظيمات القيادة المركزية ومتعاطفين معها ، وكانت الأفكار الجيفارية ، وبروز العمل الفدائي الفلسطيني تشدنا لذلك الميل الثوري الذي كان سمة تلك الفترة .

كان بيت كاظم الركابي وإلى حد ما بيت عبد الجبار العبودي هما أمكنة سهراتنا الخمرية التي تمتد حتى الفجر . ومع كؤوس الخمر التي كانت تدور بيننا كان الدخان الذي ينفثه المدخنون يعبأ الغرفة الطينية في بيت الفقيد كاظم الركابي ! وكان الشعر والسياسة هما مادتنا الدائمة في كل سهرة ، وكانت الغرفة (الديوانية) الضيقة المجاورة للباب الخارجي، وذات النافذة الضيقة الواحدة والتي تطل على الزقاق الترابي الضيق، حيث بيت (جرداغ) والد كاظم الركابي ، كانت تلك الغرفة تغص بنا كل ليلة تقريباً ! ونحن جبار العبودي وعباس جولان وفاضل السعيدي ومالك يوسف وحسين نعمة وكاظم إبراهيم وجبار محسن ومحمد وادي ومحسن الخفاجي وكريم الكصاب وبالطبع صاحب البيت كاظم الركابي !

كانت أصابع الشاعر عزيز السماوي وهو يقرأ قصيدة جديدة مع كل جلسة تجسد مع صوته ملامح القصيدة ، كان يقرأ وهو يترنح ويميل راسماً تلك الصور الجميلة لقصائده التي ظهرت فيما بعد في الديوان المشترك (الكتابة على الماء) الذي أصدره مع طارق ياسين وعلي الشيباني ، وكان كاظم الركابي يقرأ قصائده أيضاً ، وكنت أقرأ قصائدي التي كنت أكتبها بالفصحى ، ويفعل الشيء نفسه الشاعر فاضل السعيدي ، ويتحدث القاصان محسن الخفاجي وجبار العبودي عن نتاجهما القصصي وعن مجلات (الكلمة) و (كاليري ٦٨) التي صدرت في مصر ثم عن مجلة (الشعر ٦٩) وكان صوت الفنان حسين نعمة يملأ فضاءات تلك الليالي.

ولم تكن زيارات الشاعر الفقيد عزيز السماوي قليلة أو متباعدة للناصرية بحكم إن زوجته من الناصرية ، لذلك كانت زياراته دائمة ومتواصلة لذلك لا يمكن أن أحصيها أو أتذكر بعضها دون أخرى ، أذكر إنه كان دائماً معنا وإن سهراتنا معه كانت لا تنقطع ، سهرات تمتد إلى الفجر ، نخرج بعدها إلى أين ؟ كنا نجوب الشوارع متوجهين لمحلات التمر وراشي أو لباعة الباجة ، وفي الشارع عندما نريد التبول ، كان يشير إلى الحيطان التي تحمل عبارة (البول للحمير !) قائلاً هنا هنا يجب أن نبول !! كان عزيز يحب الناصرية بشعرها وغناءها وطيبة وكرم أهلها ، وكان يلح على أم كاظم الركابي أن يكون عشاءنا بعد الشرب (مصموطة) أي السمك المجفف منذ شهور ورغم إنني لم أكن أتناول المصموطة منذ طفولتي رغم ولع أمي بها ،، إلا أني هنا وفي هذه الجلسات تعلمت أكلها وتلذذت به!

مقهى (سيد فرج) قرب سينما البطحاء الشتوي أو مقهى (أبو أحمد) الخاص بالمثقفين كانتا محطاتنا في النهارات الطويلة حيث نواصل ما بدأناه ليلاً ، أو نبدأ بما سنكمله في سهراتنا الليلية ،لا أدري كم إستمر هذا الطقس ! ولماذا تعطل ؟ ربما يكون لإنتقال كاظم الركابي لبغداد وعمله في إذاعة (القوات المسلحة) والصحافة هناك هو ما عطل تلك السهرات الأدبية والإخوانية الجميلة ، لكنه لم يمنع لقاءات متباعدة في مؤتمرات الشعر الشعبي أو في أمكنة مختلفة أخرى .

أواسط السبعينات إنشغلت كثيراً بالسياسة والعمل الحزبي ، وإنشغل الكثير من أفراد شلتنا كل في شأنه ، وسرقت بغداد وأضوائها الكثير من مبدعينا وبينهم حسن الشكرجي وبهجت الجبوري وحسين نعمة وعزيز عبد الصاحب وكاظم الركابي وغيرهم .

عام ١٩٧٦ كان لدي إجتماع في البصرة للمكتب الصحفي في المنطقة الجنوبية ، وكنت أجلس في المقهى التي يصفها الفقيد الصكار في كتابه (أيام عبد الحق البغدادي) المقابلة لساعة سورين ، حين دخل عزيز السماوي ، وكنا لم نلتقي منذ سنوات ، إبتسمنا معاً وأخذنا بعضنا بالأحضان ، وأكملنا لقاءنا في بار قريب في شارع الوطني ! حيث فتحت البيرة المثلجة ذاكرتنا على الناصرية وبيت كاظم الركابي ومصموطة أم كاظم والبول للحمير !!! ضحكنا وتمتعنا طوال ساعات اللقاء ثم إفترقنا لنلتقي في (طريق الشعب) حيث كنت في دورة صحفية هناك ، ولا أذكر إننا إلتقينا بعدها ثانية إلا عبر التلفون .

وعندما كنت في حركة الأنصار في كردستان في الثمانينات عرفت أنه كان يعمل مهندساً في الجزائر ، وعلمت أن علاقته جيدة بالحزب رغم إني أعتقد أنه لم يكن حزبياً ، كان ينتقد ويتألم ويلوم ولكنه لم يجرح يوماً ولم يشمت لخساره ، ظل مثقفاً مستقلاً لكنه محسوب على اليسار ، ولم يبع نفسه كما باع العشرات ، ولم يحول نتاجه وإبداعه لمادة بيد أعوان السلطة ومرتزقتها .

تحية لروح صديقي الغالي الشاعر الكبير عزيز السماوي .

 

 


 

 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter