|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  24  / 2 / 2016                                 د. باسم سيفي                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

العراق مصاب الان بالسفلس الامريكي وليس المرض الهولندي

د. باسم سيفي
(موقع الناس)

في ادبيات الدولة الريعية او اكثر تحديدا لعنة الموارد الطبيعية او اللعنة النفطية بالنسبة للعراق ودول نفطية اخرى يعتمد اقتصادها على الريع النفطي بدرجة كبيرة، يؤكد بعض الباحثين على المرض الهولندي كسبب لهذه الظاهرة والذي وجد مع تدفق الريع من الخارج وتقوية العملة الوطنية. قبل توضيح السفلس الامريكي والمرض الهولندي ومناقشة دورهما في اللعنة النفطية من الضروري توضيح معنى الدولة الريعية وكيف اصبحت لعنة نفطية في العراق.

الدولة الريعية هي الدولة الغنية بالموارد الطبيعية مثل النفط والغاز والمعادن والأحجار الكريمة والغابات والتي تعتمد ايراداتها الخارجية من العملة الصعبة وميزانيتها العامة بدرجة كبيرة على بيع هذه المواد في السوق الدولية. ندرة هذه المواد يجعل سعرها أكثر من التكلفة في معظم انتاجها او استخراجها وبالتالي يُنتج ريع او ربح لصاحبها، فلو كانت كلفة استخراج برميل من النفط في حقل او دولة 10 دولار للبرميل وسعره 60 دولار يكون كل برميل ينتج 50 دولار ريع لمالك النفط/الحقل. وقد تتفق الدولة مع شركة تستخرج النفط عل اساس عائد مقطوع للدولة عن كل برميل يسـتخرج وهو ايضا ريع للدولة المالكة. عندما يكثر هذا الريع تستغني الدولة عن الضرائب وتصبح تدريجيا حرة من الاعتماد على المجتمع وتتصرف بعجرفة وبدون محاسبة ومسؤولية فتعطي مثلا رواتب عالية وامتيازات كبيرة للحكام وتكثر من التعيينات الحكومية وبالأخص للمحاسيب وتبالغ في الصرف على الاجهزة الامنية والتسليح ومشاريع المباهات،  وكل هذا يؤدي الى ارتفاع تكلفة الانتاج والى اضعاف قدرة المنتجات المحلية على المنافسة.

في سبعينات القرن الماضي شخص بعض الباحثين سوء اداء الدول الغنية بالموارد الطبيعية في التنمية مقارنة بالدول الفقيرة بالموارد الطبيعية، ومنذ ذلك الحين ازدادت الدراسات والتحليلات في الموضوع وهناك الان كم كبير من مؤلفات الدولة الريعية ولعنة الموارد الطبيعية وبالأخص ما يدور حول النفط من سوء ادارة في مرافق الدولة. فمع ازدياد الريع وجد الباحثون ازدياد تكلفة الانتاج والفساد والاستبداد والفوارق في الدخل والتضخم والبطالة المقنعة في الدولة، هيمنة سوء ادارة الموارد البشرية والطبيعية بشكل عام، وهذا انتج تعبير او مفهوم لعنة الموارد الطبيعية ولعنة النفط ومثالها النموذجي في العراق حيث تحول بلد عريق منتج زراعيا وصناعيا الى بلد هامشي ينتج النفط ويستورد معظم احتياجاته وحيث تراجعت التنمية بعد الفورات النفطية عما كانت عليه في الخمسينات والستينات وازداد الاستبداد وسوء الادارة والقرارات وأفضعها شيوع التعذيب والقتل المجاني وإدخال البلاد في حروب عبثية افقرت البلاد وجعلتها متخلفة عن التقدم الذي احرزته دول الجوار.

من الآليات او السببية التي شخصت في تحول ريع الموارد الطبيعية الى سوء ادارة وتراجع الانتاج المحلي او لعنة بدلا من ان تكون نعمة هو ما يسمى بالمرض الهولندي، وهو ارتفاع سعر العملة المحلية مقابل العملات الاجنبية بسبب تدفق العملة الصعبة مع زيادة تصدير الموارد الطبيعية وضخها في الاقتصاد الوطني، وهذا يسبب صعوبة التصدير حيث يرتفع سعر المنتج المحلي في السوق الخارجية وأيضا سهولة او اقتصادية الاستيراد حيث ينخفض سعر المواد المستوردة في السوق المحلية. سميت الظاهرة بالمرض الهولندي لأنها وجدت وشخصت في هولندا في خمسينات وستينات القرن الماضي حيث ازداد انتاج وتصدير الغاز والمنتجات النفطية عندها وسببت تدهورا كبيرا في اقتصاد هولندا بسبب ارتفاع قيمة عملتهم المحلية.

الفورة النفطية التي حدثت في العراق في السنوات العشر الماضية او التي سبقت عام 2015 لم تؤدي الى زيادة سعر الدينار مقارنة بالدولار بسبب سياسة البنك المركزي في زيادة وتراكم الاحتياطي النقدي بشكل عملات اجنبية وذهب فلم تضخ في الاقتصاد الداخلي وتسبب تضخما كبيرا، وأيضا بسبب المزادات العكسية التي ثبتت سعر الدينار مقابل الدولار وأشبعت الطلب المتغير على الدولار والعملات الاجنبية والذي تقيد بصرفيات الدولة وكمية الدينار المتداولة. فاللعنة النفطية لم تدخل للعراق الديمقراطي من باب المرض الهولندي بل من باب اخر هو السفلس الامريكي.

مرض السفلس وكما هو معروف مرض مقرف ومعدي عن طريق الجنس وقد يؤدي الى الموت ولكن يوجد له الان بعض العلاجات مثلما يمكن علاج اللعنة النفطية التي ابتلى بها العراق في عهد ما بعد سقوط الدكتاتورية على يد الامريكان الذين فضلوا وبدون حكمة تحويل العراق الى بلد استهلاكي مثل بلدان الخليج مجبر اقتصاديا على انتاج وضخ مزيدا من النفط للسوق العالمية بدلا من سياسة الاعمار التي اتبعوها في المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. السفلس الامريكي هو سياسة البذخ وصرف الدولارات بحق وغير حق فمع الاحتلال وزعت مئات او الوف من ملايين الدولارات لشراء الولاء والمشاركة وتكوين طبقة حاكمة مكونة من آلاف من السياسيين والإداريين والمهنيين لقيادة العراق الجديد. والحاكم المدني بريمر لم يقصر في توزيع رواتب ومخصصات وامتيازات خيالية بالنسبة للواقع العراقي جلبت كل طامح بالثراء والجاه ليصبح جزءا من طبقة النخبة كسياسي وخبير ومدير ومستشار وقائد.

طبقة النخبة المختارة تعلمت فن اغناء نفسها من خلال امتيازات فاحشة وضمان مستقبلها من خلال نظام تقاعد اشك بوجود مثله في العالم، فقد اصيبت بعدوى الثراء والبذخ الذي مارسه الامريكان وعملت على توسيع نفسها من خلال تعيينات الاقارب والأصدقاء ورفاق الدرب رغم ان معظمهم يفتقد الاهلية والوطنية والنزاهة لقيادة العراق. انها لمهزلة ان تصل صرفيات الرئاسات الثلاث الى عشرة بالمائة من ميزانية الدولة وان يتمتع المسؤولين الكبار برواتب تقاعدية غير معقولة ومدى الحياة عن خدمة في الدولة قد لا تتجاوز عدة سنين وحتى عدة اشهر كما هو الحال في الراتب التقاعدي لرئيسنا المنتخب الاول والذي لازال سرا غير معلن كما هو الحال لكثير من اعضاء طبقة النخبة. طبقة النخبة السياسية والإدارية والمهنية التي تبلغ اعدادها الان عشرات الالوف جلبت للعراق اللعنة النفطية مرة اخرى بسبب اهتمامها بإثراء نفسها وتوسيع قاعدتها في موظفي الدولة بدلا من اهتمامها باقتصاد العراق وإحياء قطاعاته الانتاجية.

الازمة المالية الحالية فرصة ممتازة لعلاج طبقة النخبة من السفلس الامريكي والبدء بإخراج العراق من اللعنة النفطية من خلال اهم الاجراءات التي يجب اتخاذها ألا وهي وضع قاعدة ضريبية تصاعدية تقلل من اعتماد الدولة والميزانية على عائدات النفط وتأخذ معظم ايرادات النخبة غير المنصفة التي تزيد عن 4 او 5 مليون دينار في الشهر. ذوي الدخل المحدود والمتوسط يقبلون بفرض ضريبة واطئة عليهم اذا كان ذوي الدخل الاعلى يدفعون نسبة ضريبة اعلى، وتقليل دخل النخبة بشكل جدي وواضح يمكن ان يشحذ الهمم بجدية الاصلاحات الجذرية التي يحتاجها العراق للخروج من فخ الدولة الريعية. ان تصل رواتب ومخصصات اعضاء مجلس النواب (فيما عدا الصرفيات) الى 10-8 مليون دينار عراقي في الشهر امر لا يقبله الشعب ولا العقل ولابد من تخفيضه مرة اخرى. وعلى طبقة النخبة والخيرين منهم ان يَفهموا ويُفهموا الآخرين بأن فقد الثلث او النصف من مكتسبات باطلة افضل من فقد الكل.
 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter