|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  23  / 1 / 2016                                 د. باسم سيفي                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الحرب الداعشية فرصة ذهبية لتعاون المكونات وإصلاح المؤسسات

د. باسم سيفي
(موقع الناس)

معارف كثيرة استنبطت من تجارب الحروب خلال القرن العشرين ليس فقط في وصف المئاسي والأضرار التي جلبتها ولكن ايضا وهو الاهم في تشخيص التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي رافقت الحروب. هذه التغيرات جلبت خيرا لمعظم الدول سواء ان ربحت او خسرت الحرب من خلال اصلاح المؤسسات ورفع الكفاءة فيها، اعطاء مزيد من الحقوق للمواطنين المحرومين، تنمية اقتصادية وبشرية متميزة، وخلق وضع نفسي يشجع على التعاون بين المواطنين ويقوي ارادة البناء والمشاركة. العراق دخل عدة حروب خلال العقود الماضية جلبت له مئاسي عديدة ارجعته عقود الى الوراء دون ان يتمكن من اصلاح مؤسساته، فهل يمكن للحرب الداعشية التي ستنتهي قريبا على الارجح ان تساعد قادته على اعادة النظر بعلاقات وبنية الامة العراقية ووضعها على طريق تنموي يفيد مواطنيها.

الدمار الذي اصاب فرنسا وروسيا وألمانيا وانكلترا في الحرب العالمية الاولى حفز تغيرات كبيرة في المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى ان القيصرية الالمانية والروسية انتهت بفعل عدم تمكنها من التجاوب مع قوى التغير الرافضة للاستبداد فكانت الثورة الروسية وتنازل قيصر ألمانيا عن العرش من الآثار المباشرة للحرب. الاضطرابات والتمزقات التي احدثتها الحرب في هذه البلدان ادت الى وعي جديد ومعرفة جديدة لدى الطبقة الوسطى والعمال والفلاحين ارغمت ساسة هذه البلدان لإجراء اصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية لصالح هذه الطبقات. فنرى زيادة الاهتمام بالتصنيع وتدخل الدولة لحماية المواطن من الاشكال السيئة للمشاريع الحرة وإعطاء مزيد من حقوق المواطنين لاختيار ممثليهم. ونرى أيضا تقدم كبير في المؤسسات الاجتماعية في توظيف العلم والمرأة في اعمال المجتمع.

من دَعم تحركات داعش ووفر السبل التي تساعدهم على نجاحات متنوعة وفي جبهات وأساليب متعددة ومنها اشاعة الفساد المالي والاداري، له بالتأكيد دوافع اقتصادية متزامنة ومتداخلة مع دوافع سياسية. الدواعش يدعون ويعملون على تمثيل المكون السني ويشيعون الشعور بالمظلومية والتهميش في اوساط المكون وهذا ساعدهم في السيطرة على مناطق واسعة وسبب تهجير الملايين من التركمان والمسيحيين والشبك والايزيديين وكذلك الكرد والشيعة والسنة وتهديم المقامات الدينية والمعالم الاثرية ومزارات الانبياء التاريخية وأيضا قتل وسبي الالاف ممن يعارض داعش ولا يبايع خليفتهم الذي نصبوه في مسرحية متقنة من الجلال والهيبة في جامع الموصل الكبير!

من الواضح لكافة القوى او معظمها التي ساهمت او تفرجت على التقدم الداعشي في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، ان هذه الانتصارات ستتحول الى هزائم واندحار لأسباب متعددة منها الطبيعة الهشة للتحالف الداعشي البعثي الذي يقود ويساهم في الحرب المعلنة، وجود قوى شعبية منظمة ومدججة بالسلاح ومستعدة لمقاتلتهم خاصة مع اعلان المرجعية الشيعية الجهاد الكفائي ضدهم، هناك رفض من كافة المكونات لداعش وأفكارهم وممارساتهم البالية واللاإنسانية فالعراق ومنذ قرون والفيات تعلم تعايش المكونات ورفض التفسيرات المتشددة للاسلام، وأيضا الظروف الاقليمية والدولية لن تسمح تقدمهم نحو بغداد وسيطرتهم على العراق.

مع تحرير او احتلال العراق اختار الامريكان وبقصر نظر ستراتيجية تحويل العراق الى مجتمع استهلاكي يعتمد على انتاج متزايد من النفط للمساهمة في تلبية الطلب العالمي وسد العجز في الامدادات من جهة، وزيادة الموارد المالية للدولة العراقية لتمويل استيراد متصاعد من المنتجات الصناعية والعسكرية والزراعية ينشط الاقتصاد العالمي من جهة اخرى، بدلا من مساعدة العراق في بناء اقتصاده مثلما فعلوا مع احتلال اليابان وألمانيا. فكانت اهم اعمال حاكمهم العسكري بريمر دعم سياسيين عطشى للسلطة والمال، تجميد الصناعات الوطنية، وفتح السوق العراقية للاستيراد بدون قيود كمركية، فتهاوت الصناعات العراقية واحدة بعد الاخرى وتوجهت الايدي العاملة نحو تعينات الدولة او الكفاح في القطاع الخاص او المقاومة والارهاب، والأخيرة وجدت من يمولها من امراء وبعثيين وشركات نفط.

فبدلا من بناء مؤسسات رصينة تؤكد وتشجع التنمية وإعمار البلاد بعد الويلات التي مرت على العراقيين ومثلما فعل الألمان واليابانيون راح ساستنا وبإشراف الامريكان ببناء مؤسسات هشة تثري النخبة وتشجع على انتشار الفساد المالي والاداري والاستقطاب المكوناتي وتدهور الانتاج الوطني في الصناعة والزراعة. فالتكالب على الدولة الريعية ونهشها اصبح هو السائد وتعمل مؤسسة او آلية التوافق والمحاصصة على مدها بالوقود حيث ان قادة المكونات توجهوا نحو تكبير حصصهم وحصة مكوناتهم مستغلين في ذلك حق الفيتو في التوافق وليس تكبير اقتصاد العراق وتعزيز التنمية والذي سينفع الجميع بدون الحاجة لتكبير حصة مكون على حساب آخر. ومع ذلك لابد من الاشادة بتمكن المخلصين من السياسيين من بعض الانجازات المهمة اهمها الحفاظ على العملية السياسية الديمقراطية ورسم سياسة نفطية وطنية حفظت حقوق الشعب العراقي ومنعت الشركات الاجنبية من المشاركة في ملكية النفط والغاز العراقي وتحقيق الارباح الطائلة.

التقدم الداعشي والحرب الداعشية تعبير عن فشل مؤسساتنا القائمة وتحد كبير للدولة العراقية والعملية السياسية الديمقراطية فيها. الفشل ليس فقط في المؤسسة العسكرية بل في كافة مفاصل الدولة من حيث انخفاض الكفاءة وشيوع الفساد وضعف القوانين والقواعد التي تسير الدولة والمجتمع، وهذا وصولا الى مجلس النواب وقيادته للدولة العراقية. التحدي ليس فقط الانتصار على داعش وإيقاف شرورهم بل معالجة الخلل المؤسساتي وفرض سلطة القانون والسياسات الفعالة لبناء المجتمع الانتاجي والمنصف الذي يضمن العيش الكريم لكافة المكونات ولا يهمش احدا والكل يعرف ماله وما عليه دون التمدد على حقوق الاخر.

حرب داعش وتقدمهم جلب مصائب كبيرة على العراق والعراقيين، مليونين مهجر تركوا بيوتهم وأعمالهم ومدارسهم ليعيشوا حياة مزرية في خيم وكرفانات ومدارس، عشرات الالوف من القتلى والجرحى من كافة المكونات العراقية، سبى وذبح واغتصاب وجزية وسلب لا تعرفها المجتمعات المعاصرة وتشمئز منها، هدم المقدسات والآثار التاريخية وإبعاد المسيحيين والشبك والايزيديين والتركمان من ديارهم التاريخية، وخسارات مادية لا يقل تقديرها عن عشرات المليارات من الدولارات. ولكن مع ذلك يمكن للحرب الداعشية ان تجلب خيرا مثلما فعلت معظم حروب القرن العشرين اذا وعى قادة العراق من السنة والشيعة والكرد خطورة ما يجري وأهمية القرارات الوطنية وإجراء الاصلاحات الضرورية في المجتمع العراقي على اساس الدستور والمؤسساتية ومصلحة العراق بجميع مكوناته.

لم نستفد كثيرا من حرب 2003 وازالة الدكتاتورية الفاشية بل دخلنا او أٌدخلنا في نفق جديد من انعدام الامن وعدم الاستقرار والاعتماد الريعي على النفط، فهل ستنقذنا حرب الدواعش وتجعلنا نصحوا ونبدأ بإجراءات ضرورية وبالأخص في الكف عن استغلال الدين والقومية ومظلومية المكون في السياسة لتلبية مصالح شخصية، وبناء المؤسسات الجيدة وتطويرها لحشد الامكانيات في زيادة الانتاج الوطني الصناعي والزراعي وتحسين اوضاع الفقراء والعاملين في القطاع الخاص على اسس المواطنة والاستدامة؟

اول تحرك كبير لداعش في العراق حصل قبل الانتخابات التشريعية باحتلال معظم مناطق ومدن الأنبار والاستعداد لأخذ بغداد عن طريق نوع من الانقلاب والتحرك العسكري بمساعدة ما موجود من قوى ومجاميع معادية للعملية السياسية في بغداد وهم كثيرون بفعل السياسات الغير انمائية والمشجعة للتميز بين المواطنين والتفقير لمن لا يلتحق بعمل في الدولة العراقية. الحكومة المركزية تعاملت بحكمة مع التحرك وأفشلته من خلال عمل امني سريع في بغداد وضواحيها وضرب داعش في الأنبار بالتعاون مع الحكومة المحلية دون اللجوء الى هجوم عشوائي على المدن والأحياء التي احتلتها داعش. الانتخابات جرت في موعدها وبمهنية وشفافية عالية حسب تقييم المراقبين الدوليين وأسفرت عن تقدم ملحوظ لأتلاف دولة القانون ومن يقترب منها افرادا او منظمات. التحرك الاكبر لداعش جاء بعد الانتخابات بأسابيع عن طريق عبور آلاف من المقاتلين الحدود السورية واحتلال الموصل وأطرافها خلال أيام حيث رافق العملية انهيار كامل للقوى الامنية في المنطقة من شرطة محلية واتحادية مجهزة بالسلاح ومن جيش كامل العدة والعدد.

خلال اشهر التحق بداعش عشرات الالوف من المهمشين في العملية السياسية والاقتصاد الريعي وتمكنت من السيطرة على معظم المناطق ذات الاغلبية السنية وأصبحوا يهددون بغداد وثقلها الشيعي وأربيل وثقلها الكردي. في هذه الاثناء احست القوى الشيعية وبعض القوى السنية بالخطر وبدأت بتحشيد قواها العسكرية من المتطوعون افرادا ومنظمات وشكلوا ما يسمى بالحشد الشعبي وقوات العشائر وكلاهما اصبحا وبسرعة قوى ضاربة فعالة وداعمة للجيش النظامي قتاليا ونفسيا. اندحار داعش بدأ مع هذه الحشود ومع تحرك معظم القوى السنية العربية والكردية ضده ميدانيا وسياسيا وأيضا مع الدعم العالمي ضد هذا التنظيم وأساليبه اللاانسانية وان كان بعضهم نفاقا وهمهم زيادة نفوذهم في بغداد.

المهم الآن دراسة ونقاش ما بعد داعش فحربهم أفرزت وستفرز احداث ومتغيرات ووعي وإمكانيات جديدة تمكن ساسة العراق ان كانوا مخلصين للعراق بإجراء اصلاحات جوهرية تضع العراق على جادة التنمية والعدالة والنهوض رغم محاولات القوى المعادية والمَصلحيين لإعاقة التغيرات المطلوبة في مؤسسات وسياسات الدولة. الانتشار السريع لداعش وتقدمهم حتى مشارف بغداد اثبت فشلا كبيرا ليس فقط في المؤسسة العسكرية بل في جميع مؤسسات الدولة الرسمية وبالأخص السياسية والاقتصادية. فرغم الكلام عن التوسع الزراعي والصناعي نرى ازدياد اعداد العاطلين ومن يعاني من شغف العيش ورغم وجود ثلاث تنظيمات لمحاربة الفساد نرى العراق بين أسوأ البلدان التي ينتشر فيها الفساد ورغم حديث الوطنية والشراكة الحقيقية نرى معظم القوى السياسية تعمل على فشل الاخر والمصلحة الذاتية وليس المنفعة العراقية.

مليون مسلح متطوع لمساندة العمل العسكري ضد داعش ومعظمهم عاطلين عن العمل ومليونين مهجر يعانون من انواع المشاكل وازدياد الوعي العام بفشل مؤسساتنا لابد ان تفرض او تحفز تغيرات كبيرة في مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية. اعمال داعش الوحشية طالت مواطنين عراقيين من كافة المكونات وهذا يمكن ان يزيد من التعاون بين المواطنين والأٌلفة بين المكونات ويجبر قادتهم على تخفيض سقف مطالبهم والبحث عن مشتركات وسطية والتعاون في صناعة القرارات التي تفيد الشعب العراقي بكافة مكوناته وهنا لابد من التوجه نحو السياسات التنموية.

اول الاصلاحات يمكن ان نراها في المؤسسات السياسية هو الابتعاد عن، او الموازنة بين، مبدأ التوافق وتبني مبدأ الاغلبية في اتخاذ القرارات وتشريع القوانين ثم تفعيل مجلس النواب ليؤدي واجبه في التشريع والرقابة وأيضا توزيع الصلاحيات افقيا بين الوزارات والهيئات وجعلها مستقلة عن التأثيرات الحزبية والمكوناتية وعموديا بين المركز والحكومات المحلية لضمان مشاركة وكفاءة أكبر في العمل. ثاني الاصلاحات يجب ان نراها في المؤسسات الاقتصادية حيث اصبح واضحا بأن سياسة التعيينات بالدولة العراقية وتبذير ايرادات النفط فاشلة ولابد من احياء قطاعات الصناعة والزراعة الانتاجية، وهذا يتطلب أشياء كثيرة من اهمها دعم الانتاج وتقليل التكاليف وإنشاء مؤسسة كمركية فعالة وتعمل بسيطرة مركزية على كافة المراكز الحدودية. وثالث الاصلاحات المنتظرة هي في تحقيق عدالة معقولة في توزيع الموارد وحماية الضعفاء وتوفير العمل.

الامن يأتي من قناعة المواطنين وتحسن اوضاعهم المعاشية وليس من الدولة البوليسية/العسكرية، فتحسن معيشة كافة او معظم الناس اهم بكثير من زيادة اعداد العاملين في الاجهزة الامنية التي اثبتت عجزها عند التسيب وسوء القيادة وانتشار الفساد ونجاحها عند حسن القيادة والانضباط والتدريب. ما رأيناه ونراه من نجاح وفشل يشير الى ضعف المؤسساتية وقوة الفردية في الجيش والشرطة وأيضا في كافة مرافق الدولة، وهذا امر خطير يجب معالجته. عمل هذه المؤسسات وفي كافة المستويات جماعي ويتطلب مشاركة في العمليات والتدريب المستمر وما وجود عشرات الالوف من "الفضائيين" إلا دليل ليس فقط على انتشار الفساد بل وأكبر منه وهو اللاعمل وان كان الجندي والشرطي في مكان عمله.

من المرجح ان تكون ظاهرة "الفضائيين" موجودة في معظم مرافق الدولة وتأخذ اشكال مختلفة وهي جزء من الفساد المالي والإداري المستشري في العراق والذي بدأ السيد رئيس مجلس الوزراء في محاربته ونأمل ان يكون جادا ويحشد النظيفين والشعب في هذا العمل الجبار لاجتثاث الفساد الذي يمكن ان يفشل بسهولة اذا لم يتم تقوية اجهزة مكافحة الفساد وسُمح لتدخل السياسيين والمتنفذين في التحقيق والقضاء. الفساد موجود في التعيينات الانسية والفضائيية، في الرواتب العالية التي وضعتها النخبة لانفسها، في تمشية معاملات الناس بعد تعقيدها، في الملايين من البطاقات التموينية التي تصدر لأشخاص يسكنون في الخارج او غير موجودين او فعليا لا يحتاجونها، في الضمان الاجتماعي الذي يشمل بعضا من موظفي الدولة!، في الكمارك والضرائب، في العقود والمشتريات، وفي سرقة كهرباء وماء الدولة.

الحرب الداعشية توفر اذن فرصة ذهبية لإجراء اصلاحات ضرورية في المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لجعلها قادرة على اتخاذ القرارات النافعة للعراق ووضع العجلة الاقتصادية على نمو الانتاج الصناعي والزراعي وليس تعيينات الدولة والبطالة المقنعة، وعلى توفير الامن وتقليل الفساد المالي والإداري في العراق وبدرجة كبيرة من خلال عمل مؤسساتي ذو فعالية مستدامة. ومع ذلك يبقى هناك خطر عودة المناكفات السياسية بعد الانتصار على داعش وضياع فرص الاصلاح إذا لم يفي ساستنا بقسمهم في خدمة العراق.
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter