|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  22  / 11 / 2018                                 د. باسم سيفي                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ميزانيتكم لا تثلج صدورنا

د. باسم سيفي *
(موقع الناس)

و "عادة حليمة على عادتها القديمة" فما ان ازدادت واردات النفط حتى نسى المسؤولين كل ما قيل عن الدولة الريعية وضرورة تنويع الاقتصاد العراقي وانغمروا في زيادة تعينات وصرفيات الدولة بتمويل ايرادات النفط وبالتالي ايغال العراق في الدولة الريعية التي تدهور ادارة موارد العراق الطبيعية والبشرية وتعزز الفساد واللامسؤولية في مرافق الدولة. حدث هذا في الزمن الديكتاتوري حين تهدم اقتصاد العراق بفعل السياسات الهوجاء وتحول الدولة العراقية الى دولة عصابة، وفي الزمن الديمقراطي حين تتابعت الميزانيات الانفجارية منذ 2006 تزامنا مع زيادة ايرادات النفط، وتوجت عام 2014 بأكبر ميزانية في تاريخ العراق تفلشت سريعا مع انخفاض اسعار النفط العالمية. يفترض باننا وقادتنا تعلمنا الكثير من مشكلة الدولة الريعية ولكن يبدو بأن الشعب العراقي سيلدغ من نفس الجحر مرة اخرى حيث نرى تصاعد الاصوات لزيادة الصرفيات ومعظمها تشغيليى وعلى تعيينات حكومية مع تحسن اسعار النفط العالمية.

ليس من الصعب ان نرى بأن ميزانية 2019 هي صورة مضخمة لميزانية 2018 ولكن بعجز اقل وتأخذ بنظر الاعتبار زيادة الاسعار والواردات النفطية. الميزانية تراجع الان من قبل مجلس النواب بالتعاون مع الحكومة ومشاركة البنك المركزي. مختصر الميزانية وكما اتوقعه بعد المراجعة ان تكون باجمالي حوالي 130 ترليون دينار، ثلاثة ارباعها تشغيلية والربع الرابع استثماري ولكن معظمه سيكون شبه تشغيلي في البنى التحتية. تمويل الميزانية سيكون على الارجح حوالي 100 ترليون دينار من موارد النفط و 12 ترليون موارد دولة غير نفطية وعجز لا يزيد عن 20 ترليون يغطى معظمه من صعوبة تنفيذ الميزانية لاكثر من 90%. ما نراه في الميزانية، وكما نناقشه ادناه، بعيد جدا عن سياسات رصينة وجادة لاخراج العراق من فخ الدولة الريعية.

قبل فترة اكتشفت بأن احد الاصدقاء المتنورين لديه قابلية واسعة لتبرير الاحداث والامور وعدم الاعتراف بالخطأ وتصحيحه حتى وان كان ذلك واضحا لكل ذي بصيرة. وعند التفكير في الموضوع وجدت انتشارا واسعا لهذه العقلية لدى الراعي والرعية في العراق رغم اننا نردد بشكل مستمر وبقناعة بأن "الاعتراف بالخطأ فضيلة". معظم ساستنا يبدو انهم من هذا المعدن فرغم حديثهم وحتى قناعتهم بخطورة الدولة الريعية فهم لا يعملون بشكل جدي لاخراج العراق من هذه المعظلة ويبررون ذلك بأن ما يقومون به يكفي او ان الظروف لا تسمح باجراءات جذرية ولابد من التوسع بالميزانية التشغيلية وزيادة صرفيات الدولة غير الانتاجية. وما يزيد من المصيبة بلوة ان برنامج الحكومة الجديدة بقيادة الاقتصادي الدكتور عادل عبد المهدي، والذي لديه مساهماته في تأكيد ضرورة اخراج العراق من الفخ الريعي، لا تتطرق بشكل جدي، ولا حتى غير جدي، لموضوع دولة العراق الريعية وضرورة تحرير الاقتصاد العراقي منها.

متجددات عديدة، ومنها المطالبات بتحسين الخدمات وزيادة فرص العمل والقضاء على الفقر وبعض التخصيصات لاعادة بناء المحافظات المتضررة من اعمال داعش الوحشية وتحرير الاراضي العراقية منهم، تفرض زيادة الميزانية التشغيلية والميزانية الاستثمارية ولكن ذلك يجب ان لايكون على حساب فقدان بوصلة اخراج العراق من الفخ الريعي للنفط وتأكيد بناء اقتصاده المتعدد. وهذا يعني العمل على زيادة الميزانية والانتاج الوطني بالاعتماد على زيادة الايرادات غير النفطية وليس الايرادات النفطية. وهنا يقود الى ما نقترحه من زيادة الميزانية الى 140ـ150 ترليون دينار مع بقاء تمويل النفط ثابت وبحدود 100 ترليون دينار.

ما نراه ضروريا في ميزانيات العراق السنوية ستة توجهات لابد من تنفيذها بدرجة جيدة من المصداقية اذا كنا نريد فعلا تحرير العراق من الفخ الريعي ووضعه على جادة النهوض، وهي تقليل الهدر العام وتحجيم الصرفيات المضرة او التي لا نفع منها، وضع قاعدة اساسية لزيادة موارد الميزانية غير النفطية ؤبالاخص ضريبة الدخل والارباح والكمارك، تحسين ادارة ممتلكات وخدمات الدولة بدرجة كبيرة، دعم القطاع الخاص بشكل جدي وهذا يشمل خلق بيئة جيدة للاستثمار والتوسع وايضا رواتب لكافة العاملين بالقطاع الخاص، ودعم القطاع الصناعي والقطاع الزراعي ليحققا معدل نمو سنوي لا يقل عن 10%. الميزانية العامة السنوية يجب ان تكون برنامج عمل لما يمكن ان يكون في تحسين اداء الدولة من اجل الخروج من فخ دولة النفط الريعية وليس مجرد توزيع موارد النفط على القطاعات والفعاليات المختلفة. وهذا يتطلب من المسؤولين اهداف واضحة ومدعومة بتقديرات كمية لكي نتمكن من تقييم عملنا ومحاسبة المقصرين.

الغضب الشعبي من سوء ادارة موارد العراق الطبيعية والبشرية ارسل في اواسط 2018 رسالتين واضحتين لساسة البلاد والطبقة الحاكمة تحذرهم من نتائج وخيمة اذا لم ينتبهوا ويعالجوا التقصير الحاصل اتجاه الشعب العراقي في المعيشة والخدمات. الرسالة الاولى هي مقاطعة الانتخابات التشريعية حيث شارك اقل من نصف محقي التصويت في الانتخابات والرسالة الثانية هي المظاهرات والانتفاضة التي عمت جنوب العراق وقد تثار مجددا وتتمدد الى الاجزاء الاخرى، وان حصل ذلك وتناغم مع التحركات الاخيرة لخلايا ارهابيي داعش فهناك مصيبة قادمة، حيث ان الدوائر الاجنبية التي تريد افشال التجربة الديمقراطية العراقية ليست بالضعيفة ولا يعوزها المال والقوة ويساندهم رهط داخلي من عشاق دكتاتورية صدام والبعث الفاشي. لذا نرى اختراق واضح من سفلة مأجورين وجهلة لمظاهرات الجنوب الشرعية المطالبة بتحسين المعيشة والخدمات.

مع تحسن الوضع المالي للعراق هناك مجال واسع لاحتواء الازمة من خلال حل الكيس قليلا والصرف من خلال خلايا ازمات فعالة ونظيفة تعمل على مستويات متعددة (وطنية، محافظة، قضاء) ومديات قصيرة (اسابيع) ومتوسطة (اشهر) ويمكنها تحسين الخدمات ولو قليلا وايضا امتصاص بعض البطالة المستفحلة. ولكن هذا لا يكفي طبعا فإن حالة عدم الرضى لدى المواطنين عن العملية السياسية والساسة بشكل عام، بسبب تصاعد البطالة والفوارق الاقتصادية وسوء الخدمات وانتشار الفساد، تحتاج الى اعادة ثقة محكمة وواضحة ويجب ان تواجه باجراءات جيدة وحاسمة تشير الى جدية قادتنا من السياسيين الذين عليهم ان يعترفوا بتقصيرهم تجاه الشعب العراقي. اعتقد بان اهم هذه الاجراءات والتي يفترض ان يعلن عنها من قبل ساستنا الجدد وتكون واضحة وجزء من ميزانية الدولة كبرنامج عمل هي:

اولا، تخفيض الهدر العام في صرفيات الدولة، وهنا لا نبالغ ان قدرنا امكانية تخفيض الصرفيات بـ 10 ترليون دينار من خلال تحجيم المشاريع الوهمية والفاسدة وحتى غير الضرورية في المرحلة الحالية، تخفيض رواتب وامتيازات النخبة السياسية والادارية والمهنية، ضبط وتخفيض الايفادات والصرفيات الخارجية، وضع حد لعمليات التلاعب والتزوير من خلال الوصولات المزورة والاسعار العالية، وغيرها. تخفيض رواتب وامتيازات النخبة، وبالاخص اعضاء مجلس النواب والدرجات الخاصة، له اهمية خاصة لانه من جهة شوكة في العين عندما يبلغ دخل الفرد منهم مائة ضعف من دخل من هم قرب خط الفقر ومن جهة اخرى شجع ويشجع على زيادة الرواتب واجور العمل في كل مفاصل الدولة بدون حصول على زيادة في الانتاجية.

ثانيا، وضع اساس لمنظومة ضرائب كفوئة تنظم وتشجع ايرادات الدولة غير النفطية واهمها ضريبة الدخل والكمارك والسلع المضرة للمجتمع مثل السكائر والمشروبات الروحية. تشريع قانون لضريبة دخل تصاعدية يشمل الرواتب والربح له اهمية خاصة حيث انه كان ولازال اهم مصدر لتمويل الدولة في البلدان الطبيعية. من المعقول ان نضع نظام ضريبة دخل يبدأ بـ 5% للراتب الذي لايزيد عن مليون دينار في السنة ويزداد الى 10% من زيادة الراتب عن المليون و20% على زيادة الراتب عن مليونين، وهكذا يستمر التصاعد لتصل الضريبة لاكثر من 50% من الزيادة في الدخل عن 5 مليون دينار في الشهر. هذا ويمكن من خلال ضريبة الدخل التصاعدية ان نسترجع بعض ما تم ويتم سرقته بشكل شرعي وغير شرعي في الرواتب والامتيازات العالية.

ثالثا، تحسين ادارة ممتلكات وخدمات الدولة وضبط الايرادات منها وبالاخص عقارات الدولة وخدمات الكهرباء والماء التي تعاني في الوقت الحاضر من هدر كبير يشجع على عدم الكفائة وزيادة وتحسين هذه الخدمات. عقارات الدولة من اراضي وابنية ومنشئات ليست قليلة ويمكن ان تجلب موارد عظيمة لخزينة الدولة اذا احسن في ادارتها وتوقفنا عن اهمالها ووضعنا ضوابط محكمة وشديدة في جباية ايراداتها. فمثلا ادارة ملف الكهرباء مخجل فهو من جهة لا يجلب 10% من تكاليف انتاجه وتوزيعه ومن جهة اخرى يعمل على هدر كبير في الاستهلاك خاصة والنسبة العالية من المواطنين الذين يستهلكون كثير من الكهرباء مجانا وبشكل غير شرعي.

رابعا، الاهتمام الجدي بالقطاع الخاص وتشجيعه على الاستثمار والتوسع ليصبح ماكنة زيادة الانتاج الوطني من خلال خلق بيئة مشجعة لتوسع القطاع الخاص والدعم المباشر للعاملين فيه. المشكلة الكبيرة في القطاع هو ضبابية كمية انتاجه وقيمته من البضائع والخدمات وحلها تشجيع انشاء الشركات وتبسيط تعليماتها وتكاليفها. تخصيص راتب قدره 200 الف دينار بالشهر لكل العاملين في القطاع الخاص، واقدر عددهم بـ 4 مليون شخص بين عامل وحرفي وتاجر وصاحب عمل، يمكن ان يقفز بالقطاع الخاص الى محل الصدارة في زيادة القيمة المضافة في الناتج الوطني حيث يسبب تخفيض تكاليف العمل في الانتاج ويزيد من امكانية المنتوج المحلي من منافسة المستورد في كثير من السلع والخدمات. ان تعطى هذه الرواتب للعاملين بشركات مسجلة سيقود الى انفجار في عدد الشركات ويضع قاعدة رصينة في حسابات انتاج القطاع الخاص. الزيادة في الصرفيات حوالي 10 ترليون سنويا وكلها تشغيلي ويسبب عدالة افضل في التوزيع.

وخامسا وسادسا، تخصيص 10% من ميزانية الدولة السنوية لموارد النفط والغاز لدعم كل من القطاع الزراعي والقطاع الصناعي ليحقق كل منهم نمو سنوي لا يقل 10% يمتص البطالة ويحسن مستوى المعيشة والدخل الوطني. بدون زراعة وصناعة لا يمكن للعراق ان ينهض ويصبح بلد طبيعي متعدد الانتاج. هذين القطاعين شهدا تراجع كبير خلال العقود الماضية فبعد ان كانا يشكلان اكثر من نصف الناتج القومي اصبحا يشكلان اقل من 10% من الناتج القومي وهو امر خطير ويجب ان يعالج. هذه الفقرة تعني زيادة الميزانية 20 ترليون سنويا وقد تكون نصفها استثماري والاخر تشغيلي وسيكون من الصعب على القطاعين استيعابها وبشكل ايجابي عام 2019، ولذا من المعقول ان يخصص للسنة القادمة نصف هذا المبلغ. المهم تحديد المشاريع والسياسات التي تشجع فعلا على توسع القطاعين ووضع آلية للسيطرة والتقييم، وليس رمي الاموال على القطاعين وعلى امل النجاح.

الاجراءات اعلاه تعني بمجملها زيادة الميزانية العامة 10ـ20 ترليون دينار، الاجراء الاول يخفض الصرفيات 10 ترليون والاجراء الثاني والثالث يزيد من موارد الدولة غير النفطية 20 ترليون دينار واما الاجراءات الثلاثة الاخيرة فتعني زيادة الصرفيات 20ـ30 ترليون دينار. تأثير ذلك على الانتاج المحلي وتشغيل الايدي العاملة العاطلة سيكون كبير جدا. فلو نجحنا في جعل ثلث هذه الميزانية استثماري او جعل استثمار قطاع الدولة والقطاع الخاص 50 ترليون دينار فسيزداد الناتج الوطني بما لا يقل عن 15% وقد يزيد عن 30% اذا ما احسنا التعامل مع المضاعف الكينزي حيث الزيادة في الناتج المحلي تعادل الاستثمار مضافا اليه زيادة الاستهلاك بسبب الاستثمار.

هذه المقترحات الاساسية يفترض ان يتوافق عليها القادة المخلصين والنجباء لاخراج العراق من الفخ الريعي وتكون اساس عمل الحكومة الحالية وميزانيات العراق للسنوات الاربعة القادمة. الاجراءات والاهداف الموضوعة لها ليست سحر وتمني بل يمكن بلوغها اذا ما كان ساستنا الجدد حريصين على العراق والتنمية فيه وخدمة المواطن. ما نحتاجه هو الارادة والمنهج والاليات العملية في مؤسسات الدولة المتعددة وذات العلاقة وفق اهداف كمية ونوعية محددة ومتفق عليها زمنيا.

 

* معد ومحرر مجلة قضايا ستراتيجية
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter