|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  10  / 11 / 2016                                 د. باسم سيفي                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

عاشوراه والاربعينية، ذكرى الحسين الثائر والمصلح ام الحسين المظلوم والمسكين؟

د. باسم سيفي
(موقع الناس)

في الذكرى السنوية لاستشهاد الامام الحسين بن علي تتجدد جراحات ومشاعر عميقة متباينة في الامة الاسلامية بشكل عام والمذاهب الشيعية بشكل خاص، محورها رفض الحكم الجائر والمطالبة باصلاح الامور على قاعدة من رأى منكم اعوجاجا فليصلحه في يده ولسانه وقلبه و/او تدفق المشاعر الانسانية في التعاطف مع مأسات الحسين في مقتل اصحابه وأهل بيته بين يديه واحدا بعد اخر وأفضعها مقتل ابنه الرضيع عبد الله ثم جز رأس الامام الشريف ووضعه على الرماح. بين هذا المحور وذاك توجد مصالح اقتصادية واختلافات فكرية بين حكم العقل لاصلاح الامور وتحسين اوضاع الامة من خلال استخدام ذكرى الحسين كعامل تعبوي وبين حكم النقل والجمود والتخلف لاستخدام ذكرى الحسين كعامل ارتدائي وتعطيلي يؤكد النواح والحزن وجلد الذات طلبا للمغفرة على ما فعله الاجداد من خذلان لحفيد رسول الله.

لم يكن معاوية بن ابي سفيان امام المسلمين بل اغتصب الخلافة لنفسه ولبني امية بالحيلة والمكر والتآمر فكان قتل مؤتمني الامام علي مثل مالك بن الاشتر ومحمد بن ابي بكر الصديق ثم الحسن بن علي بن ابي طالب. وعندما اورث الخلافة لابنه الفاسق يزيد الذي خير الناس وقادة المسلمين بين القتل والمبايعة ثبت اركان الظلم والكسروية (وراثة الحكم) في امة الاسلام وخلق جدلا واسعا في اهلية يزيد بالخلافة وضرورة الخروج عليه. ضيق يزيد على الامام الحسين خيار المبايعة او القتل فكان قول الحسين "ومثلي لا يبايع مثله" وخرج يطلب الثورة ضد الظلم وحكم يزيد وبني امية فكانت صرخته الشهيرة "انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي" فوضع بذلك درسا للمسلمين والبشرية في المبدأية والتضحية. وعندما ادرك الحسين احاطة جيش يزيد وابن زياد بجماعته بكربلاء وان اهل الكوفة لن يتحركوا معه طلب من اصحابه السبعين ان يتركوه ويستسلموا فالقوم يطلبونه ولكن اصحابه أبو ذلك وفضلوا الشهادة بين يديه في سبيل الحق فأعطوا عمقا وبعدا لملحمة الحسين في الاباء والتضحية والشرف الرفيع.

منذ واقعة الطف بكربلاء وذكرى الحسين تتجدد بجانبيها الثوري وطلب الاصلاح من جهة ومأساوية الحدث فيما عاناه الحسين وأصحابه من جهة اخرى، بين شد وجذب بين هذه الجهة وتلك. هذا التجديد عزز المذهب الشيعي وساعد على انتشاره كمذهب اهل البيت ينشد الاصلاح والتربية الاخلاقية لخير المجتمع. شيعة علي او حزب علي نشأوا في العراق وتأثروا بالواقع الديني الاكثر تعقيدا الذي كان سائدا في العراق قبل الاسلام وازداد تعظيمهم لعلي بن ابي طالب وسموه خاصة وان الامام قدم في الكوفة حين توليه الخلافة مثالا رائعا للحكم الاسلامي الرشيد حيث سواد التسامح والعدل وفكرة الحاكم خادما للناس. فقد كان عليه السلام يعيش حياة زهد وهو خليفة ويستصعب الاكل وهناك من الرعية جوعان ويستشير اصحابه في الامور الدنيوية ولم يكن متشددا في الامور الدينية ويعرف قول الباري "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" خير معرفة. حكمه العظيمة مثل "القرآن حمال اوجه" و"كلمة حق يراد بها باطل" و "أتريدونني ان اكسب الحق بالباطل" اصبحت ولازالت منارا للناس في قبول الاختلاف والتعددية، تشخيص الانتهازية والاعمال الباطلة التي تستغل ما هو حق، ورفض فكرة الغاية تبرر الوسيلة.

لقد ادت شعائر تكريم الحسين الى جعل المأسات التاريخية الى حدث رمزي له اهمية اساسية في الرؤية الدينية الشيعية وتركيزها على الصراع الدائم والمستمر بين الخير والشر في هذه الدنيا الفانية وضرورة الاصطفاف مع الحق والعدل ومقارعة الظلم وان كان الحاكم مسلما وحتى لو كان على المذهب الشيعي، والذي اسس لاجتهاد مستمر وثابت في المذهب الشيعي مستخدما العقل والمنطق بالاضافة للتفسير الباطني الروحي لمواجهة واقع متغير مع تغير المكان والزمان. هذا الموروث الشيعي استمر في زمن ائمة الشيعة ومن جاء من بعدهم من العلماء المجتهدين واصبحت الذكرى الحسينية مرتكزة على ثلاثة اسس بشكل عام دون العمل المسلح واستلام السلطة.

1. التذكير بما اصاب الامام الحسين واهله واصحابه من ظلم وجور على ايدي حكام جائرون
2. التوعية والنقاش في مسائل اخلاقية وسلوكية تخص الرعية من الالتزام بالامانة وحتى الاهتمام بالبيئة
3. طلب الاصلاح وتوجيه المطالب/النصائح لما هو اعوجاج في السياسات الاجتماعية والاقتصادية

ما نراه في هذه الايام من تركيز حول هذه الاسس يتمحور بالدرجة الرئيسية حول الاساس الاول الى درجة المغالات في كثير من الاحيان، مثل ما نراه في مسألة التطبير وتعطيل العمل والحياة اليومية دون وجه حق وعلى حساب اقتصاد المجتمع. نعم توجد هنا وهناك مجالس حسينية ونقاشات اعلامية وتوجيات مرجعية واجتهادية تركز على الاساس الثاني في الحكمة والموعظة الحسنة والجدال المنطقي وقبول الاختلاف ولكنها ليست بالدرجة المطلوبة اذا فكرنا باستغلال حدث جلل له رمزية كبيرة ومتصاعدة (خاصة وان زيارة الاربعينة والمشي الى كربلاء اصبح لها الان بعد عالمي انساني لا يخص الشيعة فقط) في بناء المجتمع الفاضل والعادل ولو نسبيا. اما الاساس الثالث فنراه تقريبا معدوم لان الحكم في العراق اصبح محسوبا على الشيعة، وفي مواجهة عداء اعمى للنظام الجديد في العراق تكون لدى شيعة العراق دفاع اعمى عن هذا النظام رغم ان معظم ممثليهم في الدولة مهتمين بمصالحهم الاقتصادية والاجتماعية وليس بمصالح فقراء الشيعة والعراق. فمع ان سياسيي ومهنيي واداريي الشيعة في طبقة النخبة وضعوا وضمنوا دخلا لانفسهم يزيد عن خمسين او حتى مائة مرة دخل الفقير العراقي ومعظمهم من الشيعة، لم اسمع في المواكب والمجالس الحسينية من يطلب عدالة في التوزيع وتخفيض رواتب ودخل اعضاء طبقة النخبة.

ان كان علي شريعتي (توفى 1977) قد شخص الصفويين كمحرفين للمذهب الشيعي والذكرى الحسينية من التوعية الاخلاقية والمطالبة بالاصلاح في سلوك او سياسة الحاكم الى التركيز على تضخيم مأسات الحسين والحزن المبالغ على مقتله وممارسة شعائر جلد الذات المرفوضة في الاسلام من اجل كسب المغفرة وشفاعة الحسين لدخول الجنة، فان كارن ارمسترونك في كتابها "معارك في سبيل الاله" (2000) تضع هذه المهمة تحديدا على كبير مجتهدي الشيعة المجلسي (ت 1700 م) حيث انها تراه قد عزز الجمود الديني وفكرة الشفاعة وحارب التوجه العقلي والعلمي وممارسة الفلسفة والتصوف ومنها اضطهاد مدرسة اصفهان العلمية الصوفية التي اسسها ميردماند والملا صدرا في القرن السابع عشر ميلادي. قبل عدة سنوات كنت ارى في شوارع الكاظمية شعارات متشددة ومتشنجة تفتقد العقل والذوق معا مثل تارك الصلاة كذا وكذا وشارب الخمرة كذا وكذا ومنها "قال الحسين : من اجارني استجبت له وان كان في قعر جهنم" اي ان الحسين سيشفع للقاتل والسافل وسارق مال الايتام والناس اذا صاح يا حسين ومارس جلد الذات او تبرع لموكب او "جدر قيمة".

منذ سقوط الدكتاتورية عام 2003 وبالرغم من ان المرجعية الدينية الشيعية بقيادة السيد السيستاني قد ارتأت احياء التراث الشيعي في التوازن بين الاسس الثلاثة اعلاه وعدم تدخل الدين بالدولة بشكل مباشر بل الاعتماد على النصح، اي بناء الدولة المدنية من الناحية العملية، فان من يدعي تمثيل الشيعة سيطر، بالتعاون مع مدعي ممثلي السنة والكرد، على مقاليد السلطة واسس لحكم يسوده الفساد واللاعدالة واللاتنمية في توزيع موارد الدولة وطمس اهم اساس في الذكرى الحسينية وهو المطالبة بالاصلاح والعدالة حتى وان كان الحاكم مسلما ويتبع المذهب الشيعي، مع تأكيد اساس الحزن والتألم وحتى جلد الذات لكسب شفاعة الحسين والذي اصبح اشبه بصكوك الغفران التي كانت الكنيسة تبيعها للناس في القرون الوسطى. ففي المواكب والمجالس الحسينية لا نسمع نقدا صريحا لما تفعله النخبة القائدة من سوء ادارة العراق بل نرى التبجيل والاحترام لمن يزور هذه المواكب والمجالس من اعضاء هذه النخبة.

صراع الخير والشر في عراق اليوم على اشده في محورين. الاول محور داعش الذي يريد فرض فكره المتشدد الهمجي والبعيد عن روح دين الرحمة الاسلام على اهل العراق الذين تعلموا عبر قرون السماحة بين الاديان والمذاهب، وقريبا ننتهي من هذا الصراع بدحر داعش واعوانه بفضل الحشد الشعبي الوطني الذي ظهر من حب الحسين والعراق ورفض الخنوع. الثاني محور الفساد واللاعدالة وسوء ادارة الدولة من قبل طبقة النخبة القائدة من سياسيين ومهنيين واداريين جائوا بفعل محاصصة بين مدعي تمثيل مصالح الشيعة والسنة والكرد في الدولة العراقية. هذا المحور هو الذي سبب عدم استقرار الوضع العراقي ومجيء داعش للعراق ويجب ان يكون المحور الاهم في الذكرى الحسينية في تأكيد الاصلاح واقامة العدل. المطلوب اليوم من حكماء العراق وعلى رأسهم السيد السيستاني ان يعيدوا ويفرضوا التوازن في اسس الذكرى الحسينية.



 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter