|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  16  / 9 / 2018                                 د. بهجت عباس                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

النسب والجينات وشجرة العائلة
هل نرث جينات أجدادنا الذين عاشوا قبل 500 سنة أو أكثر؟

د. بهجت عباس  (*)
(موقع الناس)

يرث المرء صفات أبويه نتيجة الجينات التي يرثها منهما ، هذه الجينات التي ورثها أبواه من أبويهما أيضاً . والحقيقة أن الجسم هو صَنعة الجينات أو نتاجها ، مع تأثير البيئة بظروفها المختلفة عليها ، والتي قد تؤدي إلى تغييرها أو تشويهها . فهل ترانا نحتفظ بالجينات التي كان يملكها آباؤنا الذين عاشوا قبل ألف سنة أو أكثر ؟ لما كان المرء نتيجة صَنعة الجينات ، وهذه الجينات التي ملكها جدنا الذي عاش قبل ألف سنة ولسنا نملكها نحن ، هل نستطيع القول إننا أبناؤه خَـلْـقاً وخُـلُـقاً ؟ وإذا كانت الأم تهَبُ نصف الجينات أو أكثر ، هل يمكننا القول إننا من نسل (الأب وأجداده القدامى فقط) ولا نذكر للأم وأجدادها أيَّ دور، بل هي مطويّة في عالم النّسيان؟ ولكننا قبل الخوض في هذا الأمر علينا أن نفهم ما هو الجين وكيف يعمل ، ومن هنا نأتي على وحدة الجسم البشري التي تحوي الجينات أجمعها وتنحصر فيها كلّ التفاعلات والفعاليات ، ألا وهي الخلية البشرية .

الخلية البشرية

الخلية كائن حيّ قائم بذاته ، لها فعالياتها وإنتاجها ، فبعض الأحياء ، كالبكتريا مثلاً، هو ذو خلية واحدة ، ولكنّ جسم الإنسان يتكوّن من 100 تريليون خلية تقريباً (التريليون هو مليون المليون) ، ويبلغ معدل قطرها حواليْ عشر المليمتر ، ولكنَّ أحجامها مختلفة . توجد نواة في داخل كل خلية (عدا خلية الدم الحمراء وصفيحات الدم) محاطة بالسايتوبلازم الذي يحتوي على كثير من الجسيمات الصغيرة مثل الميتاكوندريا.. تحتوي النواة على مجموعتين من المواد الجينية تدعى كل واحدة منهما بالجينوم . يتكون هذا الجينوم من الكروموسومات ، التي يبلغ عددها في كل جينوم 23 كروموسوماً (46 كروموسوم في الجينومين) ومجموعة دي. أنْ. أيْ (دنا
DNA). فهناك نسخة من الجينوم مورثة من الأم ونسخة أخرى مورثة من الأب . تتكاثر هذه الخلية ، الجسمية ، بعد أن تستنسخ الكروموسومات ذاتها فتتضاعف ، حيث ينتج عن ذلك خليتان متشابهتان ، تحتوي كل واحدة منهما على نفس العدد من الكروموسومات. ويسمى هذا الانقسام بالميتوزي . أما الخلية الجنسية (التي تُنتَج في المبيض أو الخصية) فتنقسم بادئ الأمر إلى خليتين متماثلتين تحتوي كل منهما على 46 كروموسوماً ثم تنشطر هاتان الخليتان إلى أربع خلايا تحتوي كل واحدة منهن على نصف العدد من الكروموسومات (23) ، أو بالأحرى على جينوم واحد فقط ، أنثوي أو ذكري ، وعند اتحادهما لتكوين البيضة المخصبة (Zygot) يجتمع الجينومان ليكونا 46 كروموسوماً مرة أخرى . عندما تنتج الأم البيضة تستنسخ الخلية الأم (الخلية الجنسية) كل كروموسوم فيها ، فعندها يلتصق الكروموسوم مع نسخته ، ثمّ تجد الكروموسومات مثيلاتها فتتبادل قطعاً جينية (دنا) متماثلة بينها ، وبهذا الامتزاج يكون بعض الجينات من أم الأم جنب مثيلاتها من جينات أب الأم على نفس الكروموسوم ، الذي سيرثه الطفل ، وكذلك الحال مع الحيمن وجيناته ، أي أن الطفل سيرث كروموسومات جديدة تختلف عن كروموسومات أبيه وأمه ، فيها جينات من جَـدّتيْـه وجَـدّيْـه . لذا يحمل بعض الأطفال صفات أمهاتهم أكثر من صفات آبائهم والعكس وارد أيضاً . هذه الكروموسومات تكون خاصة بهذا الطفل لا يشاركه فيها أحد حتى إخوته ، عدا التوأمين المتناظريْن الناتجين عن انقسام الخلية المخصبة (زايكوت) ، وبهذا يكون الإخوة متفاوتين في بعض الصفات ، ومشتركين في صفات أخرى . وستجري هذه العملية مرة أخرى وبنفس الطريقة بالنسبة إلى نسل (الطفل) . يوجد في كل جينوم 23 ألف جين تقريباً ، أي أنّ لكل جين نسخة مشابهة في الجينوم الآخر ، هذه النسخة تسمى (أليل) ، أي أنَّ ثمة جيناً من الأب مقابل جين من الأم يكون الفرق بينهما في لون العينين والبشرة والشَّعر ..إلخ. فالجين هو قطعة من الدنا DNA، تتكوّن من سلسلة قواعد نتروجينية أربع، هي أدنين ، ثايمين ، كَوانين وسايتوسين تتكرر مئات المرات أو آلافهـا ، حسب نوع الجين . يقع الجين على الكروموسوم ويقوم بإنتاج البروتين ، سواء أكان خميرة (إنزيم) أم هورموناً ، كالأنسولين مثـلاً (ليست كل الهورمونات بروتيناً ولكن البروتين يدخل في صنعها) . وقد تحدث أثناء عملية الاستنساخ المتكررة تغييرات / تشوّهات ، منها ما هو ضارّ ومنها ما ليس له أيّ تأثير ، وقد وُجد أن دنا DNA الفرد تعاني 100 تغير أو تشويه Mutation فيها تقريباً خلال حياته . وهذا يعني أن الفرد يرث مجموعة من الجينات فريدة به ، إذ هي مزيج من جدّتيه وجدّيه (جدود أربعة) مع تغييرات فيها أثناء تكوين البيضة والحيمن الناشئيْـن منهما ، وتغييرات أخرى تنشأ أثناء حياته في البيئة التي يعيش فيها . لذا تساهم الأم بنصف جينات الطفل زائداً جينات الميتاكوندريا البالغ عددها 37 جيناً ، ضمنها الجين الهامّ الذي ينتج الخميرة سايتوكروم سي أوكسيديس Cytochrome C Oxidase والخمائر المساهمة في إنتاج الطاقة المعروفة أدينوسين ثلاثي الفوسفات (أي. تي. بي. ATP) الذي يزود التفاعلات الكيميائية في الجسم بالطاقة التي تحتاجها . هذه الميتاكوندريا ، المسماة بيت الطاقة ، تمنحها الأم فقط إلى الطفل . فلماذا تُهمَل الأم إذاً في نسب الفرد ، وهي التي تساهم بنصف الجينات زائداً الميتاكوندريا ، التي لولاها لا تكون الحياة ، بينما الأب لا يشارك إلا بنصف الجينات فقط ؟ الميتاكوندريا (المُشوَّهة) تلعب دوراً كبيراً في إسراع شيخوخة الإنسان .

هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى ، إذا علمنا أن الأب يساهم بنصف جينات ابنه أو ابنته ، وأن عدد الجينات ، ولنقل حواليْ (24) ألف جين تقريباً ، فإن ما يرث الابن من أبيه هو 12 ألف جين ، ونفس العدد من أمه طبعاُ. هذا الابن سيورث ابنه 6000 جين ( أي ربع جينات جدِّه) ، والأخير سيورث ابنه ثُمنَ (1/8) جينات الجدّ الأكبر وهكذا . ولو فرضنا أن معدل الجيل هو 30 سنة ، واستمررنا على حسابنا هذا ، فسوف لا نجد في الجيل الخامس عشر ، أيْ بعد 450 سنة ، سوى جين واحد أو بضعة جينات من الجدِّ الأكبر . فأين ذهبت هذه الجينات خلال هذه المدة ؟ تخفَّـفتْ وتقسَّمت بين أفراد المجتمع الذين عاشوا في ذلك المحيط نتيجة الاختلاط بين أفراده وكوّنتْ فيما يدعى بـ (بِركة الجين Gene Pool) حيث تنحصر هذه الجينات في ذلك المجتمع الصغير. أما إذا اختلط / تزاوج بعض من أفراد هذا المجتمع من أفراد مجتمع آخر مجاور، فبعض الجينات ينتقل (يهاجر) إلى ذلك المجتمع مما ينتج عن هذه الهجرة جينات جديدة في ذلك المجتمع أو تغيّر في استمرارية / تَكرار الجينات الموجودة في السكّان فيما يدعى بسيولة الجين Gene Flow ، وهذه الأخيرة تزيد من تنوّع بِرَك الجينات . وقد يختفي بعض الجينات أيضاً من بِركة جينات جيل نتيجة ما يسمى بالـ (الانجراف الجيني
Genetic Drift) والذي هو نوع من التطور ، ذلك إذا كان هناك زوجان لا ينتجان كثيراً من النسل ، لا تنتقل كلّ أليلات (جينات) الأبوين إلى أطفالهما نتيجة توزيع الكروموسومات في الانقسام الميوزي ، حسب قانون مندل الأول للوراثة .

ومن هنا يتبين أن الفرد لا يملك من جينات جدِّه الذي عاش قبل خمسمائة سنة أو أكثر إلا كما يملكه الآخرون الذين عاشوا مع أحفاد ذلك الجدّ في المجتمع ذاته واختلطوا معهم بوسائل مختلفة من تزاوج مثلاً . وربما يملك بعض هؤلاء الأغراب عنه جينات منه أكثر مما يملك أحفاده ، حيث تخفّـفت تلك الجينات وتوزعت وتغيرت/تشوهت نتيجة ظروف البيئة وسيولة الجينات وانجرافها ، كما ورد أعلاه . ولما كان الفرد يُنسَبُ إلى أبيه لأنَّه يرث نصف جيناته التي تكسبه صفات جسمية ظاهرية وداخلية ، فهل يكون الانتساب جينيّـاً إلى الجدِّ الأكبر الذي لا يملك منه أيَّ جين أو ليس أكثر مما يملك غيره منه ، غير ضرب من الأوهام ؟


 

* عضو متمرس في جمعية الكيمياء الحياتية البريطانية




 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter