|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  6  / 2 / 2021                                  عبدالزهرة حسن حسب                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 يوم ابتسمت أمي

عبدالزهرة حسن حسب
(موقع الناس)

خرج الأطفال الى مدارسهم مع والدهم . وبقيت أنا وحدي في شقتي الصغيرة , التي امتدت يد الإهمال لكل زاوية من زواياها , ولم تمسها يد الأعمار قطّ . حتى جدرانها بانت ألوانها باهتة لتعلن اهمالنا لها. لا بسبب كرهنا للتجديد والديكور الجميل. بل خوفاً من المستقبل الذي تحذرنا منه يافطة في الشارع كتب عليها : كل شيء من أجل المعركة, وعلى الجميع شدّ الأحزمة على البطون. فأخذنا نحتاط للمستقبل على حساب الحاضر. و يا ليتنا نجحنا !

تتكرر وحدتي في الشقة الصغيرة كلّ يوم. تبدأ بذهاب الأبناء وتنتهي بإيابهم. وغالباً ما يمضي الوقت بين الذهاب والإياب دون أن أحسب له حساباً. أما اليوم فليس لديّ من العمل ما اشغل به ساعاتي القادمة. وخوفاً من أن يصيبني الملل أخذت أتجول في مخزون الذاكرة، وها هي أحداث حياتي في الماضي تمرّ أمام عينيّ كشريط سينمائي, تمنيت أن أعيش بعضها مرة ثانية, وأغمضت عيني عن رؤية بعضها الآخر.

توقفت عند حادثة, رغم انها حدثت بالصدفة وبطلتها طفلة بريئة لكنها غيرت مجرى حياتي وحياة والدتي.
كنا في الماضي عائلة تسودها المحبة ويحظى أفرادها بحب بعضهم لبعض، عائلة ألمها واحد وفرحتها واحدة وحلمها واحد. في الماضي يوم كنت طفلة, أحب شيء عندي هو الذهاب مع عائلتي الى مدينة الألعاب أو أحد المتنزهات. اليوم جمعة والوقت عصراً وقد اتخذ والدي قراره هذه المرة بالذهاب الى متنزه الخورة. وهو متنزه واسع تفصل حدائقه الجميلة شوارع مبلطة وتحيطها اسيجة من اشجار الياسمين والأرضية خضراء. تجولنا في الشوارع مرات عدة بحثاً عن مكان لائق حيث كانت الحدائق مكتظة بالعوائل.
وأخيراً عثرنا على مكان بالقرب من بحيرة البطّ .

فرشت والدتي الحصير على الثيل الأخضر ووزعت حاجاتنا التي جلبناها في الأماكن المناسبة لها. استأذنت من والدي وذهبت الى البحيرة التي يملأها الماء وفيها عدد غير قليل من البط يحيطها سياج من قضبان الحديد مصبوغ بالوان جميلة. البط يبطبط ربما ترحيباً بالأطفال وبين الحين والآخر تقف بطة راقصة فوق سطح الماء لتقدم شكرها للأطفال لأنهم يرمون لها المأكولات. وبطّة اخرى تغوص تحت الماء لتقول للأطفال لا تخافوا الماء وتعلموا السباحة منذ الصغر.

بعد أن أخذت قسطي من المناظر الجميلة انصرفت اعدو وراء طائرتي الورقية بحماس، و جذب انتباهي شابة جميلة دون الخامسة والعشرين من العمر, فمسكت بيديّ الاثنتين وقبلتني وقالت :
- كم أنت جميلة !
- شكراً يا باجي
- بالتأكيد ان والدتك جميلة هي الأخرى .
- وهي كذلك
لا أعلم لماذا اعتبرت اهمالها لوالدي اساءة له، فانبريتُ مدافعة عنه وقلت: ووالدي وسيم أيضاً يا باجي .
في رغبة منها بممازحتي قالت :
- والدك ليس جميلاً
- والدي جميل باجي
- وتكرر الجدل بيننا حتى غضبت. وامسكت بيدها اليمنى وسحبتها قائلة : ســــــــــــــــأريك كم هو جميل ! ... واتجهت بها رغم ممانعتها حيث تجلس أمي وأبي. على مقربة منهما قلت: انظري كم هو جميل! .

نظر كلّ من أبي وأمي الى بعضهما مستفهمين الأمر. ضحكت الشابة الجميلة, وشرحت لهما ما دار بيننا من جدل، فضحك الجميع وقبلني والدي ثم انصرفت الشابة الجميلة بعد أن أهدت العائلة قبلة بيدها اليمنى.

بعد هذا اللقاء تغير سلوك والدي فأخذ يكثر من الاعتناء بمظهره ويطول غيابه عن البيت. انتبهت والدتي وسألته: ارى ان سلوكك قد تغير. هل في الأمر ما يستوجب ذلك؟ لا تقلقي ليس في الأمر شيء مزعج .. وما قلت عنه من تغير ما هو الاّ نتاج ترقيتي الى درجة أعلى في الوظيفة فرضت عليّ سلوكاً وعلاقات جديدة.
هزت والدتي رأسها لتخبره انها لا تصدق ما سمعت.

لم تمر الاّ أشهر قليلة حتى زفت تلك الشابة الجميلة عروساً لوالدي. وعاشت معنا في البيت . بل بالأحرى نحن أنا وأمي من عشنا معها في البيت, لأنها بعد بضع سنوات ملأت البيت بالأطفال وأصبح وجودنا فائضاً عن الحاجة.

لأول مرة أشعر ان والدتي قد ظلمت واني مهملة. صحيح انا بنت أبي لكنني مهمشة فقدت لحظات جلوسي في حضن والدي مثلما فقدت أمي زوجها. نما الحقد في قلبي وشغلت الكراهية صدري بعدما كنت لا أعرف عنها شيئاً، وأخذت حياتي وحياة أمي تزداد بؤساَ على بؤس يوماً بعد يوم. حتى انقذني ذلك الرجل الطيب الذي تقدم لخطبتي وتزوجنا..

بعد زواجي طلبت من والدتي ان تسكن معنا لكنها رفضت قائلة: لا أريد ان يعلم زوجك انك بنت زوجة بلا حقوق بل أريده ان يعرف أن لك اخوة وأخوات سيهبون لمساعدتك وقت الحاجة. اغرورقت عينيّ بالدموع وقلت: كم أنت طيبة يا والدتي حتى في مأساتك.

في احدى زياراتي, وجدت والدتي تبكي, احتضنتها وبكيت لبكائها دون أن أعرف السبب، وبعد أن أشبعت رغبتي في البكاء سألت ما الأمر يا والدتي؟
بعد زواجك أصبح اخوتك سلوتي في البيت حيث يمر الوقت معهم دون أن أحسب له حساباً ونسيت كثيراً من شجوني, لكن في الأيام الأخيرة منعتهم أمهم عني فأضافت هماً لهمي, صعد الدم في راسي واستعدت بعض اعضاء جسمي لتكون الة جرمية ووقفت قائلة: سأعلم هذه الحمقاء درساً لن تنساه. مسكت بي والدتي وقالت: لا تكوني حمقاء أخرى.
استجبت لأمر والدتي لكن قلبي بقي حاقداً وصدري تملؤه الكراهية ورأسي يكاد يفجّره الصداع.

فتحت حقيبتي اليدوية واخرجت منها قرصين من مسكن الصداع لعلي أخفف الألم. ولكن ماذا أفعل لأعصابي المتوترة واضطراب حالتي النفسية ومخزون ذكريــــــــــــــــــاتي كمن يصب الزيت على النار.
خرجت من غرفتي أصرخ كالمجنونة.
اللهم ارحمني بنسيان الماضي حتى لحظاته الجميلة.
رنّ الهاتف. لعلّ رحمة الله قد وصلت.

انه صوت امي اسمعي يا ليلى انه والدك في لحظاته الأخيرة. احتلت صورة والدي رأسي, نسيت كلّ شيء عنه. عدا تلك اللحظات التي اجلس في حضنه أتجادل معه في اللاشيء , وعندما أتحدث وهو لا يستمع اليّ لأنه مشغول بأمر آخر أمسك وجهه بيديّ الأثنتين واضعه أمام وجهي. قد يتظاهر بالزعل لكن جلوسي في حضنه ينتهي بقبلة منه.

كنت مرتبكة ولا أعرف عن مظهري حتى وطأة قدمي بعض حصى الشارع فعلمت اني حافية القدمين وبلا حجاب وبدون عباءة. يا للمصيبة! ارتجفت خوفاً من رصاصة لكاتم الصوت تخترق ظهري فأسرعت بالدخول الى البيت, تحجبت وارتديت العباءة ولبست الحذاء, ووجدت نفسي داخل أول تكسي يوصلني.

كان الباب موارباً وحاولت ان اقطع الممر راكضة، لكن انشغالي برؤية والدي حياً في لحظاته الأخيرة اعمى بصري فاصطدمت بسلة النفايات، ووقعت أرضاً ... وقفت ثم توجهت الى غرفة الاستقبال حيث والدي وافراد العائلة, وبعض الأقارب يحيطون به .
ومع هذا الجمع العائلي تواجدت جارتنا الطيبة وهي امرأة في عقدها الخامس رصينة المنطق والسلوك يحترمها أهل المحلة.
بعد لحظة من وصولي صرخت والدتي قائلة: يا ليلى لقد فارق والدك الحياة. عمّ الصراخ واختلط بنحيب الرجال. ومن الطبيعي أن تهدأ بعد لحظات عاصفة الحزن ويسود الصمت.

لأني سيئة الظن, ولست سليمة النوايا , فأخذت أتجول بين وجوه الحاضرين باحثة عن مدى تأثير وفاة أبي في قلوبهم . يؤسفني أن أقول: لقد زادني حزناً على حزني, وفضح هشاشة عائلتي اني لم اجد حزناً صادقاً الاّ على وجه جارتنا الطيبة, أما الباقون فيحلمون ..
من سافر خارج البلد وقطع صلته بوالده يحلم بالكثير، ومن بقي بالقرب منه وعلى صلة به يحلم بالقليل. مثلاً زيارة أوربا او اصلاح ما خرب من بيته .
ولزوجة أبي حلمها أيضاً, مدت يدها لتأخذ الخاتم ,من اصبع والدي منعتها والدتي قائلة: هو خاتم خطوبتي ولا يحق لك أخذه .
ردت زوجة أبي أنا متأكدة انه خاتم خطوبتي ومن حقي أخذه. تكرر الجدل بينهما وانتهى بشجار كاد يدمي وجهيهما لولا تدخل جارتنا الطيبة .. وبختهما قائلة:
انكما تتشاجران على مسالة يعرف حلها من يملك عقلاً في رأسه دون عقل الصخلة . فأي عقل يحمله رأسيكما؟ اسمعا ما أقول:
سأسأل سؤالاً يقودنا لمعرفة الى من يعود الخاتم بشرط ان تصدقا الجواب.
الرجل عندما يتزوج من امرأتين يضع خاتم الزوجة التي يحبها في أصبعه. المرحوم كان يحب أياً منكما أكثر؟
تباهت كل منهما بحب المرحوم لها أكثر.
قالت جارتنا الطيبة انكما لم تصدقا الجواب وسأحل المسألة بنفسي وعليكما الانتباه .
الرجل عندما يتزوج بأكثر من امرأة يسجل اسمه واسم الزوجة التي يحبها على الخاتم. هل تسمحن لي سحب الخاتم من اصبع المرحوم ومعرفة من منكما اسمها مكتوب عليه؟
حركتا رأسيهما علامة للموافقة
سحبت جارتنا الطيبة الخاتم من اصبع والدي وقرأت الاسم وقبل أن تنطق بكلمة واحدة قالت زوجة والدي: -
ألم أقل لكم أنا أم أولاده وبناته وحبي يملأ قلبه. وهذا اسمي المكتوب على الخاتم يؤكد ما أقول. نظرت اليها جارتنا الطيبة قالت لها: يا أم الأولاد والبنات يؤسفني ان أقول لك ان الاسم المكتوب على الخاتم ليس اسمكِ. انتصرت والدتي كمن فاز بجائزة نوبل. اذاً الاسم المكتوب على الخاتم هو اسمي. ردت عليها جارتنا الطيبة متعاطفة معها: يا أم ليلى : يؤسفني ان أقول لك أن الاسم المكتوب على الخاتم ليس اسمك.

نظرت الزوجتان بعضهما لبعض وصرختا في لحظة واحدة. من هي صاحبة الاسم المكتوب على الخاتم ؟
ردت الجارة : الاسم المكتوب على الخاتم هو اسمي. أنا زوجته الثالثة.
لطمت زوجة ابي على خديها بيديها الاثنتين وصرخت: أنت الزوجة الثالثة !
نظرت اليها والدتي نظرة شامتة, وابتسمت بصمت.
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter