|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  11  / 3 / 2021                                  عبدالزهرة حسن حسب                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

عصا سحرية

عبدالزهرة حسن حسب
(موقع الناس)

شكلتْ المسؤولية فوضى في حياتي اليومية وارهاقاً لم اعتد عليه , انا الذي لا تتعدى اهتماماته حدود بيته وليس على استعداد تحمل مسؤولية غيره , فساء أمري واضطربت حالتي .

ولأني قليل الخبرة لم اسلك ما يسلكه شيوخ القبائل الأخرى, ساءت حالتي المعاشية وتركت أثرها على حياة العائلة الى حد توارث الأطفال الملابس، رغم اني موظف وأملك بيتاً .

فكرت بالاستفادة من اختصاصي كمحاسب يسمح لي مسك دفاتر الحسابات للتجار واصحاب العقارات ورجال الأعمال والمقاولين وفعلاً تم الاتفاق مع بعضهم. نعم تجاوزت العوز, ولكن وقعت في شرك بيت العنكبوت ليمتص هدوء نفسي وسكينتها, تركت العمل رافضاً المشاركة في السرقات.

استمرت معاناتي وبعد تفكير طلبت من زوجتي ان تطعمنا في اليوم وجبتين بدل ثلاث وجبات, فكانت المشكلة اعظم واشد اذ قلّت مقاومة اولادي للأمراض وكثرت مراجعاتي للعيادات.

لم تحل مشكلتي بل ازدادت سوءا لكن قسوة الحياة لها ايجابياتها أحياناً اذ تجبرك على اتخاذ قرار سبق لك رفضه وكان بيع بعض الأثاث امراً لا مناص منه. بعد أن سدت المنافذ سواه.

أيّ الأثاث نستطيع بيعها؟ سألت زوجتي. ليس لدينا فائض عن الحاجة. أنا أعلم بذلك, المباع لا يعني انتفاء الحاجة اليه, بل يمكن الاستغناء عنه عند الضرورة.

ضمن هذا المنطق ليس لدينا ما نبيعه الا شيئاً واحداً وهل يحق لنا بيعه ونحن لم نساهم بشراء بعض منه, والأهم من هذا ان فيه ذكرى والدك. هل تقصدين المكتبة؟ .. نعم. طأطأت رأسي وتمنيت لو لم أسمع الجواب.

لم ادخل المكتبة إلاّ أيام طفولتي مع أبي, اجلس في حضنه وهو يقرأ, تفاجأت عندما رأيت جدران غرفة الاستقبال قد صُممت لتكون رفوفاً من الأرض حتى السقف, تضم آلاف الكتب من مختلف الوان المعرفة. بدأ والدي بجمعها قبل ولادتي وربما ورث قسماً منها عن أبيه . نحن بحاجة الى ثمن هذه الكتب. أيحق لنا بيعها ؟ ولو كان والدي على قيد الحياة هل يوافق على ذلك؟ لست ادري. ولكن لماذا تفكر ببيعها؟ ولم تتذكر وصية والدك قبل وفاته بقليل؟
نعم . نعم تذكرت و سأذهب عصر هذا اليوم.

بيت صديق والدي يبعد عن بيتنا مسيرة ثلث ساعة مشياً على الأقدام, الشارع مبلط وعلى جانبيه زرعت اشجار اليوكالبتوس والأثل, نمتْ حتى تشابكت أغصانها وسط الشارع فشكلت مظلة خضراء تخفف من حرارة الشمس, الوصول الى البيت لا يحتاج الى دليل. اذ ان اشجار الشارع تبدأ مقابل بيتنا وتنتهي عند بيبت الصديق, وكأنها زرعت أكراماً لهما على دورهما المميز في حل مشاكل أهل المنطقة.

في طريقي الى بيت العم وفي ثلث الساعة التي أحتاجها في الوصول راودتني احلام الظفر بمبلغ كبير تركه لي والدي عند صديقه يساعدني به, وربما يوفر لي عملاً اضافياً مقبولاً, وتساءلت مع نفسي هل سأخبره عن بيع المكتبة أم أكتفي بذكر حاجتي؟
ضغطت على الجرس, استقبلني العم بترحاب غامر, ذكرني بحنان والدي. قال معاتباً: انتظرت زيارتك منذ زمن. معذرة يا عم. انها مشاغل الحياة. هل تزورني عوض أبيك أم لزيارتك سبب آخر؟ - أنا بحاجة الى المال وجئت لأخذ رأيك في بيع المكتبة لعدم حاجتي اليها.
- لا أجيب على طلبك الاّ بعد معرفة الظروف التي أوصلتك لهذا العوز.
- بعد وفاة والدي أصبحت رئيساً للعشيرة كما تعلم. رغم ان والدي شخصية اجتماعية معروفة واليه ترجع العشائر في حلّ مشاكلها لكنه يرى في العشيرة تحدياً للدولة واضعافاً لها وتعضيداً للإرهاب وزرع الكراهية بين الناس ومظهراً من مظاهر التخلف والعودة الى القرون الوسطى, تجاوزتها شعوب العالم بعدما ادركت مضارها, أما أنا وهنا لا أريد أن أخفي عليك سراً بعد ترؤسي للعشيرة وتآلفي مع مستجدات المسؤولية وجدت العالم يتجسد بها فزهوت بهذه المسؤولية.
- شكراً لك على صراحتك وأصبح كل شيء واضحاً, أنا موافق على بيع المكتبة وأنا الذي يبيعها لك وبسعر يريحك. قفزت من مكاني كمن نال هدية وقلت بصوت مسموع الحمد لله لقد وهبتني المعجزة التي انتظرت حدوثها. قال العم: لديّ عصا سحرية جربها الكثيرون واستفادوا منها والآن جاء دورك.

العصا اذا لامست كتاباً قرأته انت وفهمت ما اراد المؤلف ايصاله للقارئ تحوله الى سبائك ذهبية وزنها يساوي وزن الكتاب. والكتاب الذي لم تفهمه يبقى ورقاً وهي لا تعمل الاّ مرة واحدة عندك. شروط سهلة ومال كثير. كان جوابي للعم.
ذهبت الى البيت. ماذا تفعل بهذه العصا؟ انها التي ستنقذنا من الفقر. كيف ؟ حدثت زوجتي بما سمعت عن العصا.

اخذت اجازة لمدة شهر, وبدأت أقرا بنهم شديد نوّعت ما أقرا كي لا يصيبني الملل. الصباح الباكر لقراءة كتب الاجتماع وعلم النفس وبعد الظهيرة قراءة الروايات وفي المساء حتى موعد النوم قراءة في كتب التاريخ وبمرور الأيام ازداد حلمي بالثروة.

في أحد الأيام فاجأتني زوجتي بميزان الكتروني, اشترته لغرض وزن ما نقرأ, وصار لنا عمل اضافي في كل يوم بعد الانتهاء من القراءة الليلة نعد ما يجتمع لدينا من الذهب ولو بالأمل لأننا لم نستخدم العصا بعد.

في أحد الليالي كان رصيدنا (50 كغم) من الذهب هلهلت زوجتي ونهضت مسرعة الى غرفتها. عادت راقصة وترتدي بدلة زفافها حمراء اللون وحزاماً بنفسجياً تقلد في رقصتها هناء عبدالله (ودكة الأصبع) شاركها الأطفال وأخذت أنا أنقر على صحن الشاي والملعقة. ابتسمت زوجتي وعلقت للمرة الأولى أشعر بالسعادة للمرة الأولى يشهد بيتنا حفلة راقصة, ان ذلك لم يحصل حتى في زفافنا, ما أجملها من لحظة لم أعشها فيما مرّ من عمري. احلمي أكثر انها قطرات ويأتي بعدها الغيث. فكرت في نفسي: اذا كان الحلم بالثروة وليس امتلاكها يشعر الأنسان بالسعادة, فلماذا لا تدخل السعادة قلوب الأثرياء ويكفوا عن اشعال الحروب.

أصبحت عملية وزن ما أقرأ ممارسة يومية وغالباً ما قادتنا الى خصام. تقول زوجتي: أنا لم أر الذهب الاّ في محال الصاغة او في أيدي النساء. والآن أحلم بوضعه على معصمي, أما أنا فسعادتي أن أريكم العالم كله وتكون لنا فلّل في معظم دول العالم وفي أرقى مناطقها, وينتهي خصامنا بغضبي وبكاء زوجتي.

بعد انتهاء اجازتي، تظاهرت بالمرض واقنعت اللجنة الطبية بمرضي حصلت على اجازة لمدة 6 أشهر براتب كامل واستمر الحال على ما هو عليه, وبمرور الأيام قل استخدام الميزان وتحسنت علاقتي مع زوجتي واصبحت سعادة العائلة من اولويات مهامي، فاجأتها ذات يوم بتقديم هدية, عطر اشتريته بثمن اول مقال لي نشر في أحدى الصحف المحلية, لم أعد محتاجاً كما كنت بعدما صار لي عمودان في صحيفتين محليتين وأنار ما قرأته جوانب من حياتي كانت مظلمة وتغيرت نظرتي للحياة .

سحبتني الذكريات الى الوراء الى حوار دار بيني وبين أحدهم, كان يقرأ في كتاب، دنوت منه وسألت عن دوافعه للقراءة لا حباً بالجواب بل اشارة لتبديده الوقت دون فائدة.

أنت لم تقرأ كما يبدو لذلك تجهل المتعة التي تمنحك اياها قراءة كتاب, وأراك تعيش في ظلام فتجهل الخيال والأبداع وهما من النوادر الباعثة على سعادة الأنسان. ولو قرأت يوما ما ستحسّ بالرعشة التي تنتابك من متعة القراءة فتقف مصفقاً أو راقصاً وأحياناً باكياً. استغربت ما سمعت وبانت عليّ ابتسامة خجولة تعبر عن رفضي لما سمعت.

الآن وبفضل هذه العصا أصبحت على يقين ان القراءة تمنحني فرصة العيش في الحياة بعمق أكبر وانا قادر على الأبصار بفضلها.

كبرت عشيرتي وامتدت اصولها الى عشرات القرون ووجدت بين مشايخها من يقدم النصيحة لي بلا ثمن، ولا يخفي عليّ سر نجاحه في الحياة أو يحذرني من أسباب فشله دون خجل. واذا التقيت أحدهم استقبلني بابتسامة حميمة تدخل السرور في نفسي وتباعد بيني وبين هموم الحياة. دخلت الى المكتبة وفيها صورة والدي حييته شاكراً صنيعه. أخذت العصا وأعدتها الى العم. شكراً لك يا عم, لست بحاجة اليها.

همّ بسؤال. لكنه ابتلع سؤاله في بطن صمته.


 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter