| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
السبت 20 / 7 / 2024 عبدالرضا المادح كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
لقاء في المزبلة...!
عبدالرضا المادح
(موقع الناس)
مرت ايام ولم تهدأ عاصفة المشاعر التي أثارها لقاؤه بأهله والذي اصبح حدث المنطقة الابرز، بعد غياب دام اربعة وعشرين عاماً.
قرر في صباح يوم من آب في عام السقوط ، ان يحمل ذكرياته المدفونة تحت لهيب الصيف، نحو مدرسته الاولى. وضع اللمسات الاخيرة على المرآة المعلقة في وسط باحة الدار، كانت رائحة العطر التي تحوم حوله وأناقة ملابسه تفضح سنين الغربة على الطرق المتربة الممتدة ما بين جدران الحارة المنخورة. بين الفينة والاخرى كان يقفز ليتحاشى حفر مليئة بماء تسلل من خزانات البيوت الصدئة القاحلة. لم يمهله الطقس طويلا لتنساب قطرات العرق على صدغيه وترسم خطاً متعرجاً بارداً على ظهره، كلمات التحية الودودة يتردد صداها بين الخطوات المتقاربة، فتتسارع الوجوه الى ذاكرته والتي ألفها حين كان يلعب ايام طفولته، تحت النخلات واشجار السدر واليوكالبتوس الوافرة الخضرة.
اجتاز إسفلت شارع " الجزائر" ليدلف في الفرع الاول على يساره، تعالت في ذاكرته أصوات لاعبي الكرة من الصبيان ، ليميز صوته وحركة قدميه الحافيتين وهي تصارع الكرة الجلدية، في الساحة التي اختفت خلف جدار طوّقها، لتتحول الى مكبّ للازبال، تغزوها شجيرات العاقول المتناثرة حول أعمدة كونكريتية أهملها النسيان. مرّ شريط أسماء الزملاء مرسوماً على الجدران والأبواب الحديدية التي تشوّه طلاؤها. في نهاية الطريق والى اليمين منه، بدت ملامح دار طويلة انهار نصفها الشرقي.
ـ آه ... إنها أطلال "مدرسة القبس الابتدائية للبنات"...!
عند دَكّة الباب كانت تقف عاملة المدرسة ( الخالة أم عمران ) بطولها الفارع الاسمر، تنفث دخان صدرها بين رنين جرس الاستراحة المبحوح، تنهر الصبيان العائدين لبيوتهم من المدرسة حينما يحاولون التلصص عبر بوابة المدرسة ليخطفوا نظرة على فراشاتها، ذوات الزيّ الازرق الموحد والياقات البيضاء.
انفتحت امامه وعلى امتداد المدرسة باحة واسعة تكدست فيها تلال الفضلات، لاتزال رائحة البارود تنبعث منها رغم مرور السنين، حينها هبط صاروخ من السماء فحوّل جزء من المدرسة والدار المجاورة الى ركام، إندثر تحته انين اجساد عائلة بكاملها. لم يستطع إستعارة مشهد الدار من ذاكرة الزمن. كانت رائحة القاذورات تجعل الهواء الرطب أكثر كثافة، اختلطت ألوان المزبلة بأشعة الشمس لترسم مشهدا هلامياً. بين الاطلال والتلال استفزّت عينيه حركة مفاجئة.
ـ ربما كلاب سائبة تعبث هناك...!
اقترب المشهد مع حركة قدميه، جسد منحنٍ يشبه الانسان، غابت تفاصيله مع تشوه المكان.
استقام الجسد قليلاً فبان رأسه من الخلف، واستدار مع حركة البحث في اللاشيء.
ـ انــه .... انـــه.. انسان...!
بدأت الملامح تزيح عن نفسها تعرّجات المشهد المضطرب في زاوية النسيان.
ـ أهـــ ...من هذا...!؟
ـ مستحيل...أنا في كابوس...!
اقترب منه اكثر، لتنجلي صورة وجهه خلف غمامة ذباب كثيفة.
ـ نعم انـه... هو... صا...!!
لم يستطع ان يستذكر اسمه كاملا ولكنه تيقن من شخصه، فبادره بالتحية ومشاعر الصدمة اربكت كلماته.
ـ السلام.. عليكم ..اخي...!
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته...!
رد التحية مبتسماً، بعينين مندهشتين و بطيبة تفوح من وجهٍ غارت فيه تجاعيد قساوة العيش.
ـ أخي ..ألا تذكرني...؟
حاولت العيون الغائرة ان تتفحص وجه السائل الغريب، لتخرج الكلمات محتارة من بين اسنان صفراء متدلية هنا او هناك.
ـ لا والله اخي لا أتذكرك...!
ـ انا اتذكرك جيداً ... ألم تكن أحد تلاميذ مدرستي تلك " صفي الدين الحلّي ".. واسمك...؟
اشرقت ابتسامة حائرة اكبر واجاب :
ـ نعم...نعم... أنــا... صا...
ـ وأنــا...عبد...
تعانقت الاكف لتعيد مرح الطفولة وعنفوان رقتها فتزيل للحظات بعض من تراكمات الهموم المستعصية.
ـ كيف حالك يا اخي...؟
ـ بخير...
ـ ماذا تشتغل...؟
ـ كما ترى عامل تنظيف...
ـ الله يساعدك... ويحفظك...
دفعه شعور الفزع الى الصمت لكي لايثقل هموم صديق طفولته. لعن تلك المصادفة وجرجر قدميه مطأطئ الرأس، ليبتعد عن ذلك المتسمّر في مملكته وسط الطنين اللامتناهي.
مرّ أمام مدرسته فرفع عينيه الى الطابق الثاني، لتلتقي بالشبابيك المتراصفة كمقطورات خشبية مهملة. هناك في الصفّ الرابع حيث كانوا يرفعون أصابعهم بأتجاه المعلم (غازي) و يصرخون:
ـ أستاذ...أستاذ...استاذ...
ستوكهولم
10/01/2007