|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  10  / 6 / 2016                                 عبدالمطلب عبدالواحد                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الثقافة الديمقراطية الحزبية والمجتمعية

عبدالمطلب عبدالواحد
(موقع الناس)

تظل اغراءات السلطة، ونزعة الهيمنة والنفوذ، حاضرة بشدة في الممارسة العملية الملموسة بين كافة الاطراف السياسية بإختلاف تنوعها، على حلبة التنافس والصراع، وفي حالات التحالف ايضا، ويشمل ذلك (الاحزاب، القوى، الشخصيات)، وهي تخوض تجربة الولوج الى الحياة الديمقراطية كالعراق والعديد من بلدان الشرق الاوسط والمنطقة العربية.

ويتوقف مسار الصراعات، بإتجاه الاستقرار واعادة البناء والتقدم نحو الإنتقال الديمقراطي، على درجة التطور الإقتصادي والسياسي والإجتماعي في البلد المعني. وهنا تلعب الاحزاب السياسية دورا هاما في هذا الإنتقال بمقدار تمثلها للفكر الديمقراطي وعيا وممارسة. على اعتبار ان الاحزاب السياسية هي حجر الزاوية في الانظمة الديمقراطية، فبدون الأحزاب لا تتوفر التعددية السياسية وتنتفي إمكانية تداول السلطة سلمياً، وهما ركنان أساسيان في الديمقراطية المؤسساتية.

هناك نظرية ترى "ان التعددية الحزبية والديمقراطية التبادلية تتقدم مع تقدم المجتمع اقتصاديا وصناعيا وثقافيا، فكل خطوة نحو الامام على المستوى الاقتصادي تقابلها خطوة على الصعيد السياسي." (1) هذا صحيح بشكل عام، ولكن الفقر في تجذر الثقافة الديمقراطية على الصعيدين الشعبي والحزبي يلعب دورا معرقلا في حلحلة التعقيدات المرافقة لعملية التحول الديمقراطي.

كانت الديمقراطية ولازالت احدى عناوين واهداف كفاحنا الوطني التحرري منذ الاستقلال، لكن المنطقة العربية لم تشهد تجربة ديمقراطية يمكن الاعتداد بها على صعيد انظمة الحكم او على صعيد الحياة الداخلية للاحزاب، وينطبق هذا الامر وان بدرجات متفاوتة على جميع الاحزاب، الحاكمة والمعارضة ــ اللبرالية، الوطنية الديمقراطية، القومية، الدينية، وبضمنها الاحزاب اليسارية والشيوعية بشكل عام، والتي ابتدأت تتعاطى مع الديمقراطية الحزبية بشكل فعلي بعد البرسترويكا السوفيتية اواخر ثمانينات القرن الماضي.

ومن الجدير بالذكر ان الارهاصات الاولى للتعامل مع الديمقراطية في الاداء الحزبي لمنظمات الحزب الشيوعي العراقي ظهرت بعد عام 1988 بأجتهادات وتطبيقات محدودة، ثم تطورت تدريجيا ، وتكللت بالمصادقة الرسمية عليها في المؤتمر الوطني الخامس الذي عقد في عام 1993، والذي سمي بمؤتمر الديمقراطية والتجديد، وانبثقت عنه لائحة داخلية جميع بنودها واحكامها مبنية بوضوح على الاسس الديمقراطية في كافة مفاصل العمل والقيادة الحزبية، على الرغم من الابقاء على مبدأ المركزية الديمقراطية، الذي تم التخلي عنه نهائيا في المؤتمر الوطني الثامن عام 2007 مع التمسك بآليات هذا المبدأ. وكان التجديد والإصلاح في حياة الحزب الداخلية الذي طرحه المؤتمر الخامس استجابة ضرورية للظروف التي واجهت الاحزاب الشيوعية اثر انهيار التجارب الاشتراكية، بالاضافة الى عوامل عراقية، واخرى خاصة بالحزب وحياته الداخلية.

وعلى العموم، تبقى هنالك على الدوام مسافة فاصلة بين تبني فكرة معينة وبين تطبيقها، لان قوة العادة والتقاليد والاساليب التنظيمية الموروثة تمارس تأثيرها على انماط العمل الجديدة عبر عملية تفاعلية، تبادلية من التعلم واكتساب المهارات، ومن الاحلال والازاحة بين الجديد والقديم في اعماق الذات الانسانية، للمناضلين افرادا وجماعات وهم يواصلون طريق كفاحهم لتحقيق الاهداف السياسية والاجتماعية الرامية للعدالة الاجتماعية والارتقاء بحياة الانسان نحو الافضل. مضافا لذلك، فان جمهورا واسعا من افراد المجتمع ــ بضمنهم المتفاعلين مع النشاط الحزبي ــ ما زال مكبلا ببقايا نظام الطاعة الابوي، الذي يمتلك حضورا ملموسا في السلوك والذهنية الجمعية عبر منظومة من المسلمات الفكرية والتقاليد والاعراف التي تكرس قيم الخضوع والتسلط بشكل عام.

تتبدى نزعة التسلط في الاحزاب السياسية، عند البعض من الكوادر القيادية، بشكل ملحوظ، في التداخل المخل بين الممارسة الايجابية الفعالة للصلاحيات القيادية ، اي بين امتلاك مواصفات الزعامة كموهبة وامكانية في العمل القيادي، وبين وهم الزعامة عندما تتحول الى "عقدة اوهاجس مرضي" لدى القائد الحزبي، حيث يلتجئ الى التحايل على احكام النظام الداخلي والتقاليد التنظيمية بوعي او بدون وعي، لتكوين الاتباع وتفريخ البطانات، واختزال الممارسات التنظيمية الديمقراطية باجراءات شكلية، غالبا ما تترك اثارها الضارة على الحزب وعلى اعضائه بشكل عام في مختلف المفاصل الحزبية، وتسبب تفريطا بالكوادر المجربة، عبر ابعادها عن مواقع التأثير والقرار، او دفعها الى اليأس والقنوط، والانسحاب من الحياة السياسية.

وقد ادت في بعض تجارب العمل الحزبي الى انشقاقات وتصدعات في تلك الاحزاب، ولنأخذ مثالا عن التجربة الحزبية في الجزائر، عندما ينحرف القائد الحزبي عن (مسعى الزعامة ليسقط في فخ التزعم والتسلط. وفي اطار هذا الانحراف، يتحول القائد الحزبي من قائد ديمقراطي يؤمن بالتشاور ويقبل الرأي الآخر الى قائد أوتوقراطي يمارس الأبوية المطلقة ويرفض المشاركة الفعلية في صنع القرار، ويعمل على شخصنة الحزب.

وفي سياق هذا التحول، يقوم رؤساء الأحزاب بتجنيد أفراد ومجموعات تلتف بشخصهم ويتم التحكم فيهم بعلاقة الولاء وسلطة الخضوع ومنطق الطاعة، مستخدمين أساليب التحايل والتضليل وسياسات العصا والجزرة.

وفي اطار هذا النوع من التجنيد، تبدأ الصراعات بين المجموعات والأفراد التي التحقت بالحزب لتلتف حول شخص رئيس الحزب وبين الأفراد والمجموعات التي التحقت بالحزب لتناضل وتدافع على البرامج والمبادئ والقيم. وفي ظل هذا الجو المشحون، يفقد رئيس الحزب الثقة في الأفراد والمجموعات التي لا تحسن فن الطاعة والولاء، فيقحمها في صراعات ومتاهات مع المجموعات والأفراد الملتفة حول شخصه، والتي تكون عادة متكونة من انتهازيين ووصوليين يبحثون عن المكسب السياسي الضيق بشتى الطرق والوسائل)(2).

ومن بداهة القول ان الحياة الحزبية في العراق حاليا، وعلى الرغم من التجربة التاريخية العريقة، ليست اوفر حظا منها في الجزائر. علما بان الاحزاب عموما تتباين في طبيعة علاقتها بالديمقراطية واشكال ممارستها، حيث تُمارَس اما بشكل تتسع حدوده لدى البعض، او تنعدم كليا عند البعض الاخر، ولاسباب مختلفة تتعلق بتكوين هذه الاحزاب، برامجها، تركيبتها الاجتماعية، هويتها، واهدافها، ودرجة هبوط او ارتقاء الانتاج والثقافة والمجتمع .

تأسست اقدم الاحزاب السياسية في العراق بعد عقد ونيف، من قيام الدولة العراقية الحديثة، وكان الحزب الشيوعي العراقي، الذي تأسس في عام 1934 الاكثر استمرارية ومثابرة وكذلك ريادة وتأثيرا في المجتمع العراقي، وقد ناضل بضراوة في العهدين الملكي والجمهوري لتأمين اوضاعا ديمقراطية في الحياة السياسية، لكنه كثيرا ما "كان يغلب الجانب الوطني على الديمقراطي" (3). وعلى الصعيد الحزبي فمن المعروف بان النظام الداخلي كان صارما جدا وستالينيا، ومتشددا في تطبيق مبدأ المركزية الديمقراطية، بحكم الظروف السائدة في الحركة الشيوعية العالمية حينذاك، اي ان "الديمقراطية الحزبية لم تكن مفعلة ولكنها لم تكن معدومة داخل الحزب الشيوعي... ، جميع الانتخابات في الحزب حتى المؤتمر الوطني الرابع الذي عقد عام 1985، كانت غير فعالة، لاجرائها بدون منافسة حقيقية، تماما كما كانت تجري في الاحزاب الشيوعية الاخرى، لان آلية الترشيح كانت مركزية، وقائمة المرشحين على الاغلب تساوي العدد المطلوب انتخابهم، وان وجد هامش للمنافسة فهو محدود جدا". (4)

كانت تلك الاحزاب (عراقيا)، تعبيرا سياسيا عن مصالح الفئات والطبقات الاجتماعية للتشكيلة الاجتماعية وهمومها وصراعاتها، وقد استقطبت طيفا واسعا من النخب الثقافية والاكاديميين ومتعلمي الطبقة الوسطى المدينية اضافة الى الطلاب والعمال والفلاحين والكسبة ومنتسبي الجيش العراقي من الضباط وصف الضباط والجنود، وكان المسعى العام للاحزاب الوطنية، وجمهورها، هو التحرر الوطني والتقدم الاقتصادي والاجتماعي اضافة الى المطالب القومية في الوحدة العربية وتحرير فلسطين.

في مجرى الكفاح الوطني على صعيد الافراد والجماعات والاحزاب حدثت وتحدث تبدلات وتحولات في القناعات الفكرية والسياسية، وفي اشكال الوسائل المستخدمة في حسم الصراعات والوصول الى الاهداف، والاهداف نفسها قد تغيرت وتتغير ارتباطا بالتحولات التي يحدثها مسار الصراعات الاجتماعية والسياسية. وقد ادت هذه التحولات تحت مؤثرات داخلية وخارجية الى نكوص مسار حركة التحرر الوطني اجمالا، افضى ذلك كله، الى خيبات امل واسعة ادت بالحركة الجماهيرية الى الانكفاء والشعور باللاجدوى، الذي قاد بدوره تحت تأثير الحركات الاصولية الى التوجه نحو اسوأ واضيق دهاليز التاريخ بحثا عن منقذ، بدلا من التفكير الواقعي للتغلب على قسوة الحاضر، والعمل على فتح نوافذ نور للمستقبل.

ففي العراق تمكن حزب البعث العربي الاشتراكي من العودة ثانية الى السلطة في عام 1968 بعد تجربة فاشلة للحكم في عام 1963 اغرق فيها البلاد بأكملها، بحمامات دم مرعبة تخللتها شهوة واسعة للانتقام وتصفية المخالفين من الشيوعيين والديمقراطيين ومؤيديهم.

وقد نهج في التجربة الثانية على ذات المنوال السابق تقريبا، مع اختلاف في الاساليب، مدعيا ومتظاهرا اعلاميا، بالانفتاح على الجميع وتدشين تجربة جديدة. ومن اجل البقاء في السلطة والمحافظة عليها، عمد الى تطوير منظومة امنية متعددة الاشكال والوسائل، ودمج الحزب بالدولة من جهة، وربطه بالمنظومة الامنية من جهة اخرى وبذلك تحوّل عضو الحزب الى مخبر يؤدي ولاء الطاعة لمرجعه الحزبي من خلال الايقاع بالمعترضين حتى لو كان الاعتراض افتراضيا.

وقد كرس عبر وسائل تثقيفه ودعايته واعلامه ظاهرة الولاء للقائد "الضرورة" وطاعة الادنى للاعلى، والمواطن اللاحزبي للمنتمي الحزبي. وزرع الخوف والخضوع في الذهنية الجمعية للجمهور واصبح مديح القائد والتصفيق له من اهم سمات المواطن الصالح.

ان الجرائم التي اقترفها النظام الديكتاتوري بحق الشعب والوطن، والخراب الانساني الشامل الذي اضطلعت بها سياسته وقيادته، وطريقة ادارته لسلطة الدولة والحكم، ترك ندوبا اجتماعية ما نزال نعاني منها كمواطنين افراد في المرتبة الاولى، والمجتمع العراقي ككل، كما تعاني منها السياسة العراقية ووسائل ادارة الدولة، لمرحلة ما بعد سقوط النظام حتى الان. لان زوال الدكتاتوريات، لا يعني بالضرورة زوال ارثها الفكري والسياسي بصورة مباشرة، على الرغم من تبني النظام الجديد الاليات الديمقراطية في ادارة سلطة الدولة والحكم.

وينعكس ذلك على اغلب الاحزاب العراقية وجمهورها وآليات العلاقة الناظمة لحياتها الداخلية على مستوى علاقة الاعضاء بدائرة الكادر الوسطي وعلاقة الكادر الوسطي مع القيادات العليا للحزب. ويشمل الاحزاب، جديدها وقديمها في السلطة والمعارضة، حيث تغيب المداولات السياسية بين القادة والجمهور وتسود العلاقات الامرية بين القيادة والقاعدة ، والقائد لا يتزحزح عن موقعه القيادي حتى الموت، ولا يتورع عن الانشقاق على حزبه وتأسيس حزب جديد، اذا ما اختار المؤتمر العام للحزب زعيما غيره تحت ضغط الوضع السياسي واشتراطاته.

ان بعض الاحزاب التي تشكلت بعد 2003 وكذلك تلك التي عادت قياداتها من المهجر، تسابقت بشكل محموم لاحتواء منتسبي حزب البعث المنحل، ولم يكن هذا التسابق ناجما عن ميل للتسامح او التصالح الوطني وانما لاسباب نفعية وانتهازية صرفة من الطرفين، وقد حقق هذا الاحتواء جمهورا ونفوذا لاحزاب لا تملك غير زعاماتها، وحماية شخصية للمنتمي الجديد من المحاسبة عن تاريخه السابق، مستبدلا ثوب البعث، متواريا بلبوس يتناسب مع الاتجاه العام للوضع الجديد، وكان لبوس الدين والطائفة والعشيرة هو الاكثر رواجا. وقد اتاح هذا المناخ للانتهازيين وسراق المال العام والفاسدين وحتى المحكومين بجرائم عادية ومخلة بالشرف طريقا الى التسلل الى احزاب النظام الجديد، والنفاذ الى المناصب العليا والدنيا في اجهزة الدولة ومؤسساتها، بدعوى انهم ضحايا سياسة النظام السابق كذبا وزورا.

وفي هذا بعض ما يفسر حالات الاستعصاء في العملية السياسية في العراق، والعلاقات المتشنجة بين اطرافها، ويلقي شيئا من الضوء على ازمة المواطنة، وازمة الديمقراطية، لان من الصعوبة بمكان بناء دولة وطنية بولاءات لا وطنية، وديمقراطية بقوى وتنظيمات واحزاب ليست ديمقراطية.

ان الاخلال في ممارسة الديمقراطية في الحياة الحزبية يتجلى، اما بحرمان القاعدة الحزبية من المشاركة في اختيار القيادات الحزبية وفي عملية صناعة القرار وفي مناقشة واقرار الخط العام لسياسة الحزب وبرنامجه ونظامه الداخلي، او بتطبيق هذه الاليات الديمقراطية فارغة من محتواها، عبر اجراءات اختزالية، صورية صرفة.

ان الانتماء الى الاحزاب الوطنية والديمقراطية غالبا ما يتم بارادة الافراد الطوعية، ويهدف اساسا لخدمة الشعب والوطن، ويقوم على القناعة ببرنامج الحزب المعني ونظامه الداخلي، وافكاره وسياسته، بالدفاع عنها والترويج لها، اي ان الانتماء للحزب السياسي تجسيد لحق المواطنة للاسهام في اعمار وتقدم الوطن، يجد تعبيره في الولاء للذات المعنوية للحزب ولسياسته، وله فقط. وليس لشخص محدد فيه بغض النظر عن موقعه القيادي. وحيث ما تتواجد الولاءات الشخصية، في العلاقات الحزبية، فانها تمثل انتهاكا صارخا لسلامة البناء التنظيمي، وخرقا للديمقراطية الداخلية واخلالا بشروط الالتزام الحزبي، وهدرا للكفاءات الملتصقة بالفكر والمبادىء، لحسابات نفعية وانتهازية.



(1)
الاحزاب السياسية (اهميتها ـ نشأتها ـ نشاطها) ص 66/ دراسة د. سعاد الشرقاوي/ جامعة القاهرة 2005
(2) الانشقاقات الحزبية في الجزائر بين القيادة وحب الزعامة وفخ التسلط / مقال بقلم د. سفيان صخري، ناشط سياسي وأستاذ جامعي
(3) الحقيقة كما عشتها / كتاب/ جاسم الحلوائي ص 268
(4) المصدر السابق / جاسم الحلوائي، ص 256 وما يليها.
 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter