|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الثلاثاء  5 / 11 / 2013                                عبدالقادر العيداني                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

من أعماق السجون
نقرة السلمان ... قيود تحطمت

عبد القادر احمد العيداني
alidanykhader@yahoo.co.uk


حقوق الطبع محفوظة للمؤلف ..
لا يجوز طبع أو تصوير أو اقتباس أي مادة من الكتاب أو تسجيله صوتيا أو على الحاسوب أو في أقراص مدمجة إلا بموافقة المؤلف

موبايل: 07703136884
البريد الإلكتروني:
alidanykhader@yahoo.co.uk

واذ نباشر في موقع الناس نشر الكتاب على حلقات ، نتقدم من المؤلف الاخ العزيز عبدالقادر أحمد العيداني بجزيل الشكر والتقدير لاختياره الموقع لعرض هذا الكتاب القيم ، وتقديم حلقاته بنسخة الكترونية ، أملين التوفيق في ايصالها الى اوسع مدىً وجعلها في متناول كل من تعز عليهم مصالح الشعب والوطن ....

حكايات تروي الكفاح الملحمي للشيوعيين العراقيين
حيث الصمود والبسالة والإصرار على التضحية
للفترة (1963 – 1968م)
مع ملف عن معتقل قصر النهاية

تصميم الغلاف الأول والأخير: الفنان صالح جادري
تصميم المتن والإخراج الطباعي: قاسم محمد علي

تنويه للقارئ الكريم:
إن الصور المنشورة في الكتاب هي حصراً من إرشيف المؤلف الذي يحتفظ به منذ خمسة عقود، ونشر البعض منها في الصحف والمجلات العراقية وبعض مواقع الانترنيت، لذا اقتضى التنويه.

[1]

التقديم

قال الأمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) مخاطباً هارون الرشيد من سجنه :
"لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء"


إهداء

خلال الثورة العراقية الكبرى عام (1920م) ضد الاحتلال البريطاني للعراق، احتضنت إحدى أمهاتنا العراقيات (وهي الشاعرة إفطيمه من عشيرة الظوالم) ولدها الشهيد، وهي تجهش بالبكاء لفقدانها فلذة كبدها. فشمت بها بعض الشامتين بالقول... (جن لا هزّيتي ولوليتي)، فانطلقت بعنفوانها البريء وهي تهتف بأعلى صوتها مفتخرةً...
(هزّيت ولوليت لهذا)
تقصد أنها هزّت ولولت لهذا اليوم، يوم الفداء من أجل حرية الوطن ضد الاحتلال وليكون ولدها وقوداً لمشعل الحرية.

أهدي كتابي هذا إلى الأم العراقية، التي أنجبت خيرة المناضلين، ومن بين هذه الأمهات أمي. أجل أهديه إلى أمي التي أرى عينيها ترنوان مع العراقيات الباسلات لبطولة وبسالة الإبن والزوج والشقيق والوالد الذين سقتهم حب الوطن مع حليبها الطاهر.

أهديه إلى الأم العراقية...
حيث تحدّت وهي تتنقل بين السجون والمواقف والمعتقلات طول البلاد وعرضها، لكي تحصل على معلومة عن صمود أولادها، وهم يقفون بكل رجولة وبسالة بوجه المجرمين العتاة من أجهزة الأمن والاستخبارات والحرس البعثي الفاشي لكي تفتخر.

أهدي كتابي إلى أمي...
إلى المرأة العراقية (فهيمة خضير الأسدي) وهي تبحث عني في السجون والمعتقلات، وما زلت أتذكر في أحد الأيام السوداء من عام (1970م)، حيث تم حشرنا بشاحنات من مقر دائرة استخبارات المنطقة الجنوبية الواقع في محلة (الطويسة) من مدينة البصرة ونقلنا إلى مصير مجهول، علمنا بعد ذلك أنه معتقل (قصر النهاية) في بغداد، جاءت والدتي جالبة معها بعض الطعام والملابس فألقتها أرضاً، وأخذت بدون وعي منها تركض خلف الشاحنة، ولم تستطع عينيها أن تميّز بين الرصيف والشارع فعثرت وانكسرت ساقها وهي تستمع إلى الشتائم والكلمات البذيئة من جلاوزة وأعوان الحكام الطغاة.

كانت ذاكرتها تتقد بالذكاء وهي المرأة الأمية حين تتحدث إلى الأولاد والأحفاد عما عانته المرأة العراقية من اضطهاد طيلة عهود الطغاة المجرمين بسبب وقوفها إلى جانب فلذات كبدها دفاعاً عن مبادئهم التي يعتنقونها في سبيل الوطن الحر والشعب السعيد.

أهدي كتابي إلى أخوَيَّ (شهاب وعبود) وهما يتحملان مضايقات عصابات الحرس القومي وجلاوزة الأمن ومحاربتهم لهما، لأن أخاهم سجين في نقرة السلمان، أنحني إجلالاً لهما بعد هذه العقود الطويلة التي مرت علينا من العسف والاضطهاد.

اهديه إلى زوجتي التي ارتبطت بي وهي تعرف جيداً، أن طريقي محاط بالمخاطر والملاحقات والسجون والاضطهاد.

أهديه إلى أولادي وأحفادي الذين تربوا على الأخلاق الفاضلة مهتدين بنور الحقيقة الساطع الذي لا يمكن أن يحجبه الأعداء، بالوقوف مع المظلومين بوجه الحكام الظالمين.

أهدي كتابي هذا...
إلى رفاقي في الحزب الشيوعي العراقي بما عانوه من سجن واعتقال، من أجل سلوك طريق النضال في رحاب العراق الأوسع من أعلى قمة في جبال كردستان إلى الفاو الحبيبة. أهديه إلى الإخوان والأصدقاء الذين حثـّني العديد منهم على أن اكتب مذكراتي قبل أن يطويها الزمن، فتتلاشى وتصبح في خانة النسيان بسبب الكهولة أو الشيخوخة.

أهديه إلى كل عراقي عانى في السجون والمعتقلات بسبب نضاله الثوري، بمن فيهم رفاقي سجناء نقرة السلمان..


توطئة

في أربعينيات القرن العشرين، وبالتحديد عام (1943م)، وفي عصر انتصار الشعوب بالقضاء على النازية وقرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإقامة أنظمة العدل والاشتراكية، جئت إلى الحياة مع أخي (عبود) توأمي، يسبقنا الأخ الأكبر (شهاب) بست سنوات. كانت الولادة في قضاء شط العرب في محافظة البصرة وبالتحديد في قرية (كوت السيد).

تفتـّح وعينا في هذه القرية على الشركات الأجنبية الاحتكارية وهي تسيطر على خيرات البلد، في قرية كوت السيد توجد أجود مزارع النخيل في العالم، إلى جانب مكابس التمور، وعمال المواصلات النهرية من زوارق وأبلام لغرض تصديره إلى خارج العراق، فترى أهل القرية يكدون ويكدحون لقاء دريهمات قليلة لا تسد رمق العيش، والشركة التي كانت تستغل هذه المزارع تسمى شركة (هلس إخوان) وتسمى بالتعبير الدارج (بيت جوك)، تسرق خيرات الأرض من التمور لتصدرها إلى خارج العراق.

في مثل هذا المحيط تفتحت طفولتنا لترى عيوننا أحابيل الشركات الاستعمارية وهي تنهب خيرات الشعوب بدون وازع من ضمير - إن كان عندهم ضمير - . 

بعد سنوات خمس انتقلت العائلة للسكن في مقر شركة (هلس إخوان) في محلة (مناوي باشا) على ضفاف شط العرب وذلك سعيا وراء كسب لقمة العيش.

في عام (1950م) دخلت المدرسة الابتدائية (مدرسة غازي الأول الابتدائية) (مدرسة النضال فيما بعد)، في عام (1952م) انتفض الشعب العراقي ضد المعاهدات الاستعمارية التي وقعها النظام الملكي، وكان لهذه الانتفاضة صدى على طلاب المدارس والكليات وحتى الابتدائية منها. كنا فتيةً صغاراً في الصفوف الثالثة الابتدائية، فبادر طلاب الصف السادس الابتدائي وهم من كبار السن في ذلك الوقت قياساً إلى أعمارنا نحن الصغار بمنعنا من دخول المدرسة وهم يحملون العصيّ والهراوات تضامناً مع الشعب العراقي في انتفاضته الباسلة.

ومن أحداث هذه الانتفاضة، بدأ التأمل والتفكير في الحياة عن الظالم والمظلوم، والحق والباطل، ونضال الشعب العراقي ضد حكامه الطغاة.

بعدها بسنوات قليلة، وأنا أتجول في محلة (الكزارة) وقع نظري على قصاصة من الورق بيضاء مطوية تتهادى مع الريح، التقطتها من الأرض، لم اعرف المحتوى الذي في الورقة فاعتراني الخوف منها فرميتها على قارعة الطريق هارباً أرتجفُ خوفاً وأنا في هذا السن الصغير من العمر.
بعد سنين عديدة عرفت من خلال التأمل أنها منشورٌ للحزب الشيوعي العراقي.

في عام (1954م) قام شباب محلة المناوي باشا بتنظيف إحدى ساحات المحلة، كنا ونحن الفتيان نساعدهم في التنظيف والكنس ورشّ الماء وترتيب الكراسي، وما أن حلَّ عصر ذلك اليوم حتى توافد على هذه الساحة رجال من غير سكنة المنطقة، يشاركهم أهل محلة مناوي الباشا والمناطق المجاورة.

في هذا الحشد الجماهيري أعلن هؤلاء الرجال أنهم مرشحو الجبهة الوطنية للانتخابات النيابية، منهم، فيصل السامر وادكار سركيس وجعفر البدر ومحمد أمين الرحماني، وأسماء عديدة أخرى، حيث عرضوا برنامجهم الانتخابي بالقول أنهم سيمثلون الشعب العراقي في مجلس النواب عند فوزهم بالانتخابات.

كان هؤلاء المرشحون يحملون كيساً يحتوي على خبز لونه أقرب إلى السواد من خبز الشعير، وكانوا يؤكدون أنهم يناضلون من أجل أن يأكل الشعب أجود أنواع الخبز ويرتدي أفخر أنواع الثياب، ولا مكان للبطالة في هذا البلد.

كانت هذه الأحداث وغيرها من التطورات اللاحقة تفعل مفعولها في تفتح الوعي السياسي في عقولنا وتفكيرنا ونحن أحداث لا نتجاوز الثانية عشرة من أعمارنا.

خلال الهجوم الثلاثي على الشعب المصري عام (1956م) أخذتُ أستمع إلى أحاديث شباب المحلة عن تصدي الشعب المصري في بور سعيد للمعتدين، وعن صدى الإنذار السوفياتي في وقف الاعتداء الامبريالي، ومن خلال هذه الأحداث بدأ الشباب برفع الشعارات المعادية للاستعمار ولحكومة نوري السعيد العميلة في العراق بسبب موقفها المتردد من الوقوف مع مصر في محنتها. كنا نحن الأحداث نحمل علب الأصباغ (البويه) مع الشباب لغرض تخطيط الشعارات تضامنا مع الشعب المصري.

عندها يأتي المرتزقة من شرطة الأمن (الشعبة الخاصة) إلى مختار المحلة المرحوم (أبو كامل) لمعرفة مَن كتب هذه الشعارات، فيكون موقف المختار مع شباب محلته ضد السلطة الباغية، ويصرخ بوجوههم بأنّ مَن كتب تلك الشعارات على الحيطان ناس غرباء من مناطق أخرى، كتبوا الشعارات وهربوا، في الوقت الذي يعرف أنّ مَن كتب تلك الشعارات هم من أبناء المحلة.

هكذا كان المختار يقف مع شعبه ضد السلطة، وليس مع السلطة ضد أبناء شعبه كما لاحظناه وعشناه خلال حكم الطاغية وحزبه المجرم.

في عام (1957م) دخلتُ الإعدادية المركزية في الصف الأول متوسط، فتوسعت المدارك وتعمقت الأفكار، فكنا نلاحظ أن العديد من الطلبة في هذه الإعدادية يُشار إليهم بأنهم كانوا في السجون أو مفصولين عن الدراسة عادوا بعد مضي سنوات على تركهم الدراسة.

انتصر الشعب العراقي في ثورته في الرابع عشر من تموز (1958م)، عندها نضج الوعي السياسي لدينا وأصبحتُ عضواً في اتحاد الطلبة (إتحاد الطلبة العام في العراق) وفي منظمة (إتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي)، وأصبحتُ قارئاً متواصلاً للصحافة وللجديد من إصدارات الكتب التي تصل إلى البصرة لزيادة المعرفة ولتطوير الوعي السياسي.

في عام (1959م) أقامت منظمة الحزب الشيوعي احتفالية للترحيب بالسجناء السياسيين الذين تحرروا من براثن الطغاة في محلة (القشلة) - سوق الخضّارة حالياً -، فكنتُ من أوائل الحاضرين للتعرف على بطولة وصمود المناضلين الشيوعيين في السجون، والتي انعكست عليَّ فيما بعد حين أصبحتُ سجيناً سياسياً.

في عام (1960م) إنتميتُ إلى الحزب الشيوعي العراقي في التنظيمات الطلابية عن إدراك ووعي لما يلقيه عليَّ هذا الانتماء من مهام وواجبات يجب أن أُنفّذها بكل وعي وحسّ ثوريّ ونكران ذات في مجال كسب الطلبة والشباب إلى صفوف الحزب وتوزيع جريدة (إتحاد الشعب) وما يصدر من مطبوعات حزبية في تلك الفترة.

لم تستطع ثورة (14 تموز) من إنجاز كامل مهامها وأهدافها، فقد إنقضّت عليها عصابات البعث من الحرس القومي وعملاء الاستعمار بانقلاب إجرامي يوم (8 شباط 1963م)، كان للحزب الشيوعي موقف التصدي للانقلابيين، حيث عمّت أرجاء العراق بناءً على هذا الموقف أعمال التحدي بوجه الإعصار الأصفر الذي حلّ على البلد بقطار أميركي، فانتفضت جماهير بغداد في الكاظمية وشارع الكفاح وعكد الأكراد وفي العديد من المناطق بوجه المجرمين الأوباش.

في مدينتنا البصرة عمّت التظاهرات الشعبية في مناطق عديدة من المدينة وخاصةً في مركز المحافظة ، العشار، وفي محلة الجمهورية خرجت تظاهرة ضخمة دفاعاً عن المكتسبات التي حققتها ثورة تموز للناس الفقراء، واستنكاراً للانقلاب الدموي الفاشي. كنتُ من ضمن المشاركين في هذه التظاهرة، فقامت أجهزة الشرطة والجيش بإطلاق الرصاص على الجماهير المتظاهرة وحدثت معارك بطولية جُرح فيها العديد من المواطنين، وبسبب عدم وجود السلاح لدى الجماهير ولاختلال موازين القوى لم تستطع الجماهير الصمود بوجه الطغاة طويلاً.

على ضوء هذه المستجدات في الأحداث السياسية ولتآمر الطغاة على بلادنا، وصلتنا تعليمات حزبية بضرورة زيادة الحيطة والحذر والتخلص من أي مستمسك يفيد الأعداء وعدم الوقوع في أيدي الانقلابيين وإنكار الانتماء إلى الحزب في حالة إلقاء القبض على أي مناضل والصمود بوجه الطغاة، فأخذنا نبلغ رفاقنا بهذه التعليمات.

في أحد الأيام كنتُ في مهمة حزبية لتبليغ رفاقنا في التنظيمات الطلابية بآخر المستجدات على الساحة السياسية في محلة الأصمعي والجمهورية والعشار والبصرة القديمة والمعقل، وبعد انتهاء مهمتي هذه حاولت العودة بنفس الطريق الذي سلكته في الذهاب للوصول إلى المكان الذي كنتُ مختبئا فيه في محلة الجمهورية (بيت خالي)، ففاجأتني مفرزة من الحرس القومي المشكل حديثاً في موقع عملها قرب مقر شركة نفط البصرة في المكينة (نفط الجنوب حالياً).

تم تشخيصي من قبل بعض المجرمين الذين درسوا معي في الإعدادية المركزية وآخرين من ضمنهم (صالح كريم اللامي وعبدالاله جاسم وجبار صنكور وسامي سلمان وزكي عبدالغني وودود محمد وآخرين، كان البعض منهم يعرفني فشخّصوني أمام مسؤولهم وذلك بتأريخ (26 / 2 / 1963م)، وبدأوا باستعمال كافة أساليب التعذيب معي لغرض الحصول على معلومات عن تنظيمات الحزب، لكن محاولاتهم كانت تصطدم بصخرة صماء من التحدي والصمود، فمن (الفلقة) والضرب بالصوندات والعصيّ إلى الحرق بأعقاب السكائر، استمرت معي مدة ثلاثة أيام، وأنا مرميّ في غرفة نفايات مهملة. وبعد أن يئس هؤلاء الأوباش من الحصول على مبتغاهم، أرسلوني إلى مقر الحرس القومي في مقر جمعية الاقتصاديين الواقع على ضفاف نهر الخورة، وتم احتجازي في غرفة مظلمة لا يدخلها الضوء، وبين فترة وأخرى يتم استدعائي لغرض إسقاطي سياسياً ومحاولة الحصول على معلومات عن الحزب وتنظيماته.

كان موقفي بطولياً بوجوههم الكالحة، ولم تنفع أساليب تعذيبهم معي، من التعليق بمروحة السقف والضرب بالصوندات والعصي حتى تكاثرت الجروح على جسمي.

كان يقوم بهذه العمليات الإجرامية المجرم (فتحي حسين) آمر الحرس القومي وزبانيته من أمثال (عامر السامرائي ونصار السعدون وزهاء حسين وخالص السامرائي) وشخص يسمى عبدالواحد، طويل القامة كان يعمل موظفاً في البنك العربي وآخرين كانوا يتطلعون بوجهي لغرض تشخيصي، ولحد هذه اللحظات لم تكتشف التنظيمات الحزبية وخاصةً اللجنة المحلية للحزب في البصرة التي ما زالت طليقة ولم يعتقل منها إلا الراحل القائد النقابي(علي شعبان) من قبل أجهزة الأمن.

دام احتجازي في مقر الحرس القومي مدة عشرة أيام لم يستطع المعذبون خلالها الحصول على أي معلومات حزبية، يلحقهم العار والشنار لمن سبقوهم من الأوباش أفراد الحرس القومي في (الجمهورية). وبعد أن يئس هؤلاء المجرمون من الحصول على أي معلومات حزبية بسبب صمودي أمام الجلادين، تم إرسالي إلى مديرية أمن البصرة التي تقع في محلة (الكزارة) من قبل مفرزة من الحرس القومي بإمرة المجرم عامر السامرائي.

في مديرية أمن البصرة تم وضعي في غرفة الموقف وهي بالأساس كراج لوقوف السيارات، فوجدت بعض المعتقلين فيه من أمثال (العامل علي شعبان ومحمود كرطه) وهما من المناضلين القدماء حيث قضوا سنين عديدة في السجون الملكية، وكذلك المعلم غني القريشي والكثير من الموقوفين. وكان يعاون أجهزة الأمن بعض المرتدين من الشيوعيين سابقاً والذين أصبحوا عملاء للأمن أمثال (محمد علي الموسوي وإبراهيم صياح) وهذا الأخير جاء في احد الأيام إلى غرفة الاعتقال وهو يهدد غني القريشي بالاعتراف وإلا يكون مصيره الموت المحتّم.

بعد يومين من وجودي في موقف الأمن، تم استدعائي أمام المحققين من ضباط ومفوضي الأمن لمعرفة انتمائي للحزب الشيوعي العراقي، وعن التنظيمات التي كنت أعمل فيها، وبما أني كنت من أوائل المعتقلين الطلبة ولم تكتشف التنظيمات الطلابية، وبعد إصراري كوني غير شيوعي ولا صلة لي بالتنظيمات الحزبية، وبعد جولة من التعذيب قادها المفوض في شرطة الأمن (فاضل سلمان) المعروف بـ(فاضل الأسود) حيث كان مسؤولاً عن قاطع العشار والمفوض كريم المسؤول عن قاطع البصرة ومجموعة من المجرمين في شرطة الأمن، وبعد أن فشلوا إزاء إصراري على الصمود أمامهم مهما كانت النتائج، قام مفوض الأمن كريم بوضع مسدسه على جبهة رأسي طالبا مني الاعتراف وإلا ينفذ بحقي قرار رقم (13) سيء الصيت لإبادة جميع الشيوعيين، محذراً إياي بأنه سيعدّ إلى الرقم (3) فإذا لم أعترف سيكون الموت مصيري. وما أن انتهى العدّ حتى عاد خائباً أمام إصراري وصمودي بوجه أوباش الأمن، عندها يتراكض الجلاوزة لغرض تعذيبي بالعصيّ والصوندات والركل بالأرجل وبأعقاب الأسلحة من البنادق ومن ثم التعليق بالشبابيك لحدّ الإغماء، فقاموا بقذفي إلى غرفة الاعتقال، فاستقبلني الموقوفون وقاموا بتدليكي ومداواة الجروح والكدمات الظاهرة على جسمي.

استمر التحقيق والاستدعاءات مدة ثلاثة أسابيع، وكان علي شعبان ومحمود كرطه وغني القريشي والآخرون يحثونني على الصمود بوجه المجرمين من أوباش الأمن، وفي إحدى جولات التحقيق طلبوا مني أن أشتم الرئيس الأميركي كندي، فقلت لهم ما فائدة السباب وإن أخلاقي لا تسمح بذلك، وهكذا فشلت محاولاتهم للإيقاع بي فبعد أن اشتم كندي يطلبون مني سبّ خروشوف رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي آنذاك، وهكذا كانت حيلهم التي كانوا يحاولون أن يمرروها علينا للإيقاع بنا.

في أحد الأيام تم اعتقال أحد طلبة الإعدادية المركزية من قبل شراذم الأمن اسمه (أحمد غريب)، وبالنظر لوجود علاقة حزبية لي معه سابقاً فقد وجدته في وضع مرتبك وخائر القوى، هددّته بأنه إذا سألوه عني يكون جوابه أنه لا يعرفني، وسأنكر أنا بدوري أية علاقة به.

بعد ذلك تم نقلي إلى مركز شرطة البصرة في البصرة القديمة، وكان قاووش (ردهة رقم4) يغصّ بالمعتقلين الشيوعيين، وقد بلغ عددهم حوالي المائتين، في حين أنها لا تستوعب أكثر من ثلاثين معتقلا أو أكثر بقليل. كان جلوسنا أغلب الأوقات على حافة الشبابيك، وكان النوم بالتناوب بطريقة تسمى (الكاز)..!، أي النوم على جهة واحدة، وكان معي الكثير من الموقوفين أمثال القاص محمود عبدالوهاب والأديب صالح الشايجي والشاعر الشعبي عبدالدايم السياب والمرحوم مصطفى الدوغجي وعلي عامر والصحفي كامل العبايجي صاحب جريدة البصرة البصرية وأمين قنبر وكان يمتلك أيضا مكتبة لبيع الكتب الماركسية وكذلك أخيه سالم قنبر وحسن الملاك وصادق الناشيء ونادر عبدالله المياح وأخيه سالم المياح وغني القريشي وهادي حسن ونجاح الدهان، وحسن علي حسين وكاظم شنو وجنجون حسين وصبيح العضب وهادي الصكر ومدحت حشمت وكاظم حسين عليوي وجبار ناصر ورجب خميس وفريد دانيال وخالد ياسر وجاسم عبود وخالد جابر وحسن عثمان وحكمت شناوه، والعديد من عمال وموظفي وسياسيي مدينة البصرة.

كانت عصابات الحرس القومي تنظم هجمات بوليسية علينا فتخطف من تشاء لغرض تعذيبه، ومحاولة الحصول على معلومات منهم لاسيما في الساعات المتأخرة من الليل، حيث تأتي هذه العصابات مخمورة تترنح.

وبالرغم من الوضع المتردي في هذا الموقف، إلا أننا استطعنا أن ننظم حياتنا اليومية بما نستطيع له من تنظيم، فمثلا كان واجبي استلام ما يسمى بالطعام للموقوفين وهو مطبوخ من أردأ مواد الطبخ حيث (مرقة الهوى) هي الوجبة السائدة وهي ماء حار وربما دافئ فيه رأس بصل وطماطه تالفة، أو مرقة من قشور الباقلاء، وما إلى ذلك من مواد لا يأكلها الحيوان.

في أحد الأيام ذهبت لاستلام (المرقه) فرأيت فيها الكثير من الصراصر والحشرات، ولاحظت اللحم مصبوغ باللون الأحمر، فعرفت أن الطباخ بدلا من أن يضع المعجون وضع صبغ الملابس الأحمر بدلا عن المعجون فرفضت الوجبة، حتى جاء ضابط المركز يرعد ويزبد ويلوح بعصاه بالويل والثبور وعظائم الأمور، لأنه شريك المقاول في نهب المخصصات، وعندما رأى القدر المتسخ سواداً والمعوج من أكثر من جانب إشمأزّت نفسه من الروائح الكريهة وغير المستحبة التي انبعثت من القدر، فرفضه وأرغم المقاول على جلب طعام آخر للموقوفين، فكانت المرة الوحيدة التي تناولنا بها كباب المطاعم.

كنا في هذا الموقف نعاني أشد أنواع المضايقات، حيث الخروج إلى دورات المياه مرتين في اليوم صباحاً ومساءً، والتبول يكون في صفيحة من التنك مركونة في أحد زوايا الموقف، أما الحمامات فلا أثر لها، ومن يريد أن يستحم في زمهرير الشتاء بالماء البارد، فالمكان المناسب هو المرافق الصحية، وبسبب عدم وجود حلاق استطال شعر رؤوسنا وأصبح بيئة صالحة للقمل والحشرات التي تتقافز من شقوق بناية المركز القديمة جداً، بالإضافة إلى الأمراض العديدة كمرض الجرب والحساسية التي تصيب جلد الإنسان، وارتفاع ضغط الدم ومرض السكر، وما زاد الطين بلـّة إنقطاع مواجهات العوائل للموقوفين، واحتجاز الطعام الذي يجلبونه معهم وسرقة أغلبه فلا يصل إلا الفتات من الطعام.

إنّ مطحنة البعثيين وحرسهم القومي المجرم استمرت بدون توقف، فكانوا يجلبون لنا كل يوم بموقوفين جدد حتى امتلأت الممرات أيضا بالمناضلين. في ذلك الوقت جلب الحرس القومي قائمة بأسماء بعض الموقوفين لغرض إطلاق سراحهم، وكان من ضمن الأسماء الرفيق إيليا (أبو سمير) ، وعندما وقف أمام المجرمين ارتعبوا خوفا منه وذلك لشبهه بالرفيق كاسترو، فطلبوا ثمناً لإطلاق سراحه حلاقة لحيته الطويلة على أن يعودوا في اليوم التالي. وعندما جاءوا في الموعد المحدد وجدوه على حاله (لم يحلق لحيته)، لعدم وجود أدوات الحلاقة أولاً ولإصراره على عدم التنازل أمام الطغاة ثانياً، فلم يطلق سراحه، وكان ثمن عدم حلاقة اللحية الحكم بسبع سنوات والسجن في (نقرة السلمان).

في إحدى الليالي، وفي ساعة متأخرة تم استدعائي إلى غرفة ضابط المركز، وإذا بالمجرم المفوض في دائرة الأمن فاضل سلمان يستقبلني بأقذع الشتائم وهو يردد: تقول إني لست شيوعياً... أتعرف هذا الشخص..؟ (الذي كان يجلس بجانبه..!!)، وكان الخائن المرتد محمد علي الموسوي من أهالي الفاو طالبا معنا في الإعدادية المركزية وفي التنظيمات الطلابية، فخان الحزب وأصبح يعمل مع دوائر الأمن لمحاربة الحزب الشيوعي. فكان جوابي: أجل أعرفه. فقال: ماذا تعرف عنه..؟ فقلت له: أعرفه طالباً كان معي في الإعدادية، ولا أعرف أي شيء آخر عنه..!!، فردّ عليّ المجرم فاضل سلمان: إنه يقول إنك شيوعي. فكان جوابي: وماذا تنتظر من خائن أن يقول من اجل أن يُلمع وجهه القبيح أمامكم..؟، وبعدها استمرت جولة التعذيب من قبل جلاوزة الأمن يشاركهم جلاوزة شرطة مركز البصرة حتى أصبحت مثل جثة هامدة لولا صعود ونزول النفس لظنوا أني ميتاً، وكانت الدماء تسيل من أكثر من موقع في جسمي. ومن أساليب تعذيبهم أنهم رفعوا قدميّ ثم شدّوها بحزام البندقية، يمسكها شخصان، وبدأوا الضرب على باطن القدمين بالعصيّ والصوندات لمدة طويلة، حسبتها ردحاً من الزمن الطويل، وبعدها أخذوا يضربونني وأنا أتقافز داخل الغرفة وقدماي متورمتان تنزفان دماً إلى أن سقطت على الأرض مغميّاً عليّ. لم يجن المجرم المرتد محمد علي الموسوي غير الخذلان والعار مع سيّده المجرم المفوض فاضل سلمان والزبانية الذين ساعدوهما.

بعد ذلك لفـّوني ببطانية قذرة كانت ملقاة قرب المرافق الصحية، وألقوا بي مرة ثانية في الموقف، فأخذ الموقوفون يداوون الجروح التي أصبح بسببها جسمي أزرق اللون.

وبسبب اكتظاظ المعتقل بالمئات من الموقوفين الشيوعيين وعدم إمكانية استيعاب المزيد، قررت الجهات الأمنية نقل الموقوفين إلى معتقل معسكر الشعيبة في سجون تقع تحت الأرض، وذلك في أواسط شهر آذار عام 1963م، وخلال نقلنا من مركز شرطة البصرة لم نعلم إنهم سيرسلوننا إلى معسكر الشعيبة، إلا بعد الوصول إليه، وكان ظننا أنهم ربما سينفذون بنا حكم الإعدام وفقاً لبيانهم المشؤوم رقم (13) الذي يقضي بإبادة الشيوعيين العراقيين.

في معتقلات الشعيبة التي تقع تحت الأرض استقبلنا المجرم ضابط المعتقل غانم المصباح وزبانيته بالضرب والإهانات والكلام البذيء، ووضعونا في تلك المعتقلات المبنية تحت الأرض، وكانت حصة الموقوف الواحد خلال اليوم صمونتين أصلب من الحجر يصعب أكلهما ما لم تغمسا في الماء، إضافة إلى أردأ أنواع التمور (الزهدي) مع حفنة رز يشكل الرمل نصف كميتها، ومرقه باهتة اللون عديمة الطعم بسبب احتوائها على قشور الباقلاء فقط. وكان يسمح للمعتقلين بالذهاب إلى المرافق الصحية مرتين باليوم صباحية ومسائية، تحت هراوات الجنود. أما الاستحمام فلا وجود له في قاموس هؤلاء الأوباش، مما أدّى إلى تعرض الكثير من الموقوفين للأمراض الجلدية وتكاثر القمل في جو من المعاملة السيئة جداً. وبعد انقضاء حوالي الشهرين تمت إعادتنا إلى موقف شرطة البصرة القديمة.

في موقف الشرطة المذكور تعرفت على المرحوم الرفيق علي عامر وقد تعرض للسجن في ثلاثينيات القرن العشرين عندما كان عريفاً في الجيش العراقي بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي العراقي، وهو من مؤسسي الحزب الشيوعي في البحرين خلال الأربعينات من القرن الماضي، ولثقته الكبيرة بي أسرَّني بمعلومة وهي أن هناك شخص في ردهة رقم (3) إسمه سليم إسماعيل، فأكدت لعلي عامر بمعرفتي عن ظروف اعتقاله بالرغم من عدم معرفتي له، فتكلمت مع علي عامر بمعلوماتي عن هذا الشخص وبأن الذي وشى به هو المرتد والعميل محمد علي الموسوي، الذي شخصني قبل حوالي ثلاثة أشهر مع مفوض الأمن فاضل سلمان، وكان هذا المجرم يعمل مراسلاً حزبياً بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب توده الإيراني قبل أن يصبح خائناً، وكانت مهمته توصيل سليم إسماعيل إلى حزب توده الإيراني، إلا أنه أوقع سليم إسماعيل (أبو عواطف) في كمين مفرزة شرطة الأمن العراقية. وقد شرح الراحل سليم اسماعيل هذه الحادثة في مذكراته (الصراع) الصادرة عن دار المدى .

بعد ذلك تعرفت على سليم إسماعيل الذي كان موقوفاً مع المتهمين العاديين، وكانت تهمته حيازته على جواز سفر أردني إدعت السلطات أنه مزوّر. وكانت تصلنا في بعض الأوقات أخبار ومعلومات عن نشاط رفاقنا الذين لم تستطع دائرة الأمن والحرس القومي من اعتقالهم وظلوا يمارسون نشاطهم الحزبي وهم مختفين عن أعين العدو. وكذلك كانت تصلنا أخبار عن الوضع السياسي مع ما يصلنا من موقوفين جدد بسبب الاعتقال أو تنقلهم بين المعتقلات.

كنتُ عند وصول المعلومات والتأكد من صحتها نبلغ بها الموقوفين وأبادر إلى توصيلها إلى سليم إسماعيل المعتقل في الردهة المقابلة لردهتنا.

استمرت أيام الاعتقال مرة قاسية بسبب مضايقات وإرهاب العدو من الحرس القومي وزبانية الأمن، إلى أن تم ترحيلنا يوم (5 / 7 / 1963) إلى سجن نقرة السلمان على إثر انتفاضة معسكر الرشيد بقيادة البطل الشهيد حسن سريع يوم (3/ 7/ 1963).

سأروي لكم حكايات عنها في الفصول القادمة.



 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter