|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 السبت  16  / 11 / 2013                                عبدالجبار نوري                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الكوميديا اللإلهّيةِ لدانتي وجَدليّة الأدب المقارن

عبدالجبار نوري

عرض الموضوع :
الكوميديا اللإلهّية (الملهاة) للشاعرالإيطالي دانتي ، 1265م – 1321م ، نسجَ أفكارهُ بشعرٍ ملحمّي تحتوي على نظرةٍ خياليةٍ في الإِستعانةِ بالعناصر المجازية حول الآخرة - حسبَ الديانة المسيحية - وتخيلَ عالماً أبدّعهُ من خياله فيه مكانٌ للخير وكذلك للشر - عندما تمرد أولُ ملاكٍ على الّرب ، لسريان الشر في الأنسان نفسه، فهو يصبو في قرارة نفسهِ ألى رحلةِ أرتقاءٍ روحي نحو الكمال، وأيجاد الأنسان النموذجي المُصلِحْ عند تعميدِه من خطاياه بالتوبة الأزلية بعد معاناة الجَلد الذاتي والتعذيب الروحي المأساوي في مرحلتي رحلة (الجحيم والمُطّهر) ، وبذلك غاصَ الشاعر الإيطالي دانتي في أعماق هذا الكائن العجيب المتمرد والمتعجرف تارةً بجبروت وخيلاء ، وواهن ومتمسكن تارةً اُخرى ، والكوميديا لا تدور في أطارٍ حماسي حربي وأنما في أطارٍ جديد من القيمّ الروحية "اللوثرية" في أصلاح رجال الدين في الطريقة ألتي يمارسونها في تغيير أتجاهات البشر في السياسة والأصلاح حسبَ أهوائِهم وأستغلالاً لسلطاتهِم في ظُلم الشعوب المسيحية ، وتسلطهم بأسم الدين على شؤون الدنيا - متحدياً بها سلطة الكنيسةِ الكاثوليكيةِ في عصرهِ -، وترجمتْ ألى معظْم اللغات العالمية.

أقسام الكومبديا الألهّية :
تنقسم الكوميديا الألهّية ألى ثلاثة أجزاء (الجحيم ، المطّهر، الفردوس)، وتضُمْ 100 أنشودة 34 للجحيم و33 لكلٍ من المطهر والفردوس ، وتتألف من 14233 بيت شعر ، ورحلة دانتي أستغرقت أسبوع : يومان للجحيم وأربعة في المطهر ويوم في الفردوس ، وسبب التسمية باالكوميديا: فلأنّها تبدأ بما يزعج وتنتهي بما يفرح على النقيض من التراجيديا ألتي تبدأ بما ترتاح أليه النفس البشرية ثمّ تنتهي بمأساة ، أما وصفها بالإلهّية : لأنّ بطل الرواية هو دانتي غايتهُ الصعود في السماوات العُلى لمشاهدة الأنوار الساطعة ببريق نور الرّب ، وفعلاً يبشر رفيقَ رحلتهِ السماوية الشاعر الروماني (فرجيل) بأنه رأى الله في السماوات العلى في أنشودة الفردوس .

وتبدأ الرحلة بمرحلة الجحيم : رأى مكتوباً على بابها عبارة "الطريق ألى حيث القومُ المجرمين" وكذلك عبارة ثانية "فيا أيها الداخلون من بابي أتركوا كلَ أملٍ قبل دخولكم" يصف دانتي الوان العذاب والبؤس والشقاء ، ويقول: ويا للعجب !! أرى في الجحيم أُناساً بدون خطايا تبين أنهم لم يصلحوا ، ويزيد عجبهُ عندما يرى آخرين في الفردوس مفسدين كبعض رجال الدين وشعراء حين كفروا عن ذنوبهم بعمل صالح !! .

مرحلة المُطُهر: وَجدَ فيها الموتى يبحثون عن الغفران من خطاياهم في الأرض عكس الجحيم الذي فيه المعاناة والشقاء أعتبرهُ دانتي جسرأً إلى الفردوس أو فلتراً لترشيح ألأفاقين والمذنبين من خطاياهم ، ويرى دانتي في المُطّهر : أنّ في مقدور الأنسان بجُهدهِ وآلامهِ وأملهِ ورؤياه أن يطهّر نفسهُ من الخطايا ويصل النعيم.

مرحلة الفردوس : وهي المرحلة الأخيرة حين برر فيها العصيان اللا أرادي للخالق لأنّ غرائزه الحيوانية الشريرة موجودة في الأنسان نفسه ليس هو من أختارها أي أنها ليست رهن أرادته يبرر ذلك بعصيان أول مخلوق لخالقه ، وفي هذا الجو الصاخب والمشحون بالأرهاصات الفكرية والصراع ألأزلي بين الخير والشر وبين الحلم والحقيقة والوهم والواقع حيناً يسمو دانتي برهبانية وصوفية مجردة من المادة يعرض وصايا المسيح السبعة الرئيسية للبيع المجاني وبين دانتي المتمرد على الخالق والمخلوق ، ويرى نفسه بريئاً في الجحيم لأنه لم يصلح ويبرر ذلك بمشاهدةِ أُناسٍ بدون خطايا في الجحيم لكونهم لم يصلحوا ، ويرى نفسهُ مع جمعٍ من المذنبين في الفردوس لأصلاح أنفسهم والناس منعّمينْ لأنّهم وجدوا فرصة للأصلاح .

جدلية المقارنة بين الكوميديا الألهية ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري
أبو العلاء المعري شاعرٌ وفيلسوفٌ من العصر العباسي 363 -449 هجري 973 -1057 م ، هاجم عقائد الدين ، رفضَ أن الأديان تمتلك الحقائق التي تزعمها ، أعتبر مقال الرسل مزورا لذا أتهمَ بالزندقة لأنهُ أعلن آراءهُ بأن الدين خرافة أبتدعها القدماء لا قيمة لها ألا لأُولئك الذين يستغفلون السُذّج من الناس ، وبالمناسبة كان نباتيا لدعم حقوق الحيوان .

وأن رسالة الغفران أثمن روائع الأدب النثري العربي ، وهي من سلسلة ذخائر الأدب العربي أو أسطورة اللغة العربية قبل دانتي
ب 280 سنة .

وجد الباحثون تشابهاً كبيراً بين الكميديا الألهية ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري ،أول من أثارَ هذا الجدل هو المستشرق الأسباني الكاهن بالاثيوس 1919 أكّدَ فيها أثر رسالة الغفران بالكوميديا وأيدتها الأقلام العربية ومنهم من قال (أعمى المعّرةِ كان معلماً لنابغة ايطاليا في الشعر والخيال)، وآخر : أن الشاعر الأيطالي قد نسخ خطة الملهاة عن رسالة الغفران ، مستدلين من أوجُه الشبه بين الرسالتين.

أوجه التشابه
1- أن الرسالتان تصفان أحوال الجحيم والنعيم.
2- وكلاهما أظهرتا موقفاً كلياً من المجتمع ، والأنسان ، والكون .
3- كان كلٌ منهما صوفياً بضميره وشاعراً وفناناً في الفكرة والروح.
4- كان للشعراء نصيباَ كبيراً في "الجحيم" لدى دانتي والمعرى.
5- كلا النصّين ينتهيان الى السماوات العلى لحضرة النور الإلهي.
6- يشير كلا النصّين الى أهمية الروح وتطهيرها .
7- ملخص الرحلة (في الرسالتين) تكمن في معرفة الرّبْ إإ
8- أن كلاً منهما رحلة الى العالم الآخر.
9- أتخذ المعري "أبن القارح" رفيقاً له يحاوره ، وكذلك دانتي أتخذ الشاعر الروماني "فرجيل" رفيقاً له.
10- فيهما آمال وآلام الأنسانية بشكل مشترك.
11- أتفاق دانتي والمعري في الفكرة والروح وتقسيمات الرحلة .

وعلى هذا أُثير جدلٌ كبير في أوساط النُخبْ المثقفة منهم من يؤيد وآخر ينفي ويعارض ، وللحقيقة وجدتُ كفةَ النافين - في التأثر والأستنساخ - أقوى من حيث قوة المنطق و حجج التباين المكاني والزماني.ْ

وأن الشام ومعرّة النعمان تعرضتْ للغزو التتري والروماني ونُهبتْ خزائن كتبها ومخطوطاتها ، ثمّ أن "الأسراء والمعراج" حدثتْ قبل أن يولد المعري ، وهي الأخرى رحلةٍ سماويةٍ للقاء الخالق - الوصول لسدرة المنتهى - مع عرض مفصّل للجحيم والفردوس.

وأن الملك الأسباني (الفونسو) ملك قشتالة أمرَ بترجمة رسالة الغفران الى الأسبانية (اللغة القشتالية) قبل ولادة دانتي بعام 1264 م ، لهذا ليس هناك ما يدعو الى التشكيك في أستنساخ دانتي لرسالة الغفران من المعري لوجود أختلافات كثيرة في العقلية والعقيدة والمضمون والأهداف والغايات والمشاهد والأساليب والتخيلات ، والأساطير، ولا يخفى على المثقف الواعي أن التفاعل بين ثقافات الأمم والشعوب هو مؤشر صحيح لبناء الحضارة الأنسانية ، لا يمكن لأية أمة من الأمم أن تبني حضارتها بمعزل عن حضارات الأمم الأخرى ، لأن الأنسانية جمعاء قد تتلاقى في بعض أفكارٍ وتختلف في أخرى ، تتأثر وتؤثر من خلال عملية التلاقح الفكري يمكن أن تولد أبداعات عظيمة تُسّخَرْ من أجل خدمة البشرية ، لهذا كلُه إني من المؤيدين لفكرة ما يدعو أليهِ البعض من أنّ الكوميديا الألهية غير مستوحاة من رسالة الغفران لأن لكلٍ من الرسالتين شخصيتها المستقلة ، وذلك كلٌ منهما يحكي معاناة بيئتهِ ،الكوميديا الالهية تحكي تسلط الكنيسة وخطايا الصراع المجتمعي الروماني والأغريقي ، ورسالة الغفران تحكي ظروف مجتمعية أسلامية بين التشظي المذهبي والعرقي التى أُدلجتْ بمدارس فكرية كالجبرية والقدرية والمعتزلة وتيار الزندقة وغيرها من المذاهب الفكرية .

ثم هناك فروقات كثيرة بين الرسالتين تدحض فكرة الأقتباس مثل :
1- رسالة الغفران هي رحلة خيالية مدهشة الى الدار الآخرة (الى الجنة ثم الى الجحيم) بينما الكوميديا تبدأ (بالجحيم ثم الفردوس)
2- توضيحات المعري في الجنة مادية مليئة بالملذات ، بينما توضيحات دانتي في الجنة روحانية صوفية تتركز على الوصايا السبعة الرئيسة للمسيحية.
3- حراس جحيم المعري من الملائكة ، بينما عند دانتي من الشياطين.
4- أشخاص الرواة عند المعري شعراء ورواة ، وعند دانتي رجال دين وعصاة .
5- الجنة عند المعري ثلاثة أقسام ، وعند دانتي تسعة أقسام .

وخلاصة القول أن الرحلات الخيالية الى العالم الآخر فكرةٌ أنسانيةٌ مشتركة تحدثّت بها الأساطير، وأنّ الرسالتين تعتبران من أبدع روائع الأدب العالمي ، ومن أهم الذخائر التراثية الثّرةِ التي توجتْ خزانة الفكر الأنسانى وأبدعت في الخيال والحقيقة في البحث عن الأنسان المصلح والأرتقاء بالذات البشرية الى الكمال .

 

السويد في 14-11-2013










 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter