|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الثلاثاء  14  / 1 / 2014                                عبدالجبار نوري                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

وطنيّة وعراقيّة يهود العراق

عبدالجبار نوري

إنّ يهود العراق أقدم الطوائف الدينية الموجودة في العراق حيثُ يرجع تأريخ وجودهم أكثر من 2600 سنة، وتمتعوا بمكانة ٍ أجتماعية مرموقة ويشكلون الرموز المتبغددة المترفة ، وإنّ يهود العراق مصطلح يطلق على سكنة العراق من اليهود الذين هُجِرَ أغلبهم على يد الحكومة العراقية عام 1948 وفيما بعد تَمّ الأستيلاء على أملاكهم وأموالهم وأسقاط الجنسية العراقية عنهم , بالوقت الذي كان ولاء أغلبهم للعراق كوطن وللعرب بتأيدهم للثورة العربية ضد العثمانيين لأنّ الطائفة اليهودية قد ميَزّتْ بين العثمانيين كمتسلطين وبين تأريخهم الطويل بالعرب ، عندما نتحدث عن يهود العراق فإنّ التأريخ هو الذي سوف يتحدث عن شريحة من شرائح الشعب العراقي وجزء من الطيف العراقي ونسيجهِ الأجتماعي، ويجب أنْ نفصلْ بينهم وبين الصهيونية المدعومة بالماسونية العالمية والأستعمار البريطاني الذي أغتصبَ أرض فلسطين العربية ، علماً إنّ أغلبية يهود العراق كانوا ضد الآيديولوجية الصهيونية.

يعتبر يهود العراق جزء مُهمً من الشعب العراقي حيث يشكلون 6 - 2 % من مجموع سكان العراق عام 1947 في حين أنخفضتْ هذهِ النسبة إلى 1 - 0 % من سكان العراق عام 1951 ، وفي تأريخ اليهود المعاصر كانت الغالبية منهم تسكن المدن وكانت قلة قليلة تسكن الريف، سكن هؤلاء اليهود بشكلٍ أساسي في المدن الرئيسة مثل بغداد والبصرة والموصل وكان أيضاً لهم وجود في المدن الأخرى كالسليمانية وأربيل والحلة والناصرية والديوانية والعزير والكفل والعمارة وتكريت وحتى النجف التي أحتوَتْ على حي سميّ ب (عكد اليهود) وكذلك في سامراء ولهم سوق يسمى (سوق اليهود) ، وإنّ أنتشارهم في بغداد من شريعة قصر شعشوع في الأعظمية (الكسره) إلى سدة خضوري في الكرادة ومنطقة البتاوين إلى الباب الشرقى وكانت تسمى ببستان الخس، واتخذت من شارع غازي والشورجة وساحة الأمين وسوق حنون وعكد الجام ومحلة التوراة سوقاً للعمل وسكنتْ الفئات المتوسطة والفقيرة في أبي سيفين وألبو شبل وقمبر علي وبني سعيد ، وساهمتْ الطائفة اليهودية في جميع مجالات الحياة الأجتماعية والأقتصادية والسياسية والثقافية ، وكان لليهود حضوراً جدياً في بناء العراق بشكلٍ مخلص حين كان أول وزير مالية في الحكومة العراقية عام 1921 يهودياً يدعى : (حسقيل ساسون 1860 - 1932) الذي يشهد لهُ التأريخ بأنهُ مثال في الأخلاص والنزاهة والمهارة المهنية ولهُ مواقف وطنيةٍ متميّزة يفخر بها العراق في العصر الحديث ، أستُوزِرَ في حكومة عبد الرحمن النقيب وظلّ محتفظاً بمنصب وزير مالية لخمس مرات ، أهتمّ بتطبيق الأسس المالية الصحيحة وهو الذي عمل على أنجاز اصدار عملة عراقية بالدينار العراقي بدل الروبية الهندية والليرة التركية ، ومن النوادر والشواهد على نزاهتهِ : عندما رصَدتْ الحكومة مبلغ 300 دينار لترميم القشلة بأشراف ناجي السويدي تدخل ساسون كوزير مالية وذهب يستطلع الموقع بنفسهِ وخصَمَ من المبلغ المرصود 45 دينار وكتب مذكّرة يرد على المشرف على الترميم (الى ناجي أفندي إنّ مبلغ 255 دينار يكفي لأنجاز الترميم وإنّ 45 دينار أهدار في المال العام وليكن في حذرك ، إنّ الفساد المالي يأتي من الأهدار الذي يجعل من المال سائباً والمال السائب يعلّم على السرقة) .

وقال الملك فيصل الأول رحمهُ الله بحقهِ (إنّكَ يا ساسون أفندي حريص على المال العام وصَلبْ في المواقف الوطنية العقلانية التي تخدمْ دولة العراق فأنا مبتهج بكَ) وإنّ موقفهُ الوطني في مفاوضات النفط مع بريطانيا حينما أشار على المفاوض العراقي أضافة كلمة (ذهب)على جملة (أربعة شلنات) عند أحتساب عوائد النفط لكي يضمن أستقرار نسبة الفوائد، وهكذا تكون المواقف الوطنية الخالدة حين يسطرها التأريخ بحروفٍ من ذهب وإلا فلاّ !! ؟؟؟.

الفرهود والهجرة والتهجير
جرى الفرهود على يهود العراق سنة 1941 أعقبت سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني أثر أنقلاب 1941، حدثت أعمال عنف ونهب وقتل وجرح الكثير منهم كما تمّ تدمير اعداد كبيرة من بيوتهم في المدينة وحدثت في 1 حزيران 1941 خلال أحتفالات الطائفة بعيد (الشفرعوت) وأستغلّتْ بعض من ذوي النفوس الضعيفة والجهلة والرعاع والبلطجية والشقاة حين يصدف فراغ أمني، فتعرضتْ المحلات الضخمة لليهود ومساكنهم للنهب وحدث ذلك لمجرد ظهور أشاعات في الصحف إنّ اليهود يناصرون الحركة الصهيونية العالمية لأحتلال فلسطين ، بيدَ أنّ الكثير منهم كانوا كارهين للصهيونية وغير مؤيدين لها، وبعد قيام دولة أسرائيل عام 1948 زادت الحكومة من ضغطها بأتجاه اليهود العراقيين ، لم تكن الهجرة خياراً واضحاً أمام اليهود عموماً لعدم محبتهم لفكرة الصهيونية وحين تعرضّتْ بعض دور العبادة اليهودية في بغداد ومناطق أخرى تعود لهم للتفجير - (التفجير الأول في 8 / 4 / 1950 في شارع أبي نؤاس ، التفجير الثاني في 14 / 1 / 1951 في كنيس مسعود، التفجير الثالث في 19 / 3 / 1951 في بناية مكتب الأستعلامات الامريكية الكائن في شارع الرشيد باب الأغا، التفجير الرابع في بيت لاوي للسيارات) من قبل الصهيونية العالمية لدفعهم للهجرة إلى أسرائيل فأثار الهلع في نفوس الطائفة وساعدت على سرعة هجرتهم إلى فلسطين فبحلول عام 1951 هاجر أكثر من 80 % منهم وقد بقيّ في بداية الخمسينات 15 ألف يهودي من أصل 135 ألف سنة 1948 وعند وصول المرحوم عبد الكريم قاسم رفع القيود عن المتبقين منهم في العراق وقد بدأت وضعيتهم تتحسّنْ وأخذت الأمور تعود إلى طبيعتها لكنّ أنقلاب البعث وأستلامهِ للسلطة أعاد الأضطهاد والقيود عليهم وفي عام 1969 أعدم صدام عدداً من التجار معظمهم من اليهود بتهمة التجسس لأسرائيل مما ادى إلى تسارع حملة الهجرة في البقية الباقية من يهود العراق التي شهدت ذروتها في بداية السبعينات ، وعند الأجتياح الأمريكي للعراق عام 2003 كان مجموع اليهود المتبقين أقل من 100 شخص معظمهم في بغداد وهم من كبار السن والعجزة ، أما التوزيع الحالي لليهود العراقيين في العالم فهو : "404 الف في اسرائيل،15 الف في أمريكا ، 6 ألف في بريطانيا وهذهِ هيّ مأساة تهجيرهم من العراق.

دور اليهود في عملية المشاركة لبناء العراق الحديث
وصار اليهود المحرك للتجارة والصيرفة في أسواق شارع الرشيد والشورجة وخان مرجان وباب الأغا وسوق حنون ومحلة التوراة وأبو سيفين وبني سعيد وشارع غازي، فكان لهم دور في نشأة المؤسسات المصرفية في العراق وذلك لتميزهم بالمصداقية والثقة التي تتطلبها التجارة فبثوا في الأسواق التجارية العراقية النشاط والحركة الأقتصادية المتنامية باضطراد وقد كان أشهر الصيارفة اليهود في العراق والعالم حسقيل الياهو والشيخ ساسون رئيس عائلة ساسون الشهيرة بالتجارة والثراء ، وقد ظهرت في الأسواق العراقية لأول مرة العملات الأجنبية في نهاية القرن التاسع عشر حيث كان وكلاء الشركات الأجنبية من اليهود العراقيين ذوي الخبرة في العملات واسعار الصرف ، وطوّر اليهود صناعة الأحذية والأثاث والصابون والأخشاب والورق ، وللاسف بعد تسفيرهم ركد السوق التجاري مما عرّض العراق إلى هزةٍ أقتصادية عنيفة .

* في مجال السياسة : كان نضال الشعب العراقي ضد الأستعمار البريطاني قد وحّدَ جميع طوائفهِ وقومياتهِ دون أي فرق كما كان اليهود جزءاً من هذا النضال لذا أعدمتْ الحكومةُ الملكيةُ قادةً مناضلين يهود في عام 1949 مع الرفيق فهد مثل : يهودا صديق وأخوه وساسون دلال ، وكان أغلبية الشباب اليهودي في العراق مندمجة في الحياة السياسية العراقية وخصوصاً في الحركات اليسارية والشيوعية بالذات في العراق وباقي البلاد العربية وبرز منهم قادة سياسيون مناضلون مثل : صديق يهودا، يوسف زالوف، حسقيل صديق ، موشي كوهين ، حيث دفعوا ثمن نضالهم أعداماً وسجوناً ومعتقلات وزيارة نقرة السلمان البغيضة ذلك لاجل الطبقات الكادحة من الشعب العراقي، وكان تأثير الحركة الصهيونية محدودة في أوساطهم نظراً لكونهم جزاً أصيلاً من النسيج العراقي وبسبب نفوذ الفكر التقدمي الماركسي على أغلب مثقفيهم مما كان سبباً لأسقاط الجنسية عنهم لتأثرْ النظام الملكي - المعادي للشيوعية - بالفكر الصهيوني.

* في مجال الفن : فقد كان لهم حضور متميّز في حقل الفن والسينما منهم الفنانة سليمه مراد أو سليمه باشا أول أمرأة تحمل لقب باشا، الموسيقار صالح يعقوب عزرا (صالح الكويتي)، الموسيقار داوود يعقوب عزرا (داوود الكويتي) ، حسقيل قصاب في حقل المقام العراقي ، وأسسوا أستوديو بغداد السينمائي في سنة 1948 وأنتجوا أفلاماً ناجحةً منها عليا وعصام وليلى في العراق ، المعروف عن الطائفة اليهودية في العراق أنّهُمْ من مُحبي الطرب (الكيف) لذا أشتهرتْ بالموسيقى والمقام ، وأسسوا نوادي ترفيهيّة أجتماعيّة تضمُ وجوه العائلات البغدادية مثل نادي لورا خضوري وهو أول نادي في بغداد 1925 ونادي الزوراء ونادي الرافدين  وقد صودرت هذهِ النوادي بعد تسفيرهم عام 1950

* في مجال الثقافة والطب : كان لهم نشاط متميّز في حقول الترجمة والثقافة التي رفدتْ الحركة الوطنية وطبعتها بطابع الحداثة فأسسوا مطابع عديدة في بغداد حين أنشأ (شلومو بيخو) أول مطبعةٍ عام 1884 في بغداد مما شجع على ظهور صحف مثل صحيفة الزوراء وصحيفة حبزبوز الساخرة ، وأهم الشخوص والرموز المثقفة من الطائفة اليهودية العراقية والمعاديةِ للحركة الصهيونية : الكاتب نعيم جلعادي والأديب الشاعر والمحامي أنور شاؤول ، وكذلك الشخصية الخالدة الدكتور داوود كباي الذي ترك أثراً و بريقاً في الذاكرة العراقية فهو طبيب ماهر في مجالات مرضية متعددة ، وهو الطبيب الذي تبرع طوعاً للأشتغال في العمارة لعلاج مرض الجذام هناك ، والطبيب المشهور جاك عبود شابي الذي أختصّ بالجملة العصبية وأحسان سمره ، وسمير نقاش قاص وروائي ومصدر في اللغة العربية ، والناقد اللغوي والشاعر سامي موريه الذي ذكر في مذكراته ِ: (إنّ العراق هو قدري الذي يلاحقني في كل مكان) ، وأنشأ المحسن اليهودي (مير ألياهو ألياس) عام 1910 مشفى سمىّ (مستشفى مير الياس) في العيواضية بغداد وأفتتحها ناظم باشا، وأسست الطائفة االيهودية لعراقية
(دار مبرّة للأيتام ) في كنيس التوراة المقابل اليوم للسوق العربي من جهة شارع الرشيد وكان عدد الأيتام فيها 138 طفل يتيم و كان من ضمن الأطفال اليتامى 82 طفل يتيم مسلم !! وبنوا أول مدرسة للبنات في مدينة العمارة عام 1911 بجهود وأموال يهود المدينة لسكانها من المسلمين.

أنتهت الطائفة اليهودية العراقية بسبب سياسة القادة العراقيين الحاقدين والدعاية الموجهة ضدهم من قبل النازيّة ومفتي الديار الفلسطينية (السيد امين الحسيني) ثُمّ مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة وأسقاط الجنسية العرقية عنهم بشكلٍ تعسفي وتهجيرهم ومن بقى من الطائفة اليهودية إلى حين تسلّم حزب البعث السلطة تمّ تصفيتهم جسدياً بحجة التجسس لاسرائيل بالأعدام الميداني في ساحة التحرير في بغداد وبالسطو المسلح وتصفية عوائل بكاملها وهذا ما حدث في السبعينات من القرن الماضي مما أجبر البقية على الهجرة .

اليهود العراقيون في اسرائيل
وقد قسمت أسرائيل والصهيونية العالمية المهاجرين اليهود إلى قسمين : اليهود (المزراحيون أو السفارديم) وهم القادمون من الشرق الأوسط وبعض بلدان أسلامية ، فهم مواطنون من الدرجة الثانية وهذا التصنيف يشمل يهود العراق ، المصطلح الثاني هم يهودً دول الغرب (أشكنازيون) وهم يهود اوربا وهو تقسيم عنصري نازي ، إنّ عدد غير قليل من الطائفة اليهودية لم يرغبوا في أسقاط الجنسية العراقية عنهم إما لشعورهم بانّ العراق هو وطنهم ولم يرغبوا بالتخلي عن وطنهم إما لشعورهم في عدم التخلي عن ثرواتهم، كان اسقاط الجنسية وتسفير اليهود مؤامرة ثلاثية اشتركت بتنفيذها : حكومة أسرائيل والحكومة البريطانية والحكومة العراقية ، وحسب ما علمنا من مصادر خبرية عديدة بأنّ الطائفة اليهودية العراقية عانت أول دخولها اسرائيل ولمدة ثلاث سنوات عاشوا ظروفاً صعبةً حيث السكن في خيم وعدم أعطائهم رخصة عمل مما أضطرّ الأطباءُ والمهندسون والمثقفون للعمل في مزارع البرتقال لأجل الأستمرار في العيش فقط ، وأخضعوا للتجنيد الأجباري أناثاً وذكوراً ، وبقى ويبقى ذكر الوطن الأم العراق الحبيب في ذاكرتهم ، ودأبَ بعضُ العراقيون اليهود على تخليد حياتهم العراقية في أسرائيل فأقاموا متحفاً ومنتدى عراقي وضعوا فيهِ أثراً من ألآثار العراقية من ملابس وصور وأسسوا بها مكتبةً فيها تراثهم العراقي وتأريخهم وعاداتهم ونادي ليلي للغناء العراقي الأصيل في أحياء المقامات والجالغي البغدادي . وبرحيلهم خسر العراقُ أبناءً أخلصوا لتربتهِ وعايشوا جميع الأطياف العراقيّة بسلام ومحبة وأخلاص وتركوا في وجداننا ونفوسنا ذكرياتً حلوة ومرّة لن تنسى إلى الأبد.

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter