|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  7 / 3 / 2015                                 عادل أمين                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

(أوراق قديمة )

البداية كانت حنظلاً

عادل أمين

بعد مضي سنتين على الحرب العراقية ـ الإيرانية، وخاصة سنوات 1982ـ 1988 وبعد أن حررت القوات الإيرانية أراضيها من احتلال الجيش العراقي، دخلت الحرب في منعطفات جديدة، وتغيرت مجرياتها لصالح إيران، ومع بدء الهجمات المعاكسة لقواته واستهداف احتلال الأراضي العراقية، اهتزت المنطقة كاملة، وانتاب القلق دول العالم ذات المصلحة فيها، وكذلك دب الرعب والهستيريا في أوصال بعض دول الجوار العراقي، وكان النظام العسكري التركي بقيادة كنعان إيفرين ضمن الدول الجوار التي أصابها الهلع من مجريات الحرب وتطوراتها، فبدأ من جهة بتشديد حدوده مع سورية والعراق بوجه المعارضة العراقية بشكلٍ خاص للحيلولة دون تنقلها بين سورية والعراق من خلال أراضيه، ومنع تدفق منتسبي المعارضة العراقية من الخارج إلى داخل الأراضي العراقية التي خارج سيطرة النظام، وكذلك الحيلولة دون نقل السلاح إلى أيدي المعارضة، ومن جهة آخرى أخذ بمطاردة العراقيين الذين يشتبه بانتمائهم للمعارضة والقبض عليهم وتسليمهم إلى العراق، وكذلك مطاردة واعتقال المتعاونين معهم من مواطني أكراد تركيا، وفي نفس الوقت شدد النظام العراقي قبضته على حدوده مع سورية، فلاقت المعارضة العراقية وخاصة الحزب الشيوعي العراقي مصاعب جمة جراء هذه المستجدات، فإذا كانت حدود بعض دول الجوار مفتوحة لبقية أطراف المعارضة لتسهيل التنقل بينها وبين العراق، فإنها كانت مسورة بالحديد والنار أمام الحزب الشيوعي العراقي، ولم تكن أمامه سوى المنفذ السوري ومن خلاله النفاذ إلى تركيا ومن هناك نحو العراق، فبدأت مجالات وإمكانيات الحزب للتواصل بين الخارج وكوردستان تضيقُ يوماً بعد يوم، والمنافذ توصَد بوجهه، هذه المصاعب كلفت الحزب الكثير من الضحايا، خاصة في المعارك الحدودية أو مطاردة المتعاونين معه داخل تركيا، قساوة هذا الوضع من جهة، وضرورة التواصل بين الخارج والداخل خاصة كوردستان من جهةٍ أُخرى، خلقتا ظرفاً أمام الحزب، تطلبَ إلى جانب البحث المتواصل عن منافذ جديدة، طرقْ باب ما يمكن تسميته بمقايضة التعاون مع الأحزاب العراقية الأُخرى ذات الامكانيات في المجالات الفنية والحدودية بين الحدود السورية ـ التركية وكذلك السورية ـ العراقية، خاصة تلك الأحزاب التي تربطنا معها علاقات جيدة، كان أقرب حزب إلى الحزب الشيوعي العراقي في تلك الفترة والذي تتوفر فيه تلك المواصفات هو الحزب الديمقراطي الكوردستاني، بنينا علاقات جيدة ومتينة مع مسؤولي مكتبهم في القامشلي، لم نبخل على بعضنا البعض بالمساعدات، كانت لـ "حدك" الإمكانيات في هذه المنطقة لا تضاهيها أمكانيات أي حزبٍ آخر، بحكم نفوذه وسط جماهير القرى التي تقع على الحدود التركية مع سورية، وبين فلاحي ورعاة المنطقة العارفين بشعابها، وهو نفوذٌ تأريخي .

طرقنا هذا الباب، باب التعاون المشترك بمحادثات بيننا وبين الصديق الشهم "محمود كَركَري" مسؤول مكتب الحزب الديمقراطي الكوردستاني في القامشلي ومساعده "صلاح الشيخ"، باكورة العمل والتعاون كانت ليست كما نتمناها، وإنما مرّةٌ كالحنظل، حيثُ تم الاتفاق بيننا على عبور مفرزة من خلال طريق من طرقهم ليلة 7ـ8 /9 /1982 والاستعانة باثنين من أدلائهم إلى جانب أدلائنا، وكانت هذه هي باكورة عملنا المشترك، كان أدلاؤهم وهما "عبدالله سيدا ومحمد خمي"، وهما من أدلائهم المعروفين لدينا، وبأن يكون العبور من قرية قسرك السورية الواقعة على نهر دجلة إلى الطرف التركي، وهذا الطريق هو الأقرب للوصول قبل انبلاج الفجر إلى الجبل، ومن هناك إلى حيثُ محطة الفقيد "أبو حربي" الموجودة في كهوف جبل جودي، ومن ثم السير على الأقدام في الجبال بضعة أيام للالتحاق بمقرات الحزب في كوردستان العراق، كانت مفرزتنا تتكون من 11 رفيقاً على ما أتذكر، لا تحضرني أسماؤهم سوى اسم الرفيق " أبو هبه"، لأن الحادثة ارتبطت به .

أدلاء البارتي كان "عبدالله سيدا" دليل ذو أمكانيات جيدة ومن أبناء مدينة سلوبيا القريبة من نهر دجلة، والتي تقع نقطة اجتياز دجلة في محيطها، وهوهادئ الطبع متأنٍ و من أدلاء حدك المحنكين، أما "محمد خمي"، وهو من أبناء مدينة الجزيرة التركية الواقعة على نهر دجلة، دليل ومناضل يكلف عادة من قبل حزبه بالمهام الصعبة في الأمور الحدودية وكذلك داخل كوردستان تركيا.

قرية قسرك لا تقع على دجلة مباشرة، إنما تبعد عنها بضعة مئات من الأمتار، ونقطة اجتيازها تقع إلى الجانب الأيمن من القرية مسافة حوالي مائتي متر أو أكثر بقليل، ويطلُ على نقطة الاجتياز من الجانب السوري مرتفع، إلى حدٍ ما حاد، وعند التهيئة للعبور ولتجنب مخاطر كشفنا من قبل المخافرالحدودية التركية، أو فضوليّ أهالي القرية نلجأ إلى منخفض عميق نوعاً ما يقع خلف المرتفع، وهو يرتبط من خلال وادي يلتوي خلف المرتفع بضفة النهر، ويكون منفذ الخروج من دجلة في الجانب التركي بين مخفرين للجندرمة، عند المساء ربطنا الكلك (عبارة ـ چوب وخشب بالحبال) في المنخفض وتمت تهيئة أعضاء المجموعة، وارتداء ملابس البيشمركة، مع تجهيزاتهم الآخرى، والتعليمات الضرورية من الأدلاء وكلمة السر عند الضياع والأمور الفنية الأُخرى...الخ، عند هبوط الظلام حملنا الكلك وانحدرنا بهدوء من خلف المرتفع وسرنا في الوادي باتجاه الجرف، مع اشتداد الظلام وصلنا الجرف، وفي الوقت المناسب صعد الرفاق مع تجهيزاتهم على متن الكلك في المقدمة الدليل "عبدالله" وهو الدليل الرئيسي وفي المؤخرة "محمد خمي" الذي يواصل الطريق مع المجموعة مسافة معينة ومن ثم يعود إلى طرفنا مع الكلك، بدأ الكلك وعلى متنه الرفاق بالتحرك، الكلك عادة لا يقطع النهر بشكل مستقيم وإنما بشكلٍ مائل و يأخذ أكثر من ضعف عرض النهر، النهر يمتلك في الليل ما تشبه الرهبة، حيث يتراءى للمرء أن مناسيبه أعلى والمسافة بين جرفيه أوسع من حقيقتها مما يكون مدعاة للتوتر أحياناً عند عابره، أنا وصلاح من "حدك" بقينا ننتظرعلى الجرف من الطرف السوري لحين إتمام العملية وعودة "محمد خمي"، كنا نترقب حركة الكلك، وفي نفس الوقت نسير بهدوء بموازاة الجرف كي نكونُ تقريباً مقابل المنطقة التي يرسو فيها الكلك في الطرف التركي، غاب الكلك عن نظرنا ودخل منطقة الظلام، نبضات قلوبنا بدأت بالتسارع، ونحن نحبسُ أنفاسنا بين القلق والخوف على الرفاق وبين الأمل بسلامة عبورهم، لكن، بعد مضي أقل من نصف ساعة، وهي الفترة التي يستغرقها تقريباً قطع نهر دجلة من تلك المنطقة، ما هي إلا ثوانٍ، بغتة انهال الرصاص على الرفاق من الجانب التركي، يظهر أنها كانت من كمين متنقل أو مجموعةٌ راجلة من الجندرمة، فور وقوع المصادمة أمر "محمد خمي" الرفاق بامتطاء الكلك ثانية واستدارته إلى الطرف السوري من النهر، الحدث ومجرياته لم يكن لحد تلك اللحظة واضح بالنسبة لنا نحن الذين ننتظر على الجانب السوري، ولا نستطيع المساهمة في إطلاق النار خوفاً من أن نصيب رفاقنا، أسرعنا الخطى بمحاذاة الجرف والسير مع جريان النهر كي نصل إلى الموقع الذي يفترض أن يصل اليه الكلك في حال عودته، وهذه العملية أستغرقت بعض الوقت في وسط النهر إلى أن رسا الكلك على الجانب السوري من النهر، والذي يساعد الرفاق على النجاة في هذه الحالات هو أن الكلك يسيرُ بالسرعة مع مجرى النهر بحيث يمنحهم الوقت الكافي للتفادي والتخلص من رمي الجندرمة عليهم، بعد أن وصل الرفاق إلى الجرف السوري، أجليناهم من على الكلك، وطلبنا منهم استغلال الظلام بالإسراع في صعود المرتفع لأن الوادي أصبح بعيداً عنا، والإختفاء خلفه قبل وصول الجندرمة التركية إلى الطرف المقابل لنا، أحصينا عدد الرفاق، كان ينقصهم رفيق واحد، أخبرني "محمد خمي" بأنه الدليل "عبدالله" الذي كان في المقدمة وقد أُصيب بعدة إطلاقات وكان على مسافة من الجرف، وبأنه أي ( محمد ) حاول سحبه إلى الكلك، لكن دون جدوى لأن الوقت لم يكن لصالحه، وأن أولويته كانت في أنقاذ الرفاق والإسراع بعودتهم إلى الجانب السوري،وكان "عبدلله" على وشك لفظ أنفاسه أو قد انتهى حسب توقعه لأن إصاباته كانت كبيرة، لذا تركه هناك، وأن أحد رفاقنا مجروح، طلبتُ من "محمد خمي" و "صلاح" إيصال الرفاق إلى خلف المرتفع وأنا سأتولى أمر الرفيق الجريح.

كان الرفيق الجريح هو"أبو هبه"، وأستميح العذرَ من الرفيق "أبو هبه" حيثٌ اقتلع النسيان إسمه من ذاكرتي، بعد أن ترك الرفاق الموقع بإتجاه المرتفع، بقينا نحن الإثنين، أنا و"أبو هبه"، كانت إصابته غريبة وخطيرة، رصاصةٌ واحدةٌ قد أخترقتْ ثلاث مناطق من جسده، اخترقت أسفل ساعده الأيمن ومرت بالطرف الأيمن من أسفل حنكه وخرجت من أسفل أذنه اليسرى وهو ينزفُ دماً، "أبو هبه" من الوزن الثقيل، أعتقد حوالي (80 كيلو) وضعته على كتفي وهممتُ بالصعود نحوالمرتفع، في الدقائق الأولى حملته بدون عناء ومشقة وكان لدي ما يكفي من القوة و الحمية لحمله والسير به نحو القمة، بعد دقائقٍ معدودة وهوعلى كتفي، شعرتُ بسائل لزج ودافئ يسيلُ من على كتفي ويأخذ مجراه وسط ظهري بين أضلعي نحو أسفل جسدي بإتجاه مؤخرتي، وضعته على الأرض ولمستُ السائل، أنه دم ينزف من جرح "أبو هبه"، انتابني الخوف من أن يفارق الحياة إذا استمر نزيفه على هذه الوتيرة، حاولتُ الأسراع، وطلبتُ منه مواصلة الحديث معي وعدم الإغفاء، وهذا ما تعلمته في المدرسة الحزبية في موسكو عام 1970 يوم أدخلونا في دورة عسكرية لمدة اسبوعين ومن ضمن دروسها كيفية إنقاذ رفيق جريح، الصعود إلى الأعلى نحو المرتفع الحاد والذي هو ربما أكثرمن 60 متر تقريباً مع هذا الوزن ومع لهاثي وقطع أنفاسي أنا أيضاً، يعني يكاد أن يكون مستحيلاً، وبدأ "أبو هبه" بمرورالوقت يزداد ثقلاً، كل عدة أمتار كنتُ أجلس لاستراحةٍ قصيرة ولالتقاط الأنفاس، ومن ثم أعاود الصعود، أصبحت البندقية التي أحملها معي وبالاً عليَّ ولم يخطر ساعتها ببالي أن أعطيها لأحد الرفاق ليأخذها أثناء صعودهم، وكنتُ أتوسلُ إلى" أبو هبه" بين حين وآخر فيما إذا كان بمقدوره أن يسيرعدة أمتار، لأن القمرعلى وشك الطلوع وإذا لم نلوح المنخفض خلف المرتفع في الظلام، سنكونُ آنذاك هدفاً واضحاً للمرمى التركي، أو ربما سيفقد كل ما في جسمه من الدم، لكن وضعه كان ميئوساً منه، مسكين إنه ينزف دماً ولا يستطيع الحراك، قال ليَّ بصوتٍ واهن :أُتركني وانقذ نفسك، أجبته هذا مستحيل، أما أنقذكَ وأما نستشهدُ سوية، وقبيل الوصول إلى قمة المرتفع، بانت الخيوط الأولى لبزوغ القمر، حاولتُ الإسراع وبذل المستحيل لإنقاذ نفسينا، وضعته على كتفي وغرزتُ أصابع ومخالب كفيَّ بالأرض أتشبثُ بالصعود نحو الأعلى، وأئنُ من تحت ثقل جسده، وقبيل انقشاع الظلام بدأت أُولى الإطلاقات علينا من الجندرمة التركية، لا أتذكر كم من الوقت قد استغرقت العملية، ولم أكن أعرف في تلكَ اللحظةِ نحن قد وصلنا إلى قمة المرتفع وعلى مبعدة أمتار قليلة منها، إلى أن سمعتُ أصوات بعض الرفاق، وهم لا يعرفون نحن بقربهم، ناديتهم وقد جاءني بعضهم وسحبونا إلى خلف المرتفع، وبذلك توارينا عن أنظارالجندرمة وعن فوهات بنادقهم.

الرفاق كانوا بانتظارنا، وكانوا قلقين جداً وحسبوا أن "أبو هبه" قد إنتهى، كانت سيارتنا جاهزة في وادٍ قريب، حملنا "أبو هبه" إلى داخل السيارة والرفاق، أوصلناه إلى قسم الطوارئ في القامشلي قبيل منتصف الليل، وبظرف ساعة حضر إلى المستشفى عدد من الرفاق الأطباء السوريين، وهم من رفاق وأصدقاء الحزب الشيوعي السوري الذين أقفُ إجلالاً أمامهم ولن أنسى يوماً تحملهم لمتاعبنا، قاموا كلهم كخلية الطوارئ لإنقاذ حياة الرفيق "أبو هبه"، وأنقذوه في تلك الساعات من دائرة الخطر، بعد ثلاثة أيام من وقوع الحادثة، وصلنا من الطرف التركي خبر تأكيد أستشهاد الدليل "عبدالله سيدا"، وتم تسليم جثمانه إلى أهله في سلوبيا التركية، بعد فترة ماثل الرفيق أبو هبة تقريباً للشفاء وغادر سورية لا أعرف بالضبط إلى أين، لكني أستلمتُ منه مشكوراً عن طريق الرفاق هدية جميلة عبارة عن سيت أقلام، أما "محمد خمي" فقد سافر بعد أشهر من الحادثة بمهمة حزبية من قبل رفاقه إلى تركيا، وأُعتقل هناك وحُكم بثلاث سنوات، وبعد قضاء حُكمه رجع إلى القامشلي ليواصل نضاله في صفوف الحزب الديمقراطي الكوردستاني، هكذا كانت بداية التعاون مرَّةً كالحنظل.







 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter