|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  26 / 4 / 2015                                 عادل أمين                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

(أوراق قديمة )

أفندي فوق هضبة

عادل أمين

بعد يومين من الإنسحاب من كوردستان العراق إلى كوردستان تركيا، بداية أيلول عام 1988 تركتُ قرية آرموش التي كنتُ فيها وذهبتُ إلى قرية (كَريموس ـ تركية) لألتقي بأخي أبو مازن وأطمئنُ عليه وعائلته بعد أن عرفتُ من بعض الرفاق أنه هناك، والمسافة بين القريتين أقل من ثلاث ساعات مشياً على الأقدام، أثناء تواجدي في قرية ( كَريموس) التقيتُ بالصدفة باثنين من بيشمركة الحزب الديمقراطي الكوردستاني كانا موجودين في القرية، وكنا نعرف بعضنا من القامشلي أثناء تواجدهما في سورية، وهما حميد ونجاح من أكراد بهدينان، كان الإثنان ضمن مفرزة الحزب المذكور لنقل السلاح بين القامشلي ومقرات الحزب في بهدينان، لقد سلمت هذه المفرزة نفسها بكامل أفرادها في حزيران عام 1988إلى السلطات العراقية، ولم يكن المذكوران معها أثناء التسليم لأنهما كانا في القامشلي، أُستُدعيّا فيما بعد من قبل الفرع الأول للحزب الديمقراطي الكوردستاني في بهدينان وجرى احتجازهما على ذمة التحقيق لمعرفة ملابسات تسليم المفرزة نفسها للسلطات العراقية، في آب 1988 وقُبيل الهجوم العراقي على منطقة بهدينان بأيام أُطلقَ سراحهما، ووجدا أنفسهما ضمن المجاميع التي انسحبت إلى تركيا، تواصلت علاقاتنا ولقاءاتنا بعض الوقت في القرية، كانت فكرة الوصول إلى سورية تجمعنا نحن الثلاثة، بعد المناقشات وتبادل الأراء والمعلومات، تراءى لنا وجود بعض الامكانيات لتنفيذ ما نرمي اليه، قررنا مغادرة القرية وتكون وجهتنا إلى القامشلي، وتكون المرحلة الأولى هي الوصول إلى قرية اسمها (يك مالا) وهي تقع بين هذه المنطقة التي نحن فيها ومنطقة (هربول)، كان ليَّ دليل أسمه (كامل) يسكن قرية (يك مالا) يمكن الإستعانة به للوصول إلى سورية، وكان لنجاح بديل آخر في حالة فشل الخطة الأولى، سألنا بعض من أهالي قرية كَريموس في كيفية الوصول إلى يك مالا، أعطينا مواصفات تلك القرية، لأن هناك المئات من قرى (يك مالاـ تعني البيت الواحد) بعد جمع بعض المعلومات واستكمالها أستدلينا إلى القرية، أخبرتُ أخي أبو مازن بالموضوع وودعته، تسللنا (أعتقد كان يوم 5/9/1988) صباحاً فرادى من قرية (كَريموس) لمغافلة الجندرمة التي تحرس اللاجئين في القرية، وتوارينا عن أنظارها، التقينا حسب الخطة التي أتفقنا عليها في سفح الجبل الشاهق الذي يطلُ على (كَريموس)، واصلنا السير بهمة عالية في الممرات والأخاديد التي حفرتها حوافر البغال والحيوانات والمواشي صعوداً نحو القمة بشق الأنفس، عند الظهيرة وصلنا إلى الهضبة التي فوق الجبل أعتقد إسمها هضبة (طنيّن ـ أرجو المعذرة من القارئ الكريم إذا أخطأتُ في أسماء بعض المناطق لأن تواجدي فيها كانت لمدة قصيرة) ونحن نلهثُ من التعب والإرهاق، ولم يكن في حوزتنا من السلاح سوى بعض السكاكين العادية، سار بنا الممر الذي نسلكه على الهضبة إلى عين ماء، وأشدُ ما استرعى استغرابنا هناك مشاهدة ملامح رجل غريب المظهر قرب العين، عند أقترابنا أتضح مظهره كاملاً ، رجلٌ يجلسُ على صخرةٍ قرب العين، يضعُ على ركبتيه حقيبة دبلوماسية، واضعاً مرفقيه على الحقيبة سانداً فكه بكفيه، سابحاً في بحر الخيال، ما أن اقتربنا منه أكثر، حتى نهض واقفاً ومندهشاً، لكن من دون ارتباك وحمل باحدى يديه الحقيبة، يظهر على محياه أنه في العقد الخامس من العمر، أنيق المظهر، متوسط الضخامة والطول، متين البنيان، الشيب يناصف شعر رأسه، غليظ الرقبة، أحمر الخدين ترتسم على محياه علائم اليسر والرفاهية، يرتدي طقم كحلي غامق وربطة عنق حمراء وقميص سمائي اللون وحذاء كأنه قد صُبغ للتوه، وعلى مبعدةِ أمتار منه يقف بغلٌ بضخامته، وعلى نحو مائتي متر أو أكثر من النبعِ تُخيمُ مجموعة من (رش مالات) بيوت الشَعرْ للرعاة، من يكون هذا الرجل وبهذا الهندام، وماذا يفعل على هذه الهضبة؟ هكذا تساءلنا مع أنفسنا نحن الثلاثة وبالهمسِ فيما بيننا، عند اقترابنا منه أكثر وأصبحنا وجهاً لوجه، أستهللناه بتحية يشوبها التعجب ولم نستطع من اخفاء استغرابنا منه، رد على تحيتنا بتنهيدة عميقة وهزة رأسٍ ذات دلالات لم نستطع في لحظتها من تفسيرها، قدم نفسه بأسم (صبحي) وأنا قدمت نفسي بأسم لا أتذكره وقدما حميد ونجاح أنفسهما بأسمائهما الصريحة، وكانت قيافتنا وآثار التعب التي حفرت على قسمات وجوهنا وملابسنا الكوردية المتعرقة جنـّبته تجشم عناء التفكير، بادَرَنا من غير اكتراث ومن دون أن يعبأ بشيء بسؤال مؤكد "أنتم بيشمركة من كوردستان العراق؟"، منظرنا لم يعطنا أية فسحة للمناورة و الانكار، أعطيناه الجواب الايجابي بايماءة رأس، تلاشت الدهشة من على تقاسيم وجهه وبان الإطمئنان على ملامحه، أخذنا مواقعنا في الجلوس على بعض الصخور الموجودة حول العين، حينئذ بدأ كمن ينظف حنجرته لقول شيئاً ما، وفعلاً أخذَ بعدئذ بناصية الكلام على مدار حوالي ربع ساعة وعلى شكل محاضرة حول الوضع العام للكورد في العراق وتركيا والمظالم التي ألحقت بهم ...الخ، ونحن مذهولين أمامه ولم نقاطعه، كل ما فعلناه هو هزة رأس دلالة على إتفاقنا مع ما يقوله، وختم "محاضرته" بالقول : وأخمنُ الآن تريدون الهروب من قبضة الأتراك، أليس كذلك؟ تصلبت ألسنتنا وعجزت عن النطق، بهزة رأس أيضاً اجبناه ايجاباً، لكننا من هول اندهاشنا لم نسأله من هو وماذا يعمل هنا وبهذه الهيئة ! عرض علينا مساعدته، بأنه يستطيع ايصالنا إلى القامشلي عن طريق مدينة الجزيرة خلال أيام بدون أي مقابل وبطريقة آمنة ! دبت في أوصالنا مشاعر مزدوجة، القلق من جهة والغبطة والأرتياح من جهة أخرى، من يكون هذا الرجل؟ هل هو ملاك جاءنا على هيئة رجل ليجنبنا متاعب وارهاق ومخاطر الطريق، أم انه من رجال المِيتْ (المخابرات التركية) ويريد أن يسوقنا إلى دائرته ليحقق لنفسه إنجازاً يساعده على الترقي في وظيفتهِ ؟ نجاح وحميد من أبناء الفلاحين بطيبتهم الفطرية وافقا مباشرة على المساعدة، أما أنا، الذي تربيتُ في مدرسة الحزب الشيوعي من الذين نشكك في كل شئ، انتابتني مشاعر عدم الإطمئنان لهذا العرض السخي، لحظات برقَ في رأسي صراع بين الاطمئنان لهذا الرجل وعرضه السخي وبأسلوبه الوديع، وبين الريبة من الغدر والخداع، تذكرتُ وبومضةٍ سريعة رواية باروخ نادل (تحطمت الطائرات عند الفجر) عن الجاسوس الأسرائيلي الذي ساهم في تحطيم القوة الجوية المصرية قُبيل حرب حزيران بيوم واحد 1967 عندما أوصاه رئيسه بتجنب الإحتكاك بالضباط المصريين من خريجي الاتحاد السوفياتي لأنهم يشككون حتى بأمهاتهم ، يبدو ليَّ أن الشك هو مدرسة أممية جُبّلَ على قواعدها الشيوعيين، ترددتُ بين الشك الشيوعي واليقين الفطري، قررتُ أعطاء نفسي مهلة قبل الاجابة، ولم أعطه الجواب، بعد الحديث عن المآسي والمستقبل ...الخ، أثناء شروعنا بالتوجه نحن الأربعة نحو (رش مالات) وأثناء إستدارته لاحظنا تحت سترتهُ مسدس من نوع " ستّار" معلقٌ بخصرهِ، زادنا الشك والارتياب منه،على كل حال وصلنا عند (رشمالات) حُشرنا نحن الثلاثة في خيمة واحدة وصبحي في خيمة لوحده، هذا لم يكن بمحض الصدفةِ وانما تدبير تقتضيه "مهمة " صبحي أفندي، هذا ما أستدركته فيما بعد، بعد حوالي ساعة دخلتْ إلى خيمتنا امرأة حاملة لطبقِ طعام، الجبن والخبز والشاي، سألناها عن (صبحي) من يكون هذا الرجل؟ بجواب مقتضب قالتْ المرأة (زلامكي بيسة ـ رجلٌ قذر) وتركتنا على وجه السرعة وكأنها في دوامة أمور أخرى ومن دون أن تعطينا أية تفاصيل، ولم ترجع إلينا ثانية لانتزاع المزيد من المعلومات منها عنه، تغلب عليَّ الشك وأنا أساساً مشحون بما يكفي من الشك، بدأت علائم التردد تبان على حميد ونجاح أيضاً، ناقشنا نحن الثلاثة وضع هذا الرجل وتغلب علينا الشك حول وضعه، لكن دون أن تتولد عندنا أية روحية أو نيّة عدوانية تجاهه حتى وإن كان من المخابرات التركية لأنه ليس هدفنا، وانما هدفنا الوصول إلى القامشلي، لندعه في شأنه ونحن نذهب في سبيلنا، في النهاية قررنا رفض مساعدته خشية أن يكون من الميت التركي، أنيطتْ بيَّ مهمة تبليغه، أثناء شروعنا بمغادرة (الرش مالات) أبلغته شكرنا لعرضه بمساعدتنا وبحجة وجود عوائلنا في التجمعات الكوردية على الحدود التركية ـ العراقية نرتأي العودة اليهم لمساعدتهم بدلاً من الذهاب إلى القامشلي، ودعناهُ ذهبَ في سبيلهِ، ونحن سلكنا طريقنا المتعرج للوصول إلى ما كنا قد أتفقنا عليه، اتجهنا نحو كلي "كوماته" وفي اليوم الثاني فشلت محاولتنا (ولهذه قصةٌ آخرى) بعد أن فشلت المحاولة الآخرى عدنا أدراجنا نحن الثلاثة نحو تجمعات اللاجئين في قرية كَريموس التركية، ومن هناك تم نقلنا بالشاحنات إلى مخيم (ديار بكر) بعد نحو ثلاثة اسابيع ودعتهما (حميد ونجاح) في مخيم ديار بكر، دون أن أبلغهما بمحاولتي الثانية للهرب إلى القامشلي، وبقيا الأثنان في المخيم فترة لابأس بها إلى أن استطاع أحدهما من إيصال نفسه إلى هولندا والآخر إلى السويد.

بعد أسابيع من وصولي إلى القامشلي، عند لقائي صديقي صلاح الشيخ مساعد مسؤول مكتب القامشلي للحزب الديمقراطي الكوردستاني، وهو من أكراد تركيا وتحديداً من مدينة الجزيرة، كنتُ اسردُ له حكاية الافندي (صبحي) الذي التقيته على هضبة (طنين) وأمتناعنا عن قبول مساعدته بإيصالنا إلى القامشلي، وصفتُ له ملامح (صبحي) وهيئته، بدأ صلاح بالضحكِ ضحكةٍ عالية ملء شدقيه وأنهاها بأف طويلة سحبها من أعماقه، من ثمَ قلب سحنته بشكلٍ مفاجئ ، ونظر إليَّ وطغت على وجهه بعض الدهشة ، قائلاً: أنه عمي الحق، شقيق والدي، كان بامكانه وبكل سهولة من ايصالكم إلى القامشلي بدون متاعب، وهو تآجر المواشي ويملك قطعان من المآشية ويجوب القرى و(رش مالات) لمتابعة اعماله، وفي نفس الوقت يتآجر بالذهب هناك (هنا استدركتُ لماذا انفرد صبحي لوحده في الخيمة أنها كانت مسألة بزنس)، ومن اصحاب النفوذ وسط المسؤولين في مدينة الجزيرة ومعروفٌ بتعاطفهِ مع الحركة الكوردية، وموضع الثقة، وفي الكثير من الحالات نستعين بمساعداته وتعاونه عند أزماتنا مع السلطات المحلية في المدينة، ومن التقاليد المتبعة في تركيا أن اصحاب الأعمال والنفوذ يتهندمون دائماً بالملابس الرسمية والزي الأفندي أينما كانوا للتأثير في عامة الناس، هكذا ضاعت منا فرصة ذهبية، لعنتُ آنذاك الشك، فالإذعان له ضار ومفيد.




 



 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter