|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  24 / 9 / 2009                                 عادل أمين                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مجزرة دجلة

عادل أمين

تمر هذه الأيام ، خمسة وعشرون عاماً على مجزرة نهر دجلة التي تعرضت لها مفرزة الطريق في 27/9/1984 أثناء توجهها إلى كوردستان العراق وهي محملة بوجبة من السلاح والبريد لنقلها إلى أيدي أنصار الحزب الشيوعي العراق ، وهي قادمة من سورية وبعد أن قطعت مسافة عدة كيلومترات داخل الأراضي العراقية ، اصطدمت اثناء محاولتها عبور نهر دجلة بكمين عسكري عراقي ، واستشهد على إثرها كوكبة من ابطال الحزب واثنين من اعضاء الحزب الأشتراكي الكوردستاني الذي كان يقوده آنذاك المرحوم رسول مامند .

كلما أتذكر وتمر في مخيلتي وجوه الذين استشهدوا في تلك العملية يكاد قلبي يغص بين أضلعي ، وكلما ألتقي بالرفاق الذين نجوا من تلك المذبحة ، بقدر ما تملؤني الفرحة والغبطة على نجاتهم ،يملؤني الأسى والحزن والألم على فقدان الآخرين ، الذين استشهدوا.

كثيرة هي الروابط التي تربط البشر بعضهم ببعض ، قد تكون المسائل الوطنية أو المبادئ تجمعهم أو الإهتمام الثقافي أو السياسي أو القومي أو الديني ...الخ ، لكن الرابطة التي ربطت بين أعضاء مفرزة الطريق لنقل السلاح والعاملين معهم ، علاقة من نوع آخر وأرقى بكثير من الروابط الآخرى ، انها رابطة لحظات تكون فيها حياة الواحد مرهونة بحياة الآخر ، لحظات كل واحد منهم فيها مشروع للأستشهاد، روابط وعرى تتعلق بقضية الحياة أو الموت سوية ، أشبه بنسيج يحكم بعضه ببعض ، وهي رابطة يمكن تسميتها برابطة الدم والحياة ، فأية رابطة تكون أقوى وأعمق واكثر حميمية من هذه .

أي أثر حزنٍ تركوه عند الذين شاركوهم بكل شئ ، من أبسط تجهيزات رحلاتهم بين القامشلي والوطن و مشاركة مشاعرهم وهمومهم الإنسانية والوجدانية المتنوعة والمتشابكة ، وإلى لحظة الوداع في آخر نقطة للفراق بأمل اللقاء ثانية ، وأي جرحٍ تركوه في أفئدة رفاقهم الذين شاركوهم حياتهم اليومية ، في كوردستان ودمشق والقامشلي وفي جبال تركيا ، انا أبكيهم ولا أجد في بكائي عليهم عيباً ، شاركتهم كسرة خبزٍ في ثنايا حقائبهم يوم إنقطع بنا السبيل إلى الطعام في جبال تركيا ، شاركتهم لحظة جفلة خوفٍ وهي تنتاب الانسان عند حركة مفاجئة إلى قمة شجاعتهم وبأسهم يوم هجمت علينا الجندرمة التركية في وديان سلوبيا ونحن في لحظة الإستراحة والتقاط الأنفاس، شاركتهم فرح اللقاء وشجون الفراق ، ودّهم ومحبتهم ومنغصاتهم ، كلها تركت اثراً عميقاً في وجداننا نحن الذين كنا نعمل معهم في هذه المهمة .

أبطال وجبابرة كانوا ، نبلاء كانوا عن حق ، حملوا السلاح وأرواحهم على راحة ايديهم ، لا لمنفعة أو مكسب ذاتي ، سوى أن تكون منافعهم ومكاسبهم جزءاً من المنافع والمكاسب العامة ، فالمكاسب إن تحققت فهي للجميع ، لعموم الجماهيرالتي تنشد الخلاص من الإرهاب والظلم وويلات الحرب ، أما الخسائر فلهم وحدهم ، فأي نبلٌ يكون أنبل من هذا ؟

أجد من الصعوبة بمكان ان أفضل احدهم على الأخر ، كل الخصال الإنسانية الصادقة تجسدت فيهم جميعاً ، تحرروا من الصفات الأنانية المدمرة ، حملوا عذاب شعبهم ومتاعبه بحثاً عن السعادة له ، لم يكن لديهم الميل نحو العنف ، وانما ميول المقاومة ضد العنف والإضطهاد ، كانت تملؤهم ردة فعلٍ للعنف بالمقاومة ، كانوا يحملون بنادقهم وفي فوهاتها فترات الإستراحة زهرة برية جميلة دلالة أنهم لم يجبلوا للعنف وانما نشدوا السلام والطمأنينة وحب الحياة ، كانوا يعشقون مباهج المدينة ورونقها ، حياة المدنية ومتعها ، لكن من دون أن تفل تلك المباهج من عزمهم على العودة لأداء مهامهم بحملِ حقائبٍ مملؤةٍ بالسلاح على ظهورهم وسط المخاطر أيام وليال لإيصالها إلى أيدي المقاتلين الذين يدافعون عن حياتهم وحياة وحرية شعبهم ، جاءوا من المناطق المختلفة من الوطن ، ومن مستويات علمية مختلفة ، وربما من شرائح إجتماعية متباينة ، إلا انهم دخلوا في بوتقة فكرية واحدة لدرجة الإنصهار فيها ، كانوا قد قبلوا الخط العام للحزب بملء قلوبهم وأفكارهم بالرغم عما شاب ذلك الخط من اللغط والتلخبط وما أحاطه من الشوائب ، وفي فترة من الفترات الصعبة إن لم تكن أصعبها في سير الحركة وتطوراتها ، والتي كان من الصعوبة وضع الخطوط الفاصلة بين ما هو صائب وما هو خاطئ ، تلك الفترة التي سادتها حالة الهرج والمرج في القيادة وبات الخطر يداهم ويهدد بتفكيك كيان الحزب من داخله ، عندما بدأ ربابنة السفينة يجذفون باتجاهات مختلفة ، وبالرغم من كل ما أشاعتها تلك الحالة من روح الفوضى وخيبة الأمل ، إلا أن هذه المفرزة ، مفرزة نقل السلاح ، سواء الابطال الذين استشهدوا في تلك المجزرة ، أوالذين نجوا منها ، لم يقعوا فريسة بين أنياب اليأس والإحباط ، ولم يتوهن عزمهم وانما واصلوا بحزم وقوة مهامهم ، في نقل السلاح ، وأضيف إلى مهامهم ، مهمة أخرى هي نقل الرفاق من وإلى كوردستان ، الى درجة أثارت إعجاب البعض من القيادة واستغراب البعض الآخر ، فأي أبطال كانوا هؤلاء ومن أية طينة جبلوا ؟!

صدقاً أجد من الصعوبة بمكان من أن أفضل أحدهم على الآخر ، بالرغم من إمكانياتهم المتباينة ، إلا أن عمل الواحد منهم يكمل عمل الآخر وكانوا كجسد واحد ، عمن منهم اتحدث ؟ فأي منهم افضّله على الآخر ؟ الشهيد أبو هديل (عبد الكريم جبر) آمر المفرزة ، الذي يجمع في ذاته من صفات الحزم والعزم وفي نفس الوقت يمتاز بالمرونة والمرح و الدقة والجهادية المنقطعة النظير وتفقده الدائم لرفاقه ، أم الشهيد ابو سحر(صالح حسين الاسدي) الوجه الناعم والبنية النحيلة ،بهدوءه ورقته وجديته يتولى المسؤولية الإدارية للمفرزة ، ورغم بنيته الضعيفة يحمل (ر.ب.ج.7) ، أم الشهيد أبو جهاد ( هاشم جهاد سيف)الذي يصغي بإذعان تام إلى توجيهات آمر المفرزة وإن لم ترق له فتعليقاته الساخرة تكون جاهزة و فورية مع إلتزامه الشديد بتلك التوجيهات ، أم الشهيد أبو إيمان ( راضي محمد ) الهادئ وروحه الفياضة التي تشع بالمحبة والذي لم يدخر جهداً في مد يد المساعدة للآخرين ، أم الشهيد ناهل (نجيب هرمز يوحنا ) بروحه المرحة وجهاديته العالية وعشقه للحياة ، أم الشهيد الحكيم أبو ظفر، الغني عن التعريف ، الذي أطلق عليه السوريون في القامشلي اسم جيفارا العراق لشهرته في مساعدة العوائل الفقيرة هناك ، علماً أنه كان قد سافر مع المفرزة للإلتحاق بعمله في كوردستان بعد إنتهاء إجازته وزيارته لعائلته التي كانت آنذاك في اليمن الديمقراطي ، أم عن (ابو ابراهيم) الكهل السوري الذي رافق المفرزة باعتباره واحداً من الأدلاء ، هل يستطيع المرء أن يفضل احدهم على الآخر بالرغم من التباين في الإمكانيات ، لكن كل واحد منهم أعطى ما يستطيع إعطاءه .

لذكرى هؤلاء الأبطال الخالدين أقف إجلالاً ، ولكل واحد منهم أوقد شمعة المحبة والوفاء .


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter