|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  1 / 12 / 2015                                 عادل أمين                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

(أوراق قديمة )

بازفت معبر ومزار

عادل أمين

بازفت (التي يُطلق عليها تسمية كاتران باللغة التركية) هي قصبة كوردية كبيرة ومن توابع قضاء شرناخ التركية، وتقع بين ميديات وجزيرة بن عمرو بمحاذاة الطريق الدولي الذي يربط تركيا بالعراق، وكذلك خط أنابيب البترول من العراق إلى تركيا، ومن الجانب السوري تقابلها مجموعة من القرى التي تقع بين المالكية (ديريك) ورميلان، مثل باب الهوى، كردمية، بربيتة، معشوقية وريحانية ...الخ وكل تلك القرى تبعد مسافات قصيرة عن الحدود التركية، منطقة بازفت كانت مسرحاً لنشاط الكثير من الأحزاب الكوردية في تركيا، وكذلك أحزاب المعارضة العراقية زمن النضال ضد النظام الدكتاتوري، نظراً لتضاريسها الملائمة لتسلل الحدود بين سورية وتركيا، وميول سكانها التي معظمها من الكورد والمتعاطفة مع الحركات اليسارية، وكان للحزب الشيوعي العراقي نصيبٌ فيها فترة الكفاح المسلح، واحتل معبرها موقعه في تأريخ الحزب إسوة ببقية المعابر التأريخية، مثل فيش خابورـ خانيك، عين ديوارـ الجزيرة، تل حميس ـ سنجار وغيرها، ولم تبق بازفت معبراً فحسب، لا بل أصبحت فيما بعد مزاراً أيضاً، لوجود أضرحة لثلاثة من شهدائنا فيها.

في شهر آب 1982 ومع اقتراب فترة عبور المفارز إلى تركيا ومن هناك إلى كوردستان العراق، استدعينا إثنين من أدلاء أحد الأحزاب الكوردية ـ التركية المتعاونة معنا من قرية بازفت إلى القامشلي، وهما معروفان لدينا، ولنا معهما اعمال مشتركة في السابق، لغرض التباحث والتخطيط لعبور مجموعة من الرفاق في شهر أيلول إلى محطة الفقيد أبو حربي في جبل جودي في منطقة شرناخ، جاءا بعد أيام وتباحثنا أنا وخالد (اسم مستعار) ممثل الحزب الصديق (د.د.ق.د) في القامشلي معهما وتدارسنا الموضوع بشكل أولي وكذلك الأمور الفنية الآخرى...الخ ، أرسلناهما ثانية إلى الجانب التركي للاستطلاع وترتيب وتهيئة الإمور الآخرى مثل تهيئة أماكن إيواء المجموعة نهاراً كاملاً داخل الأراضي التركية مع مستلزمات البقاء والراحة، لأنه من المتعذر الوصول إلى جبل جودي في نفس ليلة اجتياز الحدود، لقصر ساعات الظلام، ناهيك عن التعب بعد السير المتواصل طيلة الليلة الأولى في أراضٍ محروثة أو مليئة بالصخور والأشواك البرية، وهم حديثو العهد بالسير في هكذا أجواء وتضاريس ...الخ، بعد أيام وحسب الموعد المتفق عليه، عاد واحد من الدليلين، وأوضح لنا الأمور والاستعدادات التي اتخذت من الجانب التركي، وابلاغ الرفاق في محطة جبل جودي بذلك، اتفقنا على تاريخ عبور المجموعة والذي يتلائم مع أوقات غياب القمر وبدء الظلام وفترة إدامتها بما يتناسب مع مسافة الوصول إلى المحطة الأولى، وبعد بحث الأمور في الهيئة المسؤولة في القامشلي تقرر أن يكون العبور ليلة 21/9/ 1982، كانت المجموعة تتكون على ما أظن من 17 رفيقاً جهزوا بملابس الأنصار الكوردية والمستلزمات الآخرى وكذلك بالسلاح الذي يتناسب مع وضع المجموعة من حيث الوضع التدريبي لهم والأعمار واللياقة البدنية ومسافة الطريق، وتزويدهم بالمعلومات اللازمة والتعليمات ...الخ

تحركنا يوم السفر بحدود الساعة الرابعة بعد الظهر باتجاه مدينة المالكية التي تبعد قرابة الساعة والنصف عن القامشلي، كانت برفقتنا سيارة المخابرات العسكرية فيها المرحوم أحمد بدران (أبو عدنان) ضابط الاتصال مع الأحزاب العراقية في القامشلي وعنصر آخر اسمه أحمد، وهذه المرافقة هي روتين المخابرات مع جميع الأحزاب العراقية تجنباً للمساءلة عند نقاط التفتيش والسيطرات الحكومية في الطريق وكذلك المخافر الحدودية، وتحوطاً للأمان وحسب اتفاق مسبق مع المخابرات كنا في غنى عن اخبارهم بنقطة العبور باستثناء المنطقة، ويتم ذلك ساعة التحرك من القامشلي، وكانت لنا علاقة (جيدة !!!) مع ضابط الاتصال لذلك لم نعانِ من هذه المشكلة، كان معنا في سيارتنا إضافة إلى الرفاق الذين يعبرون، خالد ممثل (د.د.ق.د) وأحد الأدلاء والشهيد فارتان شكري (أبو عامل) وكان بانتظارنا خالد (أبو هزار) وهو من الحزب الشيوعي السوري في المكان المتفق عليه، أما بقية الأدلاء وعددهم اثنان كانا يمكثان قريباً من منطقة العبور لرصد حركة الحرس التركي في المخافر والآليات والدوريات التي تتحرك على الشارع المحاذي للخط الحدودي، وكانت لنا توجيهات صارمة وشديدة للأدلاء بتجنب الصدام مع القوات التركية سواء على الحدود أو داخل الأراضي التركية إلا دفاعاً عن النفس، لأنه ليس لدينا مهمات قتالية داخل الأراضي التركية، وإنما هدفنا المرور من خلالها للوصول إلى مقراتنا في كوردستان العراق.

في الطريق انعطفنا نحو قرية باب الهوى السورية، وتكون نقطة اجتياز الحدود بينها وبين قرية كردمية السورية، وصلنا مع غروب الشمس إلى منطقة منخفظة وهي على شكل وادي بعيد عن أنظار القرية وكذلك المخافر الحدودية وتبعد حوالي (2) كم عن القرية، هنا أفترقت عنا سيارة المخابرات لتنتظرنا في مكان آخر متفق عليه، أما نحن فقد واصلنا السير من خلال المنخفض إلى أقرب مكان للخط الحدودي، كانت سيارتنا (بيك آب شوفروليت مجدرة كنا نسميها البرمائية لقوتها في إجتياز كل العوائق والتضاريس الشتائية في تلك الطرق القروية الحدودية) وكنا قد جهزناها بنظام يمكن اطفاء جميع الأضوية بما فيها الفرامل أثناء السير ليلاً تجنباً لرؤيتنا في الظلام، في هذا الوادي تم تبديل الرفاق لملابسهم وكذلك تزويدهم بالتجهيزات الآخرى وتعريفهم على الأدلاء وإعادة توضيح عملية الاجتياز، والملاحظات الآخرى التي أبديت من الدليل وكلمة السر وموقع الأدلاء وكيفية سير الرتل...الخ، المسافة من هذا الموقع إلى نقطة العبور والأسلاك الحدودية الشائكة تستغرق عادة بين السير البطيء والنكوص والمراقبة بحدود نصف الساعة على الأقدام، والمسافة بين الأسلاك و شارع الآليات العسكرية قصيرة وتحسب بالأمتار، وهما من أصعب وأخطر المناطق، والعملية كلها مع المراقبة والانتظار والعبور يفترض أن تكون بحدود ساعة واحدة، انتظرنا حلول الظلام كاملاً، وفي هذه الأثناء نتبادل الأحاديث همساً والرد على بعض الاستفسارات، عندما بدأ الظلام بالهبوط بدأنا رويداً رويداً نحن والرفاق بالتحرك مع الدليلين، أحدهما في مقدمة الرتل والآخر في المؤخرة والدليل الثالث كان ينتظر بالقرب من نقطة العبور، بعد مسافة ودعناهم و توزع كل واحد منا إلى الموقع المخصص له، الرفيقان (أبو هزارالسوري) والشهيد أبو عامل (فارتان شكري) على الجناحين الأيمن والأيسر من الرتل على مسافة معينة وأنا مع خالد في منطقة الوسط لاستقبال العائدين في حالة عودتهم أو عند تعرضهم لأي إعاقة أو اطلاق النار، سار الرتل باتجاه الحدود وتحولت الأجساد شيئاً فشيئاً إلى ما تشبه الأشباح إلى أن اختفت عن النظر، بقي خالد ممثل (د.د.ق.د) معي نترقب الوقت وأية حركة تحدث، دقائق كانت تمر جداً ثقيلة، كان السكون يلف المنطقة لا أصوات سوى أزيز الحشرات الليلية وأصوات الشاحنات على الطريق الدولي تنناهى إلى اسماعنا من دون أن نرى شيئاً، نحن الأثنين نحبس أنفاسنا، أفكارنا وإحساسنا كلها مركزة ومتجهة نحو الحدود ونحو عقارب الساعة، مسافة قصيرة تفصلنا عنها، على الرتل عبور خطين مهمين، خط الأسلاك الشائكة ومن ثم شارع الآليات العسكرية وهو قريب من الأسلاك ومن ثم السير باتجاه الشارع الدولي الذي يبعد مسافة بحدود ساعة واحدة، وعند اجتياز الشارع الدولي يطلق مسؤول الأدلاء طلقة اضاءة "خطاطة" باتجاه السماء تكون مرئية لنا وهي إشارة على اجتياز الأماكن الخطرة بسلام .

بعد مضي أكثر من ساعة لم نسمع أي شيء، غامرنا بعض الإطمئنان لأنها الوقت الكافي لعبور الخطين الأسلاك والشارع، مد خالد يده وشدَّ على يدي تعبيراً عن الغبطةِ التي دبت فيه للعبور بسلام ونحن الأثنين مقرفصين على الأرض وعيوننا تربي نحو الحدود، لكن فرحنا لم يدم طويلاً، لم تمرإلا دقائق قليلة حتى بدأ الرمي (هنا أنقل فقط الطرف المتعلق بنا من الطرف السوري، أما ما دار في بقعة المصادمة، اتركه إلى الرفاق الأحياء الذين كانوا ضمن المجموعة وبشكلٍ خاص العزيز "نجم خطاوي" الذي كان ضمن المجموعة وجرح في المصادمة، أرجو منه أن يستكمل الحدث)، اتجهنا أنا وخالد التركي نحو الحدود لملاقاة العائدين من الرفاق أو الجرحى، بقاؤنا فترة طويلة في الظلام ساعدنا على رؤية المجسمات والهياكل البشرية على مسافة قريبة بشكلٍ اوضح، إلتقينا بخمسة من الرفاق بدون دليل، المناوشات كانت ما تزال مستمرة بين الكمائن التركية والأدلاء، لا مجال في حينه للكلام المطول، سؤال فقط سألناهم أين بقية الرفاق، لا يعرفون أي شيء عنهم ، بعد قرابة عشر دقائق أو أكثر خفت حدة اطلاق النار، استقبلنا رفيقين آخرين مع واحد من الادلاء لا أتذكرهما، استفسرتُ من الدليل أين بقية الرفاق والدليلين، قال: أخذ كل واحد مجموعة ولا أدري إلى أين، لم يكن لديه معلومات أكثر من ذلك، في هكذا مواقف لا يسأل المرء في لحظتها كيف حدث وانما ما هي النتيجة، أرسلتهما مع (خالد التركي) إلى حيث الرفاق عند السيارة في الوادي واخذتُ معي الدليل بحثاُ عن الرفاق، من نافل القول أن الإنسان لا يرتبك في هذه الحالات وخاصة وهو يخرج تواً من معركةٍ ، كان احتمال وقوعها ضعيف أو كانت أشبه بمفاجأة وهي الأولى له ربما في حياته، لكن بالرغم من هول الحادثة كان الرفاق متمالكين لأعصابهم بشكلٍ رائع، وكان جل مشاعرهم وأسئلتهم حول مصير بقية الرفاق، عثرنا على الدليل الثاني والثالث معهما مجموعة من الرفاق في قرية مجاورة لقرية باب الهوى في بيت أحد الرفاق السوريين، بعثتهم جميعاً إلى القامشلي مع أحمد بدران الذي كان ينتظر في قرية بربيتة مع سائقه ، وحال سماعه صوت الإطلاقات اتجه إلى الوادي حيث سيارتنا ، وأرسلتُ معهم الشهيد فارتان لتولي أمر الرفاق هناك والاتصال بالأطباء لمعالجة الرفيق الجريح (نجم خطاوي) ومن بحاجة إلى الرعاية الخاصة، وأبقيتُ معي الأدلاء وخالد السوري ، طلبتُ منهم الانتشار في المنطقة للبحث عن الرفاق المجهولين وعددهم سبعة والمناداة بأسماء بعضهم أو كلمة السر في هذا الظلام كي يعرفوا نحن رفاقهم ولسنا من الأتراك، استمر البحث إلى قبيل الفجر، بعد أن انقشع الظلام وساد الهدوء المنطقة، اتجهتُ مع خالد إلى قرية كردمية ، هناك عثرنا على أربعة رفاق من ضمنهم الرفيق علي زنكَنة وكان يحمل أر.بي.جي 7 وكاد أن يطلق عليَّ قذيفة ظناً منه أنا من الأتراك لولا صاحبة البيت التي نادت عليه لا تطلق النار هذا أبو حسن (نقلاً عنه)، بقي لدينا ثلاثة رفاق مفقودين، كنا نحاول معرفة أي شيء عنهم من الأدلاء إلا انهم كانوا ينكرون معرفتهم بمصيرهم، نسمع منهم فقط جملة (أز نآزانم ـ أنا لا أعرف)، وكنتُ أشك في أنهم لا يعرفون مصيرهم، مجرد شكوك، لأن من عادة هؤلاء لا يخبرون عن الفواجع أثناء توتر الأعصاب وانما يريدون مضي وقت كي يهبط الدم من فورته وتهدأ النفوس عندئذ تنفك عقدة ألسنتهم ، حاولنا أنا وخالد أن نفهم منهم أي شيء، باللف والدوران لكن من دون جدوى، تركتهم هناك وأخذتُ معي خالد وبدأنا نتجول في القرى بسيارتنا ونسأل الذين نعرفهم وكلهم يعرفوننا وقسم منهم اصدقاؤنا أو من رفاق الحزب الشيوعي السوري، ويأتينا من الفلاحين الآخرين عشرات الإجابات والأخبار لكن ولا واحدة منها تنطبق على رفاقنا ولا واحدة منها صحيحة، وأخذنا نبحث في الوديان تحسباً لاحتمال أن يكون الرفاق قد اختبأوا هناك ظناً منهم بأنهم في الأراضي التركية، استمر بحثنا عنهم في القرى والبرية إلى ما بعد الظهر والرفاق الثلاثة هم : (1ـ الدكتور سلمان داود جبو، دكتوراه في القانون / هنغاريا، 2ـ بهاء الأسدي،الأدارة والأقتصاد / براغ، 3ـ نمير عبد الجبار، الهندسة/ براغ)، بعد ذلك رجعنا إلى الأدلاء في قرية باب الهوى، وطلبتُ منهم العبور هذه الليلة من مكان آخر وسأكون بانتظارهم في قرية بربيتة بعد غد مساءً للإتيان بالخبر اليقين عن مصير الرفاق المفقودين، أخذتهم مساءً إلى قرية سيد محمد كي يعبروا إلى تركيا، في اليوم الموعود عبر إلى طرفنا ابن عم الشهيد نورالدين معروف (آزاد) وروى لنا ما يلي : لدينا ثلاثة رفاق شهداء، صباح اليوم الثاني من الحادثة جاء المسؤول العسكري بطائرة هيلكوبتر وكذلك محافظ ميديات إلى المنطقة و كذلك سيارة اسعاف وبعد ظهر نفس اليوم سلمت جثث الشهداء إلى مختار قرية (بازفت ـ كاتران) وتم غسلهم في جامع القرية ودفنوا في مقبرة القرية في قسم (الغرباء) وضعت الجندرمة أرقاماً على قبورهم، هكذا انتهت تلك الفاجعة .

انطوت الآن تلك الفترة الزمنية بآلامها وفواجعها وخسائرها ومجدها، وجاءت فترة أخرى بجهالتها وفسادها وبؤسها ودجلها وشعوذتها، وبقيت قرية بازفت معبراً سالكاً ومزاراً تقيم في مقبرتها أضرحة أحبتنا، الأبطال الذين بلادنا الآن هي أحوج لهؤلاء أكثر من غيرهم من الفقاعات التي تطوف في زمن الرداءة . لهؤلاء الشهداء المجد والخلود في ذاكرة تأريخ عراقنا الحبيب.

وفي الختام أهيبُ بالرفاق الذين يعرفون هؤلاء الشهداء بالكتابة عنهم لتخليدهم .







 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter