|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  14 / 2 / 2009                                 عادل أمين                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مشاهد مع الشهيد الدكتور محمد بشيشي ( ابو ظفر)

عادل امين

وجهتُ هذه الرسالة الى العزيزة بلقيس الربيعي زوجة الشهيد ابو ظفر في حينها ، نقلت فيها بعض اللقطات البسيطة ، من الفترة التي عشتها مع الشهيد ابو ظفر في مدينة القامشلي السورية ، وهي ذكرياتُ جميلة وزاهية رغم بساطتها .

الأخت العزيزة ام ظفر / تحية طيبة
معرفتي بالشهيد ابو ظفر ليست بطويلة ، انها فترة قصيرة نسبياً ، زاملته في فترتين ، الأولى لبضعة أشهر والثانية لبضعة أسابيع ، كان في الحالتين متوجهاً الى كوردستان ، الأولى لأول مرة يتوجه اليها ، والثانية بعد امضائه عدة أشهر عندكم وعودته ثانيةً للتوجه الى كوردستان ، خلال هاتين الفترتين بالرغم من قصرهما ، الا انهما ولدتا عندي انطباعات رائعة عنه ،وحملتا في طياتهما مشاهد جميلة و ظريفة لهذا الانسان ، اسميه الرائع لا مجاملة لكِ ولا لأنه أستشهد ببطولة ، لكن هي الحقيقة ، انسان واضح وصافي لا تشوبه شائبة ، بعيد عن اللف والدوران وصادق القول ، لذا لم الق أية صعوبة في التعامل معه ومعرفة دواخله ونمط تفكيره ، بالرغم من ان علاقتي معه لم تتعد حدود العلاقات بين اثنين يجمعهما هدف مشترك في اطار دائرة واحدة من المهام ، ولم تتجاوز الى الحديث عن الأمور الشخصية والبوح بالمكامن الداخلية والمعاناة الوجدانية التي تجول في داخل الانسان ، علاقتي معه كانت لطيفة يسودها احترام وحرص متبادل ، أجزم من ان حتى الآخرين لم يجدوا الصعوبة في معرفة جوهر ومعدن هذا الانسان ، لذلك كانوا يكنون له كل الحب والاحترام ، صفاته كانت تبرز بشكل جلي لمن هو حوله ،من خلال طيبته وحميم علاقاته ، من خلال الخدمات والعون التي يقدمها لهم ، تواضعه وصدقه معهم ، بالنسبة ليّ كان قريباً الى قلبي لصفات آخرى يمتاز بها ايضاً ، وهي قلة الكلام والأختصار فيه وكثرة الأفعال والتوسع فيها ، هذه الصفة كنا آنذاك ، في تلك المرحلة من نضال حزبنا بحاجة مآسة اليها ، كان يوجز في الكلام ويركز على جوهر المواضيع التي تطرح عليه ، دون الاسراف والتشعب والدخول في المتاهات ، كان يعمل بجهادية عالية وبنكران الذات ودون كلل في انجاز كل المهام التي يقوم بها ، علماً انه كان ضيفاً في القامشلي وينتظر السفر الى كوردستان للالتحاق بالانصار ، عندما كنت أقول له أرتاح يا دكتور ، كان رده الزمن يحث الخطى علينا اللحاق به .

خلال فترة قصيرة من تواجده ، ذاع صيته لدى الكثير من العوائل السورية في المدينة ،خاصة عوائل رفاق وأصدقاء الحزب الشيوعي السوري، بحكم تفقده المستمر لأوضاع رفاقنا الصحية الذين في ضيافة تلك العوائل كان يعالج بطريقه مرضى تلك العوائل واقربائهم (وبالمناسبة سكان المدينة كلهم اقرباء بعضهم لبعض ، فتصوري سعة مهام ابو ظفر من هذه الناحية وما ستترتب عليها فيما بعد ) خلال فترة قصيرة استطاع الاستحواذ على اعجاب الكثير من السوريين وكان محط احترامهم ، حتى أخذ بعضهم يسميه ( جيفارا العراق ) تيمناً بذلك الطبيب الارجنتيني الثائر الذي قاتل في صفوف الثورة الكوبية .

لقد مر وقت طويل على تلك الفترة ، في خضم احداث كبيرة واندفاعات مصيرية ، تمحى وتسوف الكثير منها من الذاكرة ، ربما الآن تسعفني ذاكرتي بمجموعة من المشاهد ، أجدها طريفة ومعبرة بالرغم من بساطتها و تلقي الضوء على جانب بسيط من حياة الشهيد ابو ظفر في تلك الفترة وفي مدينة صغيرة و نائية في سورية هي مدينة القامشلي ، انها ليست مشاهد من معارك الأنصار البطولية ودور ابو ظفر فيها ، انما حياته في هذه المدينة التي أصبحت جزءاً من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ، استطاع خلال فترة أنتظاره فيها من تقديم خدمات جليلة سواء لرفاقنا أو للعوائل السورية الفقيرة و المعدمة .

المشهد الأول
في السنوات الأولى لتواجد رفاقنا في القامشلي والذين ينتظرون العبور الى كوردستان للالتحاق بقوات الأنصار يتوزعون على عوائل رفاق واصدقاء الحزب الشيوعي السوري وبشكل أقل على بيوت منتسبي الأحزاب الكوردية السورية الصديقة لنا ، كانت فترات بقاءهم قصيرة لأن الطرق كانت سالكة ، ثم بدأت فترات البقاء تطول وعدد الرفاق في الأزدياد ، في تلك الفترة وصل ابو ظفر الى هناك ، وأخذ على عاتقه طوعياً مهمة تفقد أحوال الرفاق الصحية ، كما أسلفتُ أخذ بطريقه معالجة مرضى العوائل السورية التي تستضيف رفاقنا رداً بسيطاً لعرفانهم بالجميل لاسيما اغلبهم من العوائل الكادحة على الأطلاق ، وذاع صيت أبو ظفر وامكانياته وأزداد مراجعيه من السوريين ،وهو يمارس المهمة بأعتزاز وجهادية عالية ، لكن دون ان ننتبه الى جانب آخر من العملية ، طبعاً كل هذا يجري بعلم الرفيق جلال الدباغ (ابو محمود ) مسؤولنا في القامشلي آنذاك وبموافقته .

في أحد الأيام أرسل المرحوم عثمان ابراهيم (ابو شهاب ) سكرتير منظمة الجزيرة (الحسكة والقامشلي) للحزب الشيوعي السوري (بالمناسبة تعد هذه المنظمة من اكبر منظمات الحزب ) الرفيق السوري ( ابو وحيد ) يطلبني على جناح السرعة الى بيته وفوراً ، سألت ابو وحيد مازحاً ، لازم الرفيق ابو شهاب اكتشف لنا طريق جديد نحو كوردستان بحيث يطلبني بهذه السرعة ، عندما وصلت الى هناك ودخلت غرفة مكتبه ، رأيتُ مجموعة من الأطباء جالسين في مكتبه ، أعرفهم جميعاً وليّ علاقات صداقة معهم ولهم عيادات ومستشفيات خاصة وهم الذين يساعدوننا في جمع الأدوية ومعالجات رفاقنا من أبسط الحالات المرضية الى أعقد العمليات الجراحية في المستشفيات الخاصة والعامة ، وعندما كنا نحتاجهم في حالات الطوارئ ليلاً كانوا دائمي الحضور ، سواء في عياداتهم أو في المستشفيات العامة ، وأغلبهم من خريجي الدول الأشتراكية ومن أعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي السوري ، دخلت المكتب سلمت وقلت مازحاً (خير إنشاء الله لازم رفاقنا الأطباء راح يتطوعون في صفوف انصارنا في كوردستان ) أجابني ابو شهاب بظرافته وهو لطيف في مزحاته ، وسألني اين طبيبك ؟ تعال اجلس امام المحكمة يا قاطعي ارزاق الناس !! أخبرني بلطف وادب بأن لدى الرفاق الاطباء شكوى بان لديكم طبيب أسمه ابو ظفر، يعالج المرضى السوريين مجاناً ، وهذا يؤثر على وضع الاطباء وعياداتهم وأرزاقهم ...الخ ، خجلت من نفسي على ذلك،وشرحت لهم الموضوع بالتفصيل، اعتذرت منهم واعدتهم بأيقاف ذلك ، غادرت بيت ابو شهاب وبصحبتي الرفيق ابو وحيد وهو مكلف من الحزب الشقيق للعمل معنا ، طلبت منه التفتيش عن ابو ظفر ، في ظرف ساعة التقيت بالرفيق ابو ظفر في احدى البيوت وهو يعالج والدة ابو رشاد وهي أمرأة كبيرة السن ، كعادته بآن الاندهاش على وجهه ، وسألني خير أبو حسن ؟ أخبرته بكل ما جرى ، طلبتُ منه الكف عن هذه المهمة لأننا نرتكب خطأ لا ندرك نتائجه وسنسيء العلاقة مع الاطباء السوريين الذين نحن بحاجتهم دائماً ، استجاب للطلب بتفهم وعلق والله من حقهم ان ينصبوا ليّ كميناً ويغتالوني لان هذه مسألة ارزاق ، القصد برد جميل الرفاق والعوائل السورية على ما قدموه لنا ايام المحن لا يبرر قطع ارزاق الاخرين ، لملم ابو ظفر حاجياته الطبية ورجع الى البيت الذي يسكنه ،وكان في داخله نوع من الألم والانزعاج ، من جهة تأثيره على ارزاق زملائه الاطباء السوريين ، ومن جهة اخرى حرمانه من تقديم الخدمات الطبية للعوائل السورية الفقيرة التي بكل طيبة وسخاء احتضنت رفاقنا وقاسمتهم لقمة العيش بالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة ، بعد عودة الرفيق جلال الدباغ الى القامشلي سردت له الحكاية بالكامل ، اقترح ان نذهب لزيارة هؤلاء الاطباء للاعتذار منهم ، ذهبنا اولاً لزيارة عثمان ابراهيم وطرحنا عليه فكرة الاعتذار ، قال عثمان ابراهيم لا حاجة للاعتذار ، رفيقكم الطبيب قدم عملاً لفقراء مدينتي سيبقى سنيناً في ذاكرتهم .

المشهد الثاني
في احد الايام بعد عودته من اليمن وتهيئه للعودة الى كوردستان ذهبنا سوية الى مدينة المالكية (ديريك ، الاسم القديم للمدينة ) ، وهي تقع بالقرب من الحدود السورية ـ التركية ، وجل سكانها من الاكراد والمسيحيين ، وهي تبعد عن مدينة القامشلي حوالي 100كم ، ضمن زيارتنا في ذلك اليوم ، زرنا الدكتور اسماعيل في عيادته ، وهو طبيب سوري تربطني به علاقة صداقة ، رحب بنا وعرفته على الدكتور ابو ظفر ، رحب به بحرارة وكأنه يعرفه منذ زمن ، أستفسرتُ منه إذا كان يعرفه من قبل ،أجاب بأنه سمع بأسمه ، يظهر ان الطبيب المضيف سمع عن ابو ظفر قبل سنين ، أي أثناء تواجده في القامشلي في سفرته الأولى الى كوردستان ، أخذنا انا والطبيب بالحديث عن مواضيع عامة ... الوضع السياسي ...الخ ، استغل الطبيب المضيف انشغال ابوظفر ببعض الاجهزة الطبية في العيادة همس في اذني مازحاً ، ابو ظفر جاي يسكن في المالكية ؟ أجبته بالنفي ، تنفس الصعداء ممزوج بصوتِ عال وقال يعني ما راح نسكر (نغلق ) العيادة ، يظهر وصل ما قاله الطبيب الى سمع ابوظفر ،وهو كان يريد ذلك ، فالتفت ابوظفر وقال شنو القصة قابل آني بعبع جاي اخوفكم !! ، أجابه الطبيب لا خيو انت مانك بعبع ، بس لو رشحت حالك لمجلس بلدية القامشلي حتحصل على كل الأصوات وينصبوك رئيساً للمجلس ، يا خيو انت محبوب هون وكل الناس بيحبوك يعني شهرتك اكتر مننا ، وأضاف مازحاً ما دام الدكتور ابو ظفر ما راح يسكن هون راح اعزمكن على غدويه في المقصف (وهو مطعم مشهور في ديريك ) وفعلاً تغدينا سويةً ذلك اليوم ، أعتقد ذلك كان الغداء الاخير ، بعد ايام استشهد الرفيق ابو ظفر ، عندما أخبرتُ الدكتور بنبأ أستشهاده ، كان كالصدمةِ له ، تألم كثيراً ، قال والله كأني فقدتُ صديقاً اعرفه منذ سنين طويلة .

المشهد الثالث
بعد أن ازدادت مهام ابو ظفر في التنقل بين البيوت ، ولتسهيل عمله أشترينا له دراجة هوائية لأستعمالها في تنقلاته ، في أحد الأيام الماطرة ، خرجت لعمل ما الى حارة بنغلاديش ، رأيت في الجانب الآخر من الحارة شخصاً يحمل دراجة هوائية على كتفه ويمشي بين الوحل ، جلب ذلك أنتباهي ، عندما أمعنت النظر في هيكل ومنظر الشخص تراءى لي وكأنه على هيئة ابوظفر ، بعد التمعن في ملامح الرجل والمسافة لا بأس بها من حيث البعد ،عرفته أنه ابوظفر بذاته ، بالمناسبة عندما تمطر السماء في حارة بنغلاديش وكأن الطبيعة تجمع كل وحل العالم وترميها على الحارة دفعة واحدة ، ناديتُ عليه ولحقتُ به ، سألته وكلانا نضحك ومنظري لم يكن أفضل من منظره ما هذا يا دكتور ؟ كما ترى ابن أخو سعيد دوكو مريض رحت لأعالجه وعليّ أن احمل الدراجة على كتفي بدلاً من ان أركبها بسبب الوحل ، وأضاف أقترح عليكم ان تشتروا ليّ حماراً وهو الوحيد الذي يستطيع من عبور وحل حارة بنغلاديش، ضحكنا وتخيلنا منظر ابو ظفر وهو يمتطي حماراً ومعه أجهزته الطبية متنقلاً بين أحياء القامشلي لمعالجة المرضى . حارة بنغلاديش من أحياء القامشلي الفقيرة ، للحزب الشيوعي السوري فيها نفوذ جيد ، الأسم الرسمي للحارة (الثورة ) لكن لماذا سميت ببنغلاديش ؟ أنها كانت اراضي زراعية غير مفروزة للسكن ، في احد أعوام الجفاف وتدهور الموسم الزراعي ترك سكان بعض أرياف القامشلي قراهم وجاءوا الى المدينة ، وبنوا بيوتاً عشوائية في هذه الأراضي الأميرية الفارغة و التابعة للحكومة ، بعد عام من ذلك صدر قرار حكومي بهدم تلك البيوت ، بعد أخذ ورد والالتماسات والشكاوى والتدخلات دامت سنوات طويلة والمنطقة تستمر بالتوسع ، ملّكت الحكومة تلك البيوت لأصحابها ، صادف يوم صدور قرار التمليك يوم أستقلال بنغلاديش عن باكستان لذلك سميت الحارة شعبياً بنغلاديش .

المشهد الرابع
الاطباء في القامشلي يتعاطفون مع الحزب الشيوعي العراقي ،( لست بصدد اسبابها ) ، ويمدون لنا يد المساعدة ، من تلك المساعدات ، اضافة الى المعالجات المجانية هي جمع الأدوية لأرسالها الى الأنصار ، قبل مجيء ابو ظفر ، كنا نستلم الادوية و نرزمها ونرسلها مع رفاقنا الى هناك ، دون أن نميز بينها من حيث الأهمية ، بعد مجيء ابو ظفر أخذ على عاتقه اضافة الى المهام الآخرى مهمة فرز تلك الأدوية من حيث أهميتها ، كان يجلس في الغرفة التي أسكن فيها ، يفرش الأرض بالأدوية وحواليه اكوام كبيرة منها ، يرزم التي تفيد ارسالها الى كوردستان والباقي تتلف ، كان يجد اللذة في التعامل مع تلك الأدوية كلذة الأطفال هذه الايام مع (ليكَو) يقرأ الاسماء بعضها بصوت عال أحياناً ، هذه للالتهابات ،هذه لآلام الظهر ...الخ

العائلة التي أسكن معها لديها مجموعة من الأطفال ، بينهم بنت عمرها سبع سنوات ، أسمها أمينة ، في احد الأيام تمرضت أمينة ، أرتفعت درجة حرارتها الى مستواً غير طبيعي مع الأنتفاخ في البطن وتوقفت عن النطق وأمور اخرى ، وصلتُ الى قناعة بأنها على وشك الموت لا محال ، أرسلت الأبن الأكبر في طلب ابو ظفر ، ولزيادة التأكيد على أن الحالة خطرة كتبتُ له ورقة على العجل رجوتُ منه الحضور فوراً ، في ظرف نصف ساعة كان ابو ظفر حاضرٌ بيننا ، وكالعادة عندما يتم أستدعائه في امورٍ عاجلة تظهر على وجهه علامات الأندهاش ، كأنها سؤال صامت عن ما يجري ، خير ابو حسن ؟ قلتُ ، الطفلة أمينة على وشك الموت ، بعد فحص الطفلة والأسئلة والأجوبة مع الأهل ومحاولات أستنطاق الطفلة ، عرف ابو ظفر، بأن الطفلة بلعت كمية من حبوب غير معروفة وضمن الأدوية غير المعدة للأرسال الى كوردستان، المهم أخذنا الطفلة الى المستشفى وتم اجراء اللازم وانقذت الطفلة .

رحل عنا الشهيد الدكتور محمد بشيشي ( ابو ظفر ) لكنه خالد في ضمائرنا ، وفي ضمائر عوائل القامشلي الفقيرة ، وبصماته ستبقى على كل بابٍ طرقها و كل جسدٍ عالجه .


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter