| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
السبت 6 / 7 / 2024 علي المسعود كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
فيلم "أبناء الدانمارك"
دراما مروعة حول صعود العنصرية اليمينية المتطرفة في أوروبا
علي المسعود (*)
(موقع الناس)
خلال السنوات القليلة الماضية شهد خطاب الكراهية والعنصرية الموجه للعرب والمهاجرين في أوروبا تناميًا غير مسبوق وتعزز ذلك بصعود تيار اليمين المتطرف في العديد من عواصم القارة الأوروبية . فيلم “أبناء الدنمارك” سيناريو وإخراج المخرج الدنماركي من أصول عراقية (علاوي سليم) يتناول هذا الموضوع ونتائجه في تصاعد نبرات التطرف على يد من يطلق عليهم بالنازيين الجدد .
أحداث الفيلم تتركز في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن في عام 2025 . أفتتاحية الفيلم تبدأ من لقاء شاب مع حبيبته في مكان عام في مدينة كوبنهاغن، يتبادل معها حديثا قصيرا ، يحتضنها ويقبلها ، تتركه وتتجه إلى الجهة الأخرى من الطريق ، فجأة يحدث انفجار مروع في محطة المترو يقضي على الفتاة وتسقط 23 ضحية ، ويبدأ الفيلم بالشاب العراقي زكريا أيوب (محمد إسماعيل محمد) الذي ينتمي إلى أسرة من المهاجرين لكنه بلا أب بعد مقتل والده خلال الحرب في العراق وفر هو مع والدته وشقيقه الصغير ووصلوا الى الدانمارك وهم يقيمون معا، تعمل الأم مريم (شيرين حبيب شكر) وهي التي تنفق على الأسرة، في بلاد الغربة هذه الانسانة والأم البطلة والدة زكريا أصبحت هي الأب والأم معا ، وتحرص بشدة على اندماج عائلتها في المجتمع الدنماركي . لكن المراهق زكريا مضطرب وغاضب ويبحث عن طريقة للتعبير عن استيائه من معاملة الغرب المهينة للدول العربية .
يرغب زكريا العاطل عن العمل والدراسة في القيام بشيء . زكريا لا يتبنّى ولا يعتنق فكرًا سياسيًا أو دينيًا، حتى أنه لا يصلّي. ولكن لديه غضب مكبوت في ذات مُراهقٍ يرى الغرب صامتًا ومتعاميًا عما يحدث للعرب والمسلمين، بينما هو الغرب (من وجهة نظره) سبب المآسي والحروب التي تتعرّض لها البلاد العربية والإسلامية ما يستدعي معاقبتتهم . بعد الأنفجار صار زكريا يخشى ردة الفعل العنيفة القادمة من النازيين الجدد التي تطلق على نفسها “أبناء الدنمارك ” التي تطالب بطرد الأجانب خاصة المسلمين من البلاد ، يلهمها في ذالك زعيم حزب سياسي يميني عنصري "مارتن نوردال " بخطاباته التحريضية الذي يطالب فيها باستعادة الدنمارك وإعادتها إلى أبنائها الأصليين. تتصاعد هجمات العنصريين على بيوت المسلمين والعرب بعد وقوع الانفجار الإرهابي ويضعون أمام بيوت العرب المسلمين رؤوسا بلاستيكية لخنازير مذبوحة من أجل ترويعهم .
يصبح زكريا قلقا على مصيره ومصير أسرته الصغيرة، ويكون طبيعيا أن يتجه للبحث عن الحماية ، ويجدهما في شخصية رجل أصولي متشدد صاحب المقهى الفلسطيني حسن (الممثل الفلسطيني عماد أبوالفول) الذي يجمع اللاجئين العرب من الشباب ويدبر لهم مكانا للإقامة ، ونراهم يكتظ بهم المكان الذين يعيشون فيه كالحيوانات، ، يشير حسن إليهم وهو يروي لزكريا مأساتهم ، فوراء كل واحد منهم قصة مأساوية . الفلسطيني حسن كاره للنظام وطريقته في التعامل مع اللاجئين ، لذا يواجهون التعصب اليميني بتطرف ويغلي المجتمع بصراعات دفينة . حسن صاحب المقهى أنشأ نوعا من الميليشيا المضادة لهجمات ” أبناء الدانمارك ” ، فهو يرى أنه ليس من الممكن البقاء في انتظار التعرض لهجمات العنصريين ثم الترحيل القسري . يختبر حسن رغبة زكريا في الانضمام إلى جماعته ، وعندما يتأكد من رغبته يكلفه باغتيال السياسي العنصري نوردال (الممثل الدنماركي راسموس بيرج)، ويسند إلى شاب مصري (من أم دنماركية) هو علي (الممثل المصري الأصل زكي يوسف) تدريبه على استخدام السلاح ومساعدته في تنفيذ مهمته .
يبدو علي غامضا بعض الشيء قليل الكلام، يرافقه علي وتنشأ صداقة بين الشاب زكريا وعلي . أصبح مارتن نوردال قريب من الفوز في الانتخابات العامة، وها هو يشدد من خطابه المعادي للأجانب الذين يطالب بتطهير البلاد منهم خلال حملاته الانتخابية . وفي حملاته الانتخابية يستغل نوردال خوف المواطنين من التصعيد الإرهابي، ويحذّر من أخطار تتعرّض لها الديمقراطية على أيدي مهاجرين “سرقوا منا بلدنا” . ويستقطب مؤيدين لحزبه اليميني الذي يرفع شعار “الدنمارك للدنماركيين”، مجادلا بأن بلاده “لا ينبغي أن تتحمل أعباء العالم”، ويعد أنصاره بأنه حين يصل إلى الحكم فلن يسمح لأحد بتهديد الحضارة “ليس هناك سوى حضارة واحدة هي حضارتنا”، وأن يسحب الجنسية من المسلمين ويعيدهم إلى بلادهم، إذا انتهت “حروبهم، وانتهى معها ترحيبنا بهم”. وبهذا الإقصاء والطرد لمهاجرين اكتسبوا الجنسية ، تستعيد البلاد “مسارها الصحيح”. يذهب الشاب زكريا لاغتيال الزعيم اليميني نوردال تحت إشراف علي، لكنه يفشل ويجد أن المسدس الذي في حوزته فارغا من الرصاص، وينجو نوردال بفضل وشاية علي بزكريا وتعتقل الشرطة زكريا المسكين ويكون مصيره السجن المشدد ويحرم من رؤية أمه وشقيقه . أما علي فسيتضح أن اسمه الحقيقي هو مالك، وأنه ضابط في الشرطة السرية يعمل تحت غطاء “شخصية علي” المتطرف للتسلل داخل صفوف العرب واللاجئين المسلمين، لكن شخصيته ليست على هذا النحو من البساطة فهو يعاني أيضا من تمزق الهوية . يشعر زعيم المعارضة نوردال بالامتنان لمالك أمين، ويشكره ويقول إنه مدين له بحياته. وينجح في الانتخابات، ويقترب من تشكيل الحكومة . يصبح علي/ مالك هدفا لانتقام حسن وجماعته، فيختفي عن الأنظار، ويزور أم زكريا فترفض لقاءه لأنه وشى بابنها وعرّضه للسجن ، “مالك ” الذي يمزقه قلقه وخوفه على أسرته وواجبه نحو عمله وإحساسه بالذنب بعد الوشاية بزكريا في السجون، وعلى الصعيد الآخر تتصاعد أسهم نوردال القيادي اليميني وهو نفس القيادي الذي أنقذه مالك من القتل على يد زكريا الذي يشعل موجة التحريض ضد الأقليات . يصرح في حوار تلفزيوني قبل الانتخابات البرلمانية ، إذا فاز في الأنتخابات فسوف يصدر تشريعات، يتعلّق بعضها بسحب الجنسية من المهاجرين ، وإطلاق حملة للشرطة والقضاء عليهم . من هذا المأزق يصبح الضابط السري مالك الشخصية المحورية في الفيلم، صحيح أنه هو الذي أنقذ حياة العنصري نوردال ونال منه الشكر على ما فعله بدعوى أنه ” مختلف عن الآخرين ” كما كرر القول له نوردال الزعيم اليميني مرتين، و لكن مالك يزداد قلقه على مصير أسرته الصغيرة ، لم يستطع الفرار من حالة القلق التى انتابته وخوفه ورعبه من انتقام الجماعة المتطرفة التى كان ينتمى لها ثم وشى بها . وتتصاعد أحداث الفيلم . في القسم الثالث الذي يركز على خطاب الفوز للزعيم العنصري(مارتن نوردال) الذى يندد فيه بالمهاجرين ويتوعدهم بطردهم من بلاده بعد أن يستلم رئاسة الوزراء ، ويشجع بذالك جماعات اليمين المتطرفة التى تطلق على نفسها “أبناء الدنمارك” لكى تنفذ العديد من الهجمات الإرهابية ضد هؤلاء المهاجرين .
خلية “أبناء الدنمارك” تتغذّى أساسًا من فكر المُتطرف مارك نوردهال (راسموس بيرغ)، العنصري المتشدّد ضد أي لون أو بشرة غير أوروبيين حتى النخاع . يتدرَّج في مناصب توصله إلى رئاسة حزب “الحركة القومية”، المُنادي بطرد المهاجرين وغير الأوروبيين من الدنمارك. خطابه يلقى تجاوبًا كبيرًا، فيعزف على الوتر أكثر ليُلهب المشاعر، ويكسب مزيدًا من المؤيدين للحزب. النتيجة زيادة الهجمات على المهاجرين . مالك المنقول للعمل إلى بلدة أخرى، يُكلَّف بالتنصّت على مكالمات خلية “أبناء الدنمارك”، فيكتشف سريعًا علاقة الزعيم اليميني مارك بهم وكيف يحركهم ويعملون حسب توجيهه. يطلب توقيفهم أو اتّخاذ إجراءات ضدهم ، لكن مديره يرفض الطلب ويُغلق ملف الخلية والتنصّت عليها . يفوز مارك في الانتخابات ، وبعد أن كان (مالك) يعتقد فى البداية أن التهديدات التى كان يتلقاها هو وأسرته تأتى من الجماعة الأسلامية المتطرفة الذين خانهم ، يتضح فى نهاية الفيلم أنها من جماعة النائب العنصرى الذى سبق وأنقذه . بعد فوز النائب اليميني بالأنتخابات ، يكشف المتطرفون الأجانب( أبناء الدانمارك) هوية مالك كعميل استخباراتي، فيهاجمون منزله ويشوهون وجه زوجته بمادة حارقة ويقتلون ابنه، يقرر بعدها مالك الانتقام ويستكمل تنفيذ ما شرع فيه زكريا . وفي المشهد الختامي، يقف مالك وراء الباب المؤدي إلى قاعة الاحتفالات التي يلقي فيها العنصري نوردال ، يقوم بالعدّ حتى الرقم 5 ثم يندفع نحو المنصة، حتى يصل إلى نوردال ويُسقطه قتيلا في الحال لكى يخلص البلاد من تطرفه وعنصريته وإنتقامًا لابنه وزوجته .
يصف المخرج علاوي فيلمه "هذا فيلم عن الأصوات المتطرّفة من كلا الطرفين . الطرف العربي متمثّل بالإسلام الراديكالي، والطرف الدنماركي باليمين المتطرّف . لم يكن فيلمًا سياسيًا تقليديًا عن اليمين واليسار، بل عن المجتمع، وكيف أصبح التطرّف شيئًا طبيعيًا"، يرصد المخرج الدنماركي من أصول عراقية ” علاوي سليم ” في فيلمه الروائي الأول (أبناء الدنمارك) الصراع المباشر بين المتطرفين والقوى الأمنية والسياسية والمهاجرين، ليصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة التي تصل إليها كل الأطراف، منتهيا إلى حقيقة أن (العنف يولد العنف) ، إنها نبوءة صادمة عمّا سيحدث بالدنمارك في العام 2025 . أجرى المخرج العديد من اللقاءات والبحوث قبل كتابة الفيلم وشاهد أفلامًا وثائقية عديدة، وقرأ عن أناسٍ ينبذون المجتمع الذين يهاجرون إليه، فاكتشفتُ مثلاً أنه لا يوجد زكريا واحد ولا مارتن واحد . يشير العنوان إلى مجموعة من النازيين الجدد الذين يؤمنون بالإعادة القسرية للمهاجرين إلى أوطانهم حتى الحاصلين على الجنسية الدنماركية . نوردال وهو الوجه السياسي للقومية العنصرية القبيحة ، وهو زعيم حزب سياسي متطرف يهدف إلى الفوز بأصوات من أولئك الذين يشعرون أن الهوية العرقية للدنمارك قد تآكلت من خلال السماح للمهاجرين بدخول البلاد ، تغذى معارضوا نوردال الإسلاميون المتشددون أيضا على خطابه لتطرف الشباب في الكفاح ضد أبناء الدنمارك. وهكذا يتم تلقين شاب مسلم محبط وغاضب (زكريا) يبلغ من العمر 19 عاما ، ويصبح جزءا من محاولة اغتيال الزعيم المتطرف (نوردال) . عن الحاجة الأنسانية والحب .
المخرج علاء سليم قدم معالجة بارعة لصراع الهوية والعنصرية التي يواجهها اللاجئون في بعض دول أوروبا من المتطرفين الجدد الذين قرروا مواجهة العنف بعنف مضاد أكثر شراسة .كما نجح المخرج العراقي في توظيف الكاميرا للتعبير عن أهدافه من وراء العمل، ساعده في ذلك إبداع الممثلين، فبعبقرية ملفتة للنظر استطاع توظيف الإضاءة في تحقيق الهدف ذاته . كذالك عكس المخرج مناخ سياسي يشعر بأنه مألوف جدا للجمهور في جميع أنحاء أوروبا . ربما تذكرنا شخصية الزعيم اليميني في الفيلم (نوردال) بالسياسي الدانماركي راسموس بالودان (مواليد 2 كانون الثاني/يناير 1982) وهو سياسي دنماركي وكان متطرفاً وزعيماً لحزب (هارد لاين) اليميني المتطرف والذي أسَّسهُ عام 2017 ، الذي أعربَ في وقتٍ ما عن رغبته في حظر الإسلام في الدنمارك، وترحيل جميع المسلمين من البلاد من أجل الحفاظ على مجتمعهم العرقي ، وقام راسموس بالودان في تنظيم مظاهرة مناهضة للإسلام في حي نوربرو المتنوّع عرقيا في العاصمة تحت شعار (أوروبا لنا) . فيلم علاوي سليم يدق بقوة جرس الأنذار لخطورة صعود اليمين التطرف في الدنمارك في المستقبل القريب ليس في الدانمارك وحدها بل في أوروبا مع تصاعد التوترات العرقية .
في الختام : الفيلم يعكس صعود أيديولوجيات النازيين الجدد في أوروبا، وصرخة تحذير من خطر ينجرف إليه المجتمع الدنماركي ويتمثّل بشحن وتعصّب وعنصرية، ستؤدي لا محالة إلى تفشّي الإرهاب .
(*) كاتب عراقي \ مقيم في المملكة المتحدة