| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
السبت 20 / 7 / 2024 علي المسعود كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
الفيلم الأيطالي "شمس المستقبل"
إستذكار للإستبداد الستاليني وحنين لسينما الزمن الجميل
علي المسعود (*)
(موقع الناس)
“شمس المستقبل” أغنية مميزة في تاريخ الموسيقى الإيطالية كتبها المغني وكاتب الأغاني الشهير “لوسيو دالا” وتمثل ترنيمة حقيقية للأمل في المستقبل . تركز الأغنية بشكل كبير على الصراع الطبقي والشيوعية ، إعتمدها الكاتب وصانع الأفلام الإيطالي المخضرم " ناني موريتي " عنوانا لفيلمه ، يتمحور الفيلم حول مخرج سينمائي في إيطاليا المعاصرة يحاول صنع فيلم جديد ويفشل في كل منعطف من قبل ممول غير جدير بالثقة (ماثيو ألماريك) وزوجة باولا (مارغريتا باي) معه في كل خطوة على الطريق التي أنتجت أفلامه فقط، وقد امتدت شراكتهما المهنية والرومانسية على مدى 40 عاماً . الفيلم إخراج ناني موريتي (الذي شارك في كتابة السيناريو مع فرانشيسكا مارسيانو وفيديريكا بونتريمولي وفاليا سانتيلا) . يصور فترة تاريخية تدور أحداثها في روما في عام 1956 ، عام الثورة المجرية عندما تمرد الملايين من المواطنين على الهيمنة السوفيتية ، ويسرد قصة انتفاضة بودابست ضد الديكتاتورية الستالينية ، أبطاله أثنان من رفاق في الحزب الشيوعي الأيطالي من خلال مواقفهم يرصد ردود الافعال الحزب حين هاجمت الدبابات السوفيتية بوحشية الانتفاضة في بودابست وكانت وصدمة للشيوعيين الإيطاليين . الترحيب بوصول فرقة سيرك بودافاري المجرية إلى العاصمة الإيطالية تعبيرأ عن تضامن الحزب مع الأنتفاضة المجرية .
يبدأ “شمس المستقبل” بكتابة شعار للحزب الشيوعي على جدار أحد الجسور في روما وينتهي بلوحة كاملة لأيديولوجيته أو ما أطلق عليها ألأمل في المستقبل . في فترة مابين الخمسينيات والسبعينيات، وفي أجواء الواقع السياسي هناك آنذاك، حيث ينتمي بطل الفيلم والذي يعمل مخرجاً سينمائيّاً إلى الحزب الشيوعي الإيطالي، الذي كان يُعدّ حتى نهايات الثمانينيات أكبر حزبٍ شيوعي أوروبي، مكّنته حنكة زعامته التاريخية المتمثّلة بالراحل أنريكو بيرلنغوبر في تحقيق استقلالية كبيرة عن الاتحاد السوفيتي وعن الحزب الشيوعي السوفيتي . يبدأ الفيلم كما ينتهي بإشارة واضحة ، وتذكير باسلوب المخرج الايطالي ” فدريكو فليني” وتحديداً فيلمه “ثمانية ونصف” وعوالم السيرك فيه، والكرنفالية والرقص الجماعي . يستمد موريتي من الفيلم ذاته موضوعه، مخرج سينمائي يعاني من صعوبة إتمام تصوير فيلمه، لأسباب تختلف من سياق فيلم لآخر، لكن همّ موريتي هنا هو إتمام صناعة فيلم فيه من التاريخ ما يؤرخ مواقف الحزب الشيوعي الايطالي ، وفي نفس الوقت ، نقد الى المخرجين الشباب وسينما اليوم ، وهذا يمر في مشهدين من الفيلم، الأول حين يوقف موريتي أحد المخرجين الشباب خلال تصوير مشهد عنف (إعدام ميداني بالمسدس) قائلاً ” إن هذا العنف ليس ترفيه بل تدمير” ، ويوقف الممثل في مشهد كان الممثل على وشك إطلاق النار على شخصية أخرى ، مما يجعل الحجة حول كيف أن الأطفال هذه الأيام لا يفهمون العنف ولكن يقلدونه وهذه مسألة في غاية الخطورة . والمشهد الثاني حين يضطر لحضور اجتماع مع مكتب “نتفليكس” في روما، بعدما رفضه حازماً التعامل مع المنصة التي تحدد من حريته وإبداعه في العمل وكانوا يتفاخرون أمامه و بين جملة وأخرى يكررون بأنهم يصلون إلى ١٩٠ بلدا . الفيلم قطعة تاريخية عن تمرد الملايين من المواطنين على الهيمنة السوفيتية ومواقف الشيوعيين الإيطاليين في روما من أحداث الغزو السوفياتي لدولة المجر . ومن الجدير بالذكر ، في يوم 24 أكتوبر 1956 الاتحاد السوفيتي بدأت المناورات العسكرية ل غزو المجر وكانت بداية لخطوة حاسمة في تاريخ الشيوعية ، تلك الحماقة كانت لها تداعيات في إيطاليا . حدث الأنشقاق بين أعضاء الحزب الشيوعي الأيطالي بين معارض بشدة لديكتاتورية ستالين ، وبين متردد فيما يجب عليه فعله . ذكر موريتي إن شخصية المخرج جيوفاني تؤمن إيمانا راسخا في ضرورة سرد قصة الحزب الشيوعي الإيطالي في ذلك الوقت وكيف أضاع فرصة الانفصال عن الاتحاد السوفيتي " لكن اليوم لا أحد يتذكر هذه الأحداث ، لقد تغير العالم وكذلك تغيرت طريقة صناعة الأفلام ". يتحدث موريتي عن اليسار ولكنه بشكل عام ، كأنه يتحدث أيضا عن لسان جميع التقدمين في العالم ومواقفهم أزاء الاحداث . هذا فيلم من مخرج مخضرم سئم وتعب من السينما الحديثة والابتذال الرأسمالي الذي يحيط بها . جيوفاني هو فنان مصمم على التمسك بنموذج للسينما الهادفة والحياة والسياسة التي تتبع مبادئه الفنية والأخلاقية . وفي الوقت نفسه، فإن زوجة جيوفاني وشريكته في الإبداع باولا مرهقة بسبب عناده وعدم رغبته في الاستماع إليها؛ تزور طبيباً نفسيا وتضع خططا لتركه عندما يبدو كل شيء ينهار ، دون أمل في الشفاء . ابنته إيما تحب سفير بولندي في عمر والدها ، ولا يمكن البدء في تنفيذ فيلمه بسبب التبخر المفاجئ للتمويل . بعد دعوته لتناول الغداء من قبل السفير البولندي الذي على وشك أن يصبح صهره ، يفاجئ جيوفاني عائلته وطاقمه ومنتجيه الكوريين الجنوبيين الجدد – انفتاحا على سينما "أخرى" . فيلم ناني موريتي الجاد " شمس المستقبل " عودة الى قوالب وممارسات الأفلام االخمسينات والسبعينيات والأيديولوجيات السياسية ، حقيقة أن بطل الرواية يلعبه ناني موريتي لا يترك مجالا للشك في أن المخرج البالغ من العمر 69 عاما أدخل العديد من عناصر السيرة الذاتية الخاصة به هنا. فيلم مصمم على الطراز القديم يبحث المخرج عن معنى الحب وأيضا في المواقف السياسة، حيث يتغير العالم والصناعة بسرعة كبيرة . والفيلم أيضا رسالة حب إلى سينما الأمس . الرسالة واضحة وضوح الشمس: دعونا نأمل جميعا أن تأتي أيام أفضل ، يغرس ناني موريتي فيلمه بموسيقى مرحة الأمل بمستقبل مشرق .
ويغازل موريتّي الشيوعية، واقفاً في وجه الستالينية، في نوع من الرد على سيطرة اليمين المتطرف في بلاده إيطاليا . في نهاية المطاف، يثير الفيلم مسألة الولاء لحزب ما ، حتى لو كان يتعارض مع مثلنا العليا ، فهل يجب أن نستسلم أم يجب أن نجعل الأشياء تحدث؟. من الموضوعات الرئيسية الأخرى لفيلم موريتي التفكير في أولوية القوة التجارية على الفن ، ما مقدار العنف الموجود في السينما المعاصرة؟ يشكك المخرج الأيطالي في هذا السؤال ، ليس فقط من وجهة نظر أخلاقية ، أيضا من وجهة نظر جمالية باستخدام اقوال وأفكار بعض المفكرين والفلاسفة والكتاب في عصرنا، نجح المخرج في كسر الجدار الرابع ، وبينما نشاهد فيلما داخل فيلم ، يأخذ السرد منعطفا غير متوقع - ولكنه ممتع - يضع أمام أعيننا أحد شرور عصرنا. هل لا يزال للفن هدف في مجتمع تهيمن عليه الأنانية والعنف؟ هذا هو السؤال الجوهري في فيلم ناني موريتي الذي سرعان ما ندرك أنه يطمح إلى الصدق الفكري في كل مشاهد الفيلم .
السينما تغيرت وأخلاقياتها تبدلت !
يحارب جيوفاني التغيير الذي تمر به السينما ، والتي أصبحت مجرد أداة ترفيهية ، ومنتج معبأ مسبقا لجمهور غير متفاعل ولم تعد وسيلة للقيم والمفاهيم المهمة. هو يؤمن بقدسية السينما، ويثبت ذلك عندما يحاول بكل طريقة تغيير نهاية الفيلم الذي تنتجه زوجته، والذي يريد فيه المخرج الشاب تصوير مشهد عنيف سبق مشاهدته ومراجعته. ثم هناك الحب ، الذي يمثله من ناحية علاقة جيوفاني بزوجته التي تريد تركه . إنه حب قريب من النهاية ولكنه لا يزال يعطي ومضات من المقاومة، كما في المشهد الذي يغني فيه الزوجين في السيارة. الحب هو أيضا حب الصبيان اللذين يراهما جيوفاني ويقترح عليهما ما يقوله ، إسقاط ما يود أن يكون الحب ، نقيا وخاليا من القيم الحديثة التي تسممه . يحاول تعليمنا حرفة العيش لذا يقرر ناني موريتي اتباع طريق الخيال باستخدام سحر القوة المضادة للواقع القادرة على إعادة كتابة التاريخ . " شمس المستقبل " هو أيضا فيلم استنكار ليس فقط سياسيا ضد تلك الفترة التي كان فيها اليسار الإيطالي لا يزال مرتبطا جدا بالاتحاد السوفيتي ولكن أيضا سينمائيا. في محادثة مرحة بين جيوفاني وباولا والإدارة العليا لمنصة ( نيتفليكس ) ، يظهر هذا الازدراء المرير للسينما التي تلجأ بشكل متزايد إلى منصات البث والتي تحتاج إلى إشراك المشاهد من أول دقيقتين من المشاهدة . لكن جيوفاني الذي يمثل شخصية ناني ينتقدان أيضا كل تلك الأفلام العنيفة التي لا تستند إلى حبكة وليس لها مضمون تماما مثل القصة البوليسية التي تنتجها زوجته باولا . لقد تغير جمهور موريتي الذي يعرفه المخرج نفسه بشكل جذري على مر العقود ، لم يعد مجرد "رؤوس بيضاء" ومثقفين متأصلين في السينما اليسارية ، ولكنهم الآن أيضا من الطلاب الشباب ، وعشاق السينما الناشئين والبالغين الذين نشأوا في هذه الأثناء مع روائع المؤلف والمخرج الايطالي ، وسيتحول بعد ذلك إلى أمل في نهاية هذا الفيلم الجميل .
في الخاتمة يقلب المخرج ناني موريني كل صورة نمطية وكليشيهات ويتراجع عن الماضي ويعيد كتابة التاريخ . يكسر قيوده الأيدلوجية ويشعر بحرره من أفكاره القديمة ويقوم في تمزيق صورة ستالين " لا أريده في فيلمي! ، ويكتب نهاية مختلفة ويلوح بالعلم الأحمر . يستخدم ناني موريتي الأدب ، وزن الكلمات لتحقيق العدالة لبؤس التاريخ . عندها فقط نفهم أن فيلم "شمس المستقبل" ليس فيلما عن الماضي، عن الكآبة وروما الخمسينيات، بل عن حاضرنا المفقود ، وقبل كل شيء، يتحدث عن المستقبل وبطرق مختلفة لتخيل الأيام القادمة. حتى الحرب في المجر التي ترويها شاشات التلفزيونات بالأبيض والأسود تعكس في الواقع الحرب التي تدور اليوم في قلب أوروبا.
تختلف نهاية فيلم “شمس المستقبل” من إخراج جيوفاني ، اختلافا كبيرا عن النسخة الأصلية من الرواية. بينما في الكتاب يختار بطل الرواية الانتحار ، في الفيلم هناك تطور حين يقترح المخرج في مواصلة النضال من أجل الخلاص. تمثل هذه النهاية رغبة سينما ناني موريتي في الاستمرار في الوجود لمشاهديها. بهذه الطريقة ، يقدم المخرج رسالة أمل ويدعو الجمهور للقتال من أجل أحلامهم بدلا من التخلي عن صعوبات الحياة . والنهاية بأغنيات إيطالية مبهجة وسعيدة ورقصات واحتفالية جميلة. المسيرات الكرنفالية، حيث تسير أفيال السيرك بجوار ملصق لتروتسكي الذي يستعرض تحته بالميرو توجلياتي (زعيم شيوعي إيطالي قاوم فاشية موسوليني ثم هرب إلى موسكو، ثم عاد عام 1944. تخليدا لذكراه أطلق الإتحاد السوفييتي اسمه على مدينة حديثة لصناعة السيارات)! ، جنبًا إلى جنب مع بقية أبطال الفيلم، ولافتة مكتوب عليها (وداعاً الأتحاد السوفيتي) ، مع العديد من الممثلين الذين لعبوا دور البطولة في أفلام موريتي السابقة. عرض مشحون بدافع انساني ، لكنه يفعل ذلك دون أن يطغى على الصوت، ودون أن يصبح متعاليًا ودون حنين مؤلم من أي نوع، والذي ينتهي به الأمر إلى تحويله إلى مصالحة مضيئة مع جمال الحاضر، (عندما نرقص كل شئ من حولنا يهتز، بينما الراقصات البلغاريات يرقصنً حافيات الاقدام فوق الجمر المشتعل) على أيقاع هذه الاغنية يكون ختام الفيلم .
في الختام : سينما موريتي وفي هذا الفيلم بالتحديد يفكر المشاهد باستمرار بصوت عال . بالإضافة إلى الجوانب الأيديولوجية والسياسية ، يتعمق المخرج في مخاطر هائلة في الأمورالشخصية والعائلية ، ويترك قصته تنمو مع تأملات في مسيرة حياة الزوجين والتعايش وفقدان الأعصاب من قبل الزوجة " مارغريتا باي" تلك الممثلة المنتظمة في أفلامه، يريد جيوفاني، المخرج الذي يصنع فيلمًا كل خمس سنوات في أن يقدم فيلمًا عن سنوات الشيوعية. تناول شمس المستقبل السياسة والحب والموت والموسيقى والشعر والحرب والألم وخيبة الأمل من السينما .
(*) كاتب عراقي \ مقيم في المملكة المتحدة