|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  13 / 10 / 2023                                 علي المسعود                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

ديكتاتور تشيلي أوغوستو بينوشيه مصاص الدماء
في كوميديا الرعب (الكوندي)

علي المسعود  (*)
(موقع الناس)

كرس المخرج التشيلي "بابلو لارين" الكثير من أفلامه بشكل مباشر أو غير مباشر لشخصية الجنرال "أوغستو بينوشيه" والآثار المتعددة لحكم الدكتاتورية (1973-1990). في الذكرى السنوية الخمسين للانقلاب الذي أنهى حياة سلفادور أليندي ، لذلك ليس من قبيل المصادفة أن يقوم المخرج التشيلي "بابلو لارين“ في سن 47 عاما (من مواليد عام 1976) في إعادة تدوير التاريخ ويصور مرة أخرى الواقع السياسي لبلده بعد نصف قرن من الانقلاب الذي أطاح بالرئيس سلفادور أليندي .

أطاح الديكتاتور أوغستو بينوشيه بسلفادور أليندي المنتخب ديمقراطيا في تشيلي في انقلاب في 11 سبتمبر 1973، توفي واختفى الألاف بسبب العنف السياسي في تشيلي، عمليات الإعدام والتعذيب والسجن حتى أجباره على التنحي في عام 1990 بعد استفتاء وطني. وتوفي في عام 2006. مع انتظار مئات التهم ضده بسبب الفظائع التي ارتكبها خلال فترة حكمه.

المخرج بابلو لارين يعلق على ذلك “توفي بينوشيه مليونيراً وحراً بعد إفلات تام من العقاب، وبسبب ذلك، أعتقد أن شخصيته لا تزال مثل وصمة عار مظلمة على مجتمعنا تذكرنا كل يوم بمدى كسرنا ومدى انقسامنا" . أدرك المشاهد منذ البداية، أن استعارة مصاصي الدماء هي نقطة انطلاق مثالية لتصوير وحش التهم شعبه لمدة 17 عاما، نهب ثرواتهم وأمر بالسجن والتعذيب وإعدام أكثر من 40000 تشيلي - "بينوشيه لم يواجه العدالة أبدا وأن الإفلات من العقاب جعله أبديا وحوّله إلى مصاص دماء".

في فيلم إل كوندي نكتشف أن بينوشيه يقوم بدوره الممثل (خايمي فاديل) في الواقع مصاص دماء قام بتزوير وفاته بعد أن سئم من وصفه شعب تشيلي بأنه لص وكذاب. إنه مكتئب حاليا، ويعيش بهدوء في منزل ريفي برفقة زوجته لوسيا (غلوريا مونشماير) وخادمه المخلص فيودور (ألفريدو كاسترو). يريد الكوندي أن يموت، لكن أطفاله لن يسمحوا له بالذهاب بهذه السهولة، لأن الجميع يريد جزءا من النهب الكبير الذي تراكم خلال حكومته. الوضع برمته معقد بالنسبة لعائلة بينوشيه عندما تظهر كارمن (باولا لوتشسينغر)، وهي راهبة كاثوليكية متنكرة بنوايا غامضة.

تبدأ قصة بينوشيه هذا في القرن الثامن عشر، في فترة الثورة الفرنسية، ويكون تحت أسم "كلود بينوش"، وهو صبي يتيم يعيش في دار لرعاية المسنين في باريس، ثم يصبح ضابطا في جيش للملك لويس السادس عشر، ولكنه يبرز عندما تندلع شرارة الثورة الفرنسية ويتدحرج رأس الملكة ماري أنطوانيت، يلعق الدم العالق على شفرة المقصلة. الشيء الملموس هو أن كلود ليس أكثر من مصاص دماء يعيش في نهاية القرن الثامن عشر على دماء البغايا، سرعان ما ترعبه البيئة الثورية، يقرر السفر حول العالم للقتال ضد الحرية والديمقراطية أينما كان ومع مرور الوقت سيحارب الثورات في هايتي أو روسيا أو الجزائر حتى يستقر في تشيلي باسم أوغستو بينوشيه النهائي. بالفعل في وجهته الجديدة سنراه يطير فوق مباني سانتياغو، هذا هو المكان الذي ينتهي فيه بينوش، الذي أعيدت تسميته بينوشيه، في تشيلي، حيث سيقود الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة سلفادور أليندي. يهاجم ويقتلع القلوب التي لا تزال تنبض وضعها في الخلاط (الدم المفضل والمثالي عنده هو دم الشباب).

أوضح لارين، المخرج اللاتيني اختياره فيما يتعلق بشخصية من أحلك الشخصيات في تاريخ تشيلي “اخترنا نوع ومفهوم مصاص الدماء باعتباره الطريقة الوحيدة لتجنب تعاطف الجمهور. بالإضافة الى ذلك، بينوشيه لم يواجه العدالة أبدا، وأن الإفلات من العقاب جعله أبديا، وحوله إلى مصاص دماء". وعندما يصل إلى الحاضر يظهرون مع بينوشيه المليونير وزوجته والأطفال الخمسة الذين يناقشون توزيع الملايين من النهب غير المشروع لثروات الشعب المقموع، إضافة الى الراهبة الشابة التي تقتحم المنزل الريفي حيث يعيش الديكتاتور لممارسة طرد الأرواح الشرير من جسد الديكتاتور. لذلك، في الفيلم، يتم تصوير أوغستو بينوشيه (جايمي فاديل) على أنه مصاص دماء يبلغ من العمر 250 عاما، سئم من اتهامات السرقة ضده، ويتوق إلى الموت. ينتظر أطفاله وزوجته بفارغ الصبر وفاته حتى يتمكنوا من المطالبة بميراث المليونير. السيناريو، الذي كتبه لارين وغييرمو كالديرون (الكاتب المشارك الدائم للمخرج في أغلب أعماله).

واحدة من أفضل الأفكار التي تم تطويرها في الفيلم هي العلاقة بين الكنيسة والدولة بين السلطات الكاثوليكية والحكومات (سواء كانت شمولية أم لا). ينعكس هذا في شخصية باولا لوتشسينغر (إيما)، وهي راهبة كاثوليكية لديها مهمة مزدوجة من جانب رؤسائها: أخذ جميع أصولها النقدية من بينوشيه واغتياله. على الرغم من أنه في البداية يمكننا أن نرى كيف تحاول الوفاء بمهمتها (بمباركة عائلة مصاص الدماء) شيئا فشيئا يتم إغواؤه من قبل الكونت. بهذه الطريقة نرى كيف تأتي الكنيسة للعمل مع الأنظمة الشمولية وتنام في أحضانها، لمشاركة أفكارهم والانسجام معهم.

المخرج بابلو لارين في فيلمه "إل كوندي" (بمعنى "الكونت") يصوره بالأبيض والأسود لتقديم سيرته الذاتية من خلال منظور، "ماذا لو أعدنا تخيل الديكتاتور الأكثر وحشية في تاريخ تشيلي كمصاص دماء عمره قرون؟”، يرسم صورة للجنرال المروع أوغوستو بينوشيه مع كشف الندوب التي لازالت أثارها على وطن لارين في جميع أنحاءه وقصص متحجرة في الذاكرة وعلى مدى 17 عاما من القسوة والترهيب. يحتفظ فيلم (إل كوندي) لدقائقه الأخيرة بالعديد من التقلبات السردية والدرامية والبصرية المروعة في قصة متغيرة يبدو أنها تتحاور في أفضل لحظاتها. يظهر بهيئة الشيطان الذي يرتدي زي سوبرمان، ويطير في الليل في سماء مدينة سانتياغو. ليس وحده الديكتاتور بينوشيه مصاص للدماء، بل أعادة المخرج التشيلي (لارين) تدوير التاريخ وقدم صديقته وحبيبة الديكتاتور أوغستو بينوشيه رئيسة الحكومة البريطانية (مارغريت تاتشر) وأعادها الى الحياة لكن بشكل مصاصة دماء. كان بينوشيه أيضا حليفاً لمارغريت تاتشر ضد الأرجنتين خلال حرب الفوكلاند في الثمانينات. أما التعليق الذي يرافق مشاهد الفيلم الذي يروي رحلة الديكتاتور، من نشأته إلى مشكلاته مع عائلته، فهو بصوت مارغريت تاتشر، "المرأة الحديدية" البريطانية التي تولت السلطة بين عامَي 1979 و1990، والتي تظهر في الجزء الأخير من الفيلم، ولكن بشكل مصاصة دماء أيضا.

أصبح التشيلي بابلو لارين واحدا من أكثر المخرجين شهرة في أمريكا اللاتينية في الآونة الأخيرة بفضل الثلاثية التي تناول فيها انقلاب عام 73، يقدم (النادي) ويصور الشاعر التشيلي بابلو نيرودا (نيرودا)، ويقدم السيرة الذاتية لجاكي كينيدي ارملة الرئيس الأمريكي جون كينيدي في فيلم (جاكي)، و يقدم جانب من حياة الاميرة الإنكليزية (الليدي ديانا سبنسر) في فيلم (سبنسر) ، لكنه هذا المرة يواجه المخرج بابلو لارين أخيرا الوجود الشبحي الذي ينبض في معظم أفلامه شخصية الدكتاتور أوغستو بينوشيه. مع الكونت (جائزة مهرجان أفضل سيناريو في البندقية 2023)، وهو فيلم يقترح فيه فكرة أن أوغستو بينوشيه السيئ الصيت كان في الواقع مصاص دماء.

"إل كوندي" هو هجاء مظلم مستوحى من التاريخ الحديث لشيلي ويصور الفيلم أوغوستو بينوشيه، رمز للفاشية العالمية، كمصاص دماء يعيش مختبئا في قصر مدمر في أقصى جنوب البلاد. بعد قضاء 250 عاما في تغذية الشر للحفاظ على وجوده، يقرر بينوشيه التوقف عن شرب الدم والتخلي عن امتياز الحياة الأبدية، لأنه لم يعد بإمكانه تحمل أن يتذكره العالم على أنه لص وقاتل. على الرغم من الطبيعة المخيبة للآمال والانتهازية لعائلته، إلا أنه يجد إلهاما جديدا لمواصلة عيش حياة مليئة بالشعور المعادي للثورة في علاقة غير متوقعة. الفيلم الذي يمزج الكوميديا مع الخيال، ويعمل مصاص دماء لارين أكثر كمجاز، لأنه في الواقع لا يعمل تحت نفس قواعد مصاصي الدماء المعتادين في السينما، لا يشرب الدم على هذا النحو، وبدلا من ذلك يلتهم قلوب ضحاياه. كل هذا يعزز من فكرة بينوشيه كوحش، قاتل، ولكن ليس وحشا أسطوري، أي كان حقيقيا، من لحم ودم. تحول التصوير بالأبيض والأسود لإدوارد لاشمان (كارول) وتركيز الضوء الساطع للمنزل ومخبأ الديكتاتور السابق تحت الأرض إلى قلعة أوروبية قديمة مليئة بالممرات والأبراج المحصنة.

في الواقع، فإن بينوشيه الذي يبنيه لارين ليس شبحا، ولكنه مصاص دماء (تجسده خايمي فاديل) الذي يعيش في مزرعة في جنوب تشيلي بعد محاكاة وفاته. تحول الديكتاتور إلى رجل عجوز كسول وخيبة أمل، ويعيش مع زوجته، اللوسيا هيريارت الغادرة (غلوريا مونشماير)، وخادمه الأمين (ألفريدو كاسترو) ، يشعر بينوشيه بالخيانة من قبل بلده، التي تعتبره قاتلاّ و لصا فاسدا وجشعا، وبعد أن عاش 250 عاما يتوق إلى الموت. ومع ذلك، فإن رغبته تتعارض مع مصالح أطفاله الخمسة، الذين يحاولون نهب ثروة الأب.

"إل كوندي" هي كوميديا سوداء تحدث في عالم مواز. لم يمت أوغستو بينوشيه. يكشف لنا هذا الفيلم أن الطاغية هو حقا مصاص دماء لأكثر من 250 عاما (يلعب دوره خايمي فاديل، وهو ممثل يبلغ من العمر 90 عاما تقريبا) يعيش منعزلا ومتعبا من خيبة أمله من قبل أقاربه وتذكره على أنه الشر المتجسد، كسارق. هذا هو السبب في أنه يصل إلى النقطة الحرجة المتمثلة في اتخاذ قرار بالتوقف عن شرب الدم. لكن منعطف الأحداث، الذي يجب أن تكتشفه، يغير هذا التصميم على مغادرة هذا العالم. يمكن الاتفاق على أن النموذج الأصلي لمصاص الدماء المطبق على شخصية ديكتاتور مثل بينوشيه، المسؤول عن نظام استنزف دماء بلده حرفيا، ليس فقط في المسائل السياسية والاجتماعية، ولكن أيضا في المسائل الاقتصادية.

كانت رؤية بابلو لارين للفيلم موضوع يحضر له من فترة طويلة. وقال: "لقد كنت أتخيل بينوشيه لسنوات كمصاص دماء، ككائن لا يتوقف أبدا عن الدوران عبر التاريخ، سواء في خيالنا أو في كوابيسنا". وفقا للمخرج، فإن خيار تصوير بينوشيه على أنه مصاص دماء هو انتقاد للطبيعة الثابتة للتطرف السياسي وكيف يمكن أن يطفو على السطح في أي وقت. وأضاف: "الديكتاتوريين لا يموتون، ولا يختفون، ولا جرائم وسرقات ديكتاتور تنسى، رغم أنه لم يستجب أبدا للعدالة“.

"الكونت" تكيفا مجانيا لدراكولا. الاستعارة واضحة. لا يزال بينوشيه على قيد الحياة في تشيلي اليوم. إنه على قيد الحياة لأنه لم يتم الحكم عليه أبدا، لأنه لم يكن هناك أبدا تمرين جيد في الذاكرة التاريخية، في فصله الأخير، يلمح المخرج التشيلي إلى الذاكرة والخيال الجماعي، ويقدم وعدا، وبالتالي، يرسل تحذيرا، تحذيرا من الخطر المستمر مثل السرطان الذي يجب إزالته.

يعلق المخرج التشيلي بابلو لارين: "ما أود قوله هو أن الفاشية تأتي بأشكال مختلفة . وأحيانا يصعب قراءة بعضها، لأنها تبدأ بالإغواء، ثم تنتقل إلى الخوف وتنتهي بالعنف. وهذا شيء نراه مع صعود اليمين في العديد من بلدان العالم". الفيلم رمز واستعارة الى الديكتاتورية الحديثة المتمثلة في صعود اليمين المتطرف في أوروبا أو أمريكا اللاتينية. "إنه ضروري أيضا لأن رياح اليمين المتطرف لا تهب فقط في تشيلي، إنما تهب في جميع أنحاء العالم.

في الختام: ينتهي الكونت برسالة خفية، ولكنها مثيرة للقلق، حين يحذرنا المخرج التشيلي "بابلو لارين" من صعود الأنظمة الشمولية الجديدة، من الديكتاتوريات الجديدة الناشئة عن الطبيعة الدورية للإنسان. وأصحاب الأفكار الفاشية الأكثر تدميرا وخطورة يبدأون في الاستيقاظ. جميع مواضيع الفيلم مهمة ومن الضروري مناقشتها، فهي تضئ لنا الطريق لاتخاذ إجراء حتى لا تتكرر العديد من أخطاء الماضي.




(*) كاتب عراقي \ مقيم في المملكة المتحدة
 







 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter