|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  7  / 9 / 2013                                 عدنان اللبان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

شهداء في قارعة الطريق

عدنان اللبان
(موقع الناس)

عاد دريد من بغداد التاسعة ليلا , كان متعبا وقلقا , وقبل ان اسأله عن سبب سرعة عودته اخبرني : علينا ان نترك المكان بسرعة .
سألته : شنو السالفة ؟
دريد : البس, بالطريق احجيلك .
كنا نسكن في موقع العمل , وهو انشاء دار استراحة مع اثني عشر دارا للضباط على يمين نهر دجلة في مدينة الموصل, والسكن قاطرة بثلاث غرف صغيرة متراصة ( كرفان ) , الاولى لخزن المواد الكهربائية , والثانية لسكني وسكن دريد , والثالثة لصديقنا نوري الذي نعمل عنده .

اخبرني دريد : كنا قادمين من الوزيرية على دراجة نوري النارية ظهر اليوم باتجاه بيتهم في الكاظمية , لم اعرف لماذا لم يذهب مباشرة الى جسر الائمة - ربما بسبب الازدحام - , بل استدار عند سينما الاعظمية باتجاه المقبرة الملكية لكي يستدير عند الامام الاعظم ويعبر الجسر . نوري تباطأ عندما شاهد سيارة نجدة فيها مفوض وشرطي مع السائق يتحرشون بفتاة كانت تسير على الرصيف , سار بمحاذاة سيارة النجدة وبعصبية للمفوض : لك غيرة ماكو ؟! اخوات ما عندك ؟! مو انت المفروض تحافظ على عرض الناس .

اجابه المفوض : انجب قندرة , وانت منو ؟ ومالت السيارة وحصرتنا مع الرصيف وانفتحت ابوابها , وأكمل دريد : وقفت احجز بين نوري والمفوض , الا ان المفوض دفعني بشدة فسقطت على حافة الرصيف , انهال الثلاثة على نوري ضربا , نهضت بسرعة وهجمت على احدهم وكان السائق , ضربته بشدة على وجهه ودفعته بقوة على باب السيارة الذي كان مفتوحا , شق رأسه , ونفر الدم , هربت , وعدل للكَراج , وهاي جيتي .

تعرفت على نوري منذ فترة ليست بالقصيرة في "مكتب الاخوين شاكر وشكر حسين للمقاولات العامة وبيع المواد الكهربائية " , نوري كظماوي من الدبخانة , متوسط الطول وضخم اشبه بمصارع , خريج ثانوية الصناعة وقد كسب خبرة كبيرة في تأسيس الكهربائيات وتصليح الاجهزة الكهربائية , ونتيجة اخلاقه الجيدة وعلاقته المتينة بشاكر وشكر اصبح ( الاسطة ) الذي يشرف وينفذ المقاولات التي يأخذها المكتب خاصة في المحافظات , ومنها المقاولة التي نعمل بها الآن .

توجهنا الى فندق سعد في منطقة الدواسة وسط الموصل , ونحن مطمئنين لامتلاكنا هويات بأسماء اخرى غير التي حصلنا عليها من نوري لدخول الموقع العسكري . كنا قلقين ليس على العمل الذي حصلنا عليه وسنستمر به لثلاثة اشهر تقريبا , بل القلق الاكثر على المكتب الذي اصبح ملجئنا , والخسارة ستكون جسيمة للاخوين شاكر وشكر , ولصباح الذي اخذ يسير اعمال المكتب بعد سفر شكر الى الخارج بسبب الحملة على الشيوعيين , ثم التحاق شاكر بالعسكرية بعد ان سحبت مواليده عند بداية الحرب العراقية الايرانية .

كان المكتب في عكَد النصارى , وهو المدخل الاول الى اليسار بعد الشورجة في شارع الرشيد وانت متوجه الى حافظ القاضي , كان في مقدمة زقاق " عكَد النصارى " صيدلية رمزي , . عكَد النصارى الذي ينتهي عند شارع الجمهورية يعد اكبر سوق لبيع المواد الكهربائية في العراق , وأول فرع بعد صيدلية رمزي الى اليسار - عمارة الراوي - وهي بناء حديث من ثلاثة طوابق , نصف الطابق الارضي يشغله مكتب الاخوين , وكان من قسمين الاول مكتب والثاني معرض للادوات الكهربائية , وفوقهما "بسطة " خشبية استخدمت كمخزن . وفي البناية كان يوجد معامل للخياطة ومكاتب شركات , وهو ما وفر الامكانية للرفيقين شاكر وشكر في مساعدة بعض الرفاق للاختفاء في المكتب في تلك الايام الصعبة , ومن بينهم الرفيق محمد جاسم اللبان عضو المكتب السياسي الحالي الذي اختفى فيه لفترة من الزمن .

بتنا ليلتنا في الفندق قلقين , كنا نخاف في تلك الفترة من التماحك مع اي واحد من افراد السلطة ومنتسبي منظمات البعث حتى وان كان في منظمة اشبال , فكيف التجاوز على شرطة النجدة وإصابة احدهم ؟! كان الخوف من نوري الذي سيدلهم على مكتب الاخوين اذا ضغط عليه وسيقول : انه يعرف دريد من خلال المكتب . وقد يتوسع التحقيق ويعرفوا تفاصيل وضعية صباح مما سيثير الشك في كل المكتب . صباح جمعة طباع في مطبعة الحزب " دار الرواد " , كان قصيرا ووسيما , وافتراق محبب بين سني مقدمة فكه الاعلى يزيد من سعة ابتسامته , صباح من عائلة طباعين وأخوه الصغير فؤاد طباع ماهر ايضا ويعمل في صحيفة " التآخي " الكردية . في احد الايام كان فؤاد هو الخفر وغاب خفر التحرير , وكان العنوان الرئيسي في الصفحة الاولى " رئيس الجمهورية السيد احمد حسن البكر يفتتح بناية معمل الاسمنت الجديد " , وسقط الباء من البكر لتطبع " احمد حسن الكر " , وانتبه لها عند توزيع الدفعة الاولى من الصحيفة والتي جمعت على عجل , قبض على فؤاد وخضع لتعذيب وحشي في الامن العامة , وفي وقتها كان المرحوم عامر عبد الله وزيرا للدولة , وبعد تدخلات كثيرة اطلق سراح فؤاد بعد اربعة اشهر , ولم يعد بعدها للعمل في المطابع .

استمر صباح بالعمل في مطبعة الرواد كواحد من اربعة عمال , بعد ان صرف الحزب الجميع نتيجة اشتداد الهجمة , اعتقل صباح صباح احد الايام عند خروجه من المطبعة التي تجاور مديرية الامن العامة بعد ان قضى الليل في طبع آخر عدد من صحيفة " طريق الشعب " . استمر اعتقاله لأكثر من شهرين , وعندما اطلق سراحه لم يكن منكسرا مثل الكثيرين الذين اجبروا على توقيع التعهدات بعدم العمل مع الحزب الشيوعي , لم يكن يشعر بالذل , ولم يكن يعني انه تعاون مع النظام وأصبح مثل بعض الحثالات التي مسخها البعث وجعل منها اخبث ادواته في التنكيل بمن حافظ على شرفه ولم ينجرف في قذارات النظام , وعندما وقع التعهد اراد كسب الوقت ليعاود المسير في دروب الحرية التي حولها النظام الى دروب دموية . لم يتمكن صباح من الحصول على عمل في المطابع بعد اغلاق صحافة الحزب , خاصة وانه كان من الوجوه النقابية المعروفة , فاخذ يتردد معي على مكتب الاخوين , ومع الايام تدرب على يد شاكر في ادارة بعض اعمال المكتب , وعندما استدعي شاكر لخدمة الاحتياط عند قيام الحرب العراقية الايرانية كان صباح قد تمكن من ادارة المكتب واخذ يسير اعماله .

حاولنا الاتصال بصباح في المكتب ثلاث مرات من بدالة بريد شارع الدواسة لكن دون جدوى , كان التلفون يرن ولا احد يرفع السماعة والساعة قاربت الواحدة ظهرا. اخذ القلق يتصاعد دون ان نتحدث بذلك , وأخيرا اتفقنا على ان نحجز في القطار الذي ينطلق الساعة التاسعة مساءا ويصل بغداد عند الصباح . كان نوري لا يعير اهتمام للوضعيات الاجتماعية , بما فيها الشعور بخطورة المجابهة مع البعثيين رغم انه قريب منا ويدرك حساسية وضعنا , وان قفل ذهنه على شئ حتى في مجال عمله فلا فائدة من مناقشته . وعلى سبيل المثال كان الطابق الثاني لدار الاستراحة والبيوت التي معه تفتقد لأنابيب مد الكهرباء , حيث يجب حفر الجدران التي هي من الطابوق وهذا ممكن رغم صعوبته , اما السقوف الخرسانية المسلحة فلن ينفع معها اي شئ إلا السقوف الثانوية التي توضع بمثابة ديكور كي تخفي ايضا خلفها خلل البناء , الا انه اصر على حفر السقوف وهو ما دفعنا للتفكير في ترك العمل . اتصلنا بصباح للمرة الاخيرة عند الساعة الثالثة ووجدنا عنده نوري , ضحك صباح وقد فهم سبب قلقنا , واخبرنا نوري بأنه سيكون عندنا في موقع العمل غدا صباحا . كان نوري يودنا كثيرا , وهو سريع في اداء عمله ولم نكن نستطيع اللحاق به , وفي احدى المرات نتيجة تسرعه بدل ان يطلق برغي من مسدس كهربائي لتثبيت قاعدة خشب في الجدار اصاب انفه , وبعد شفائه لازمته حساسية العطاس . كنا نسير ثلاثتنا في شارع النهر وتوقفنا عند عربة لبيع الملابس الداخلية , وفاجأته بفرك انفه بلباس نسائي , فسيطر عليه العطاس , دريد يقف بجانبه عاتبني : لو اللباس رجالي ما جان عَطّس , نوري شاط لربه فركض خلفه وتركني .

لم يكن دريد على عادته في الفترة الاخيرة وبالذات بعد ان ترك الوظيفة , كانت الابتسامة لا تفارقه حتى في لحظات احراجه , كان من يسمع اسمه ويرى وسامته لا يصدق انه من عائلة فقيرة جدا , واضطرت ظروف الحرمان والده لتزويج اخته الكبيرة لرجل يكبرها بثلاثين عاما لسداد ديونه التي تراكمت عليه . كانوا ستة اخوة وخمس بنات , ورغم انه الثاني بين اخوته الا انه كان الداينمو الذي يدير شؤون العائلة التي فقدت الوالد بشكل مبكر , ونتيجة استقامته وحبه لعائلته اصبح مثالهم , واندفع جميع اخوته وأخواته للعمل في الحزب الشيوعي .

انتشر البعث كالسرطان في جسم المجتمع العراقي , وكان اشد فتكا في الوسط الفني نتيجة الاغراءات الكثيرة كالشهرة والعطاءات المالية الكبيرة . كان النظام يعتقد ان الفنان يمكن ان يصور الحياة كما يوجهه , وقد نجح في سحب كثيرين لساحة ارتزاقه بشكل مذل , وبعضهم من الاسماء المعروفة , حيث انزلقوا لتمجيد صدام وقادسيته وتعاموا عن كل الكوارث التي حلت بالعراق . وفي المقابل ترك الساحة الفنية الكثير من الفنانين الحقيقيين حيث رفضوا الانجراف الى هذا المستنقع الآسن , البعض اضطر للسفر الى الخارج , وآخرين التحقوا مع مفارز الانصار في كوردستان , وقسم آخر اختفوا عن اعين شرطة الامن واخذوا يعملون في مهن اخرى , ومنهم الفنان المسرحي دريد ابراهيم . كان دريد يشعر بالرعب عند التفكير فقط بالسفر الى الخارج , كان لا يستوعب الابتعاد عن بغداد , وفي نفس الوقت لم تكن لدينا الامكانية في معرفة الوصول الى قواعد الانصار في كردستان . كانت مشكلة دريد انه وجه معروف , وكلنا نذكر مسرحية " الخان " التي قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث , وقد اختار الفنان يوسف العاني دريد لوسامته في تمثيل الشخصية الرئيسية في المسرحية وهي شخصية يوسف العاني ذاته , كان اداء دريد جيدا والنجاح حليف العمل . دريد خريج اكاديمية الفنون الجميلة قسم المسرح , ومنع من العمل في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون والفرقة القومية للتمثيل لكونه شيوعي , واخذ يعمل في التلفزيون التربوي التابع للنشاط الفني في وزارة التربية , كان له حضور متميز بين الاصدقاء والمعارف لتواضعه الشفاف , وكان يجيد المبالغة في تمثيل خطابات البكر واللهجة التي يتكلم بها صدام في مقابلاته الصحفية , مما يجعلها كريكاتيرات تثير الضحك . اضطر للاختفاء عن اعين النظام بعد الهجمة على الشيوعيين عام 1979 .

اخبرنا نوري ان النجدة تمكنت منه بعد عدة ضربات على رأسه في الهراوة التي كان يحملها المفوض وسقط ارضا , ونقلوه الى مركز شرطة فاروق , واخذوا " يحققون " معه على معرفة صاحبه الذي ضرب الشرطي وهرب . وبعد ما يقارب الساعة " حسب توقيت نوري وهو تحت الحكَه " دخل مركز الشرطة الحكم الدولي لكرة القدم العقيد فهمي القيمقجي مدير العاب الشرطة , ووجد نوري في حالة تعيسة , وطلب منه ان يضرب المفوض بالقدر الذي آذاه فيه , ولكن نوري لم يجرؤ فأمره ان يفعل , وانتقم نوري لنفسه بعدة صفعات من المفوض . يقول نوري ان من حسن حظه ان الفتاة كانت تربطها علاقة قرابة مباشرة بالعقيد فهمي القيمقجي , المهم اقسم نوري ان لا يعبر جسر الائمة بعدها , وعندما يأتي الى السوق سيأتي عن طريق الكرخ ويعبر جسر الشهداء خوفا من مفوض النجدة.

اعطت عائلة دريد ثلاثة شهداء في مقاومة الفاشية البعثية , الاول شقيقه الاكبر قيس , وكان خطاطا واعتقل في مكتبه في الكرادة , وبعد اكثر من عام بلغت عائلته بإعدامه وترك زوجة وطفلين . الاخر شقيقه الاصغر قصي , وكان طالب مدرسة اعدادية لا يتجاوز عمره السادسة عشرة , اعتقلوه في بيتهم الصغير في الكرادة وتلقت العائلة خبر اعدامه ايضا . اعتقل دريد وصباح في مكتب الاخوين ولم يعرف عنهما شئ لحد الآن .

عاد شاكر في آخر اجازة عسكرية , وفي صباح اليوم الثاني ذهب الى مكتبه , تفاجأ لعدم وجود صباح , نظر الى الخلف عله يرى صباح قادما بأقداح الشاي بعد ان رأى شخص يجلس خلف المكتب وآخر يتصفح مجلة . نظر باستفسار الى الشخص الجالس خلف المكتب والذي قطع اتصاله الهاتفي واستفسر : ها اخي تريد شي ؟!
شاكر : اريد شي شنو؟! هذا المحل مالي .
الشخص : يا اهلا وسهلا بسيد شاكر , صار شكَد واحنه ننتظرك .

وفي الامن , رغم كل وسائل التعذيب تمكن شاكر من الاصرار على افادته بأنه لا يعرف ان صباح ودريد ينتميان الى الحزب الشيوعي , ومع ذلك احيل الى محكمة الثورة التي حكمت عليه بسبع سنوات سجن ومصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة . ويعتقد شاكر ان صباح ودريد استشهدا تحت التعذيب في الايام الاولى من اعتقالهما , لان شرطة الامن لم يواجهوه معهما رغم ان الامن ادعا بأنهما اعترفا عليه .

 

 

 







 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter