|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  5  / 7 / 2017                                 عدنان اللبان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

البغال تعود الى الشمال

عدنان اللبان
(موقع الناس)

القاضي : رغم ما انت اقسمت بالقران الكريم على ان تحجي الصحيح , المشتكين اثنينهم يدعون الحصان مالهم , وانت سرقته وعندهم شهود . انت ما عندك ولا شاهد وتكَول الحصان مالك , فهمني شلون اصدكَ كلامك ؟! واكذب اربعه حلفوا بالقرآن مثلك ؟
بداي : سيدي الحاكم مرحبه عليك ؟

تفاجأ القاضي باسلوب بداي الذي رفع الكلفة معه , وتحيته بصيغة سؤال وتحدي ايضا . تفرس في بداي الذي يلبس ( الصاية ) ورافعا احد طرفيها في حزامه , وظهر لباسه الابيض الطويل حتى رسغ قدمه المنتعل ( كَيوه ) غبراء جعلها اشبه بالنعل, وعلى كتفه الايمن كوفية سوداء بمربعات بيضاء . اجابه القاضي باستفسار مندهش : هله بيك , احجي .

بداي : سيدي انت الحاكم وتعرف القانون زين . آني , ما محتاج شهود , ولا رايد احلف بالقرآن . هذا الحصان مشتريه قبل خمس سنين من جان مهر , يعني ربيته على ايدي , والحصان نفسه هو الشاهد مالي . انت تصدكَ بذوله لو بالحصان ؟! هذا لا يعرف يحجي ولا يحلف بالقرآن , الولاية كلها تعرف هذا حصان بداي . سيدي الله يخليك من يوم الخميس واليوم احد والحصان موقوف وياي , وحرام عليكم محد يعلفه , سمعت صوته جوعان وآني بغرفة التوقيف . سيدي اطلق سراحه رحمه لوالديك , واثنين من الشرطة خل يمشون وراه , اذا ما راح عدل لبيت بداي الحصان مو مالي , واخذوا الف عافيه عليكم , ومستعد لأى عقوبة . والله ما صايره حيوان اربعة ايام ما ياكل شي ؟!

امام منطق بداي لم يجد القاضي غير الامتثال لكلامه . رغم انه اراد ان يميع قوة حجة بداي لكي لا تكون حديث الساعة , فالكثير من شباب المدينة يترصدون تعليقاته , وكلامه " تصدكَ بذوله لو بالحصان ؟" قوية . والخوف ان يضيف لها واحد من ولد الحرام : يا مطي ؟ ويريدوها من الله عليَّ . فطلب منه ان يروي ما حدث له مع نجاح الصفار .
بداي : انه اخو مطلوب , حتى الك وصلت ؟!

عائلة بداي من العوائل القديمة التي سكنت الصويرة , والده خضير كان يعمل بقالا على ظهر حصانه , ويتاجر ايضا بالحمير والاتانات منذ اربعينات القرن الماضي , ومعروف بتجارته هذه بكل المدن والقرى المحيطة بالمدينة . ابنائه اخذوا عنه هذه التجارة ووسعوها , بداي وحده يملك عند سقوط النظام عام 2003 اكثر من خمسين حمارا واتانا , وبداي كلما كان يشتد به الحماس يردد بفخر " انه اخو مطلوب " . ليس لشهامة مطلوب , بل ان والده وقبل ثورة 14 تموز عام 1958 , تعرض له احد الاقطاعيين المعروف بقسوته مع فلاحيه بالسباب والكلام الخشن بعد ان رآه يبيع للفلاحين الذين يعملون في ارضه , حاول خضير ان يسكته بكلام معقول وهو ما زاد في غضب الاقطاعي فضرب خضير بالخيزرانه التي في يده , فما كان من خضير الا ان ضربه بالسوط الذي يسوق به حيواناته واجبره على الهرب مع سائقه في سيارة الجيب . الاقطاعي طبعا توعده بالويل والثبور , وخضير رزق بولد سماه " مطلوب " امعانا في اذلال من هدده بالانتقام .

بداي ولد في المدينة , ولم يخرج منها الا لتجارته في المدن القريبة او لزيارة الائمة في المدن المقدسة . المدينة حالها حال اغلب المدن الزراعية في تلك الفترة , التقاليد العشائرية المتشددة , والاختلاط بين الجنسين يعد من الكبائر حتى ولو كان بريئا . بداي يدرك فطريا حاجات بعض الشباب , وساعد قسما منهم , ونجاح الذي سأل عنه القاضي كان احد هؤلاء الشباب . يقول بداي : جاءني لاويا رقبته يريد شراء زماله , هو يعرف اني اعرفه صفار ولا يحتاج في عمله الى الحيوانة , واعرف ماذا يريد منها . وبعد ان اتفقنا على السعر اتجرء وراح الخجل منه, وبدت طلباته , يريدها شوية زغيرة بالعمر , وناصية مو عالية . . المهم نقدني سعرها وركب الحيوانه وراح . بعد ستة اسابيع جاءني يريد ارجاعها ويقول ان سعرها غالي واني اخذت اكثر من استحقاقها . طلبت منه ان يذهب بالعيني والاغاتي ولم يقبل , وزاد في كلامه وسبني . سحبت الخيزرانه , هززتها , وشطبت صدره بضربة قوية , صرخ وركض , ركضت وراءه , الا انه كان اسرع مني . فصحت وراءه تريدني اصير كَواد مالك , الا افضحك بالولاية .. وبعد ساعة وسّط احد اصدقائي يطلب مني ان آخذ الحمارة والفلوس بس اسكت عنه .

بداي قبل ازاحة صدام كان يسكن في بيتهم القريب من سوق المدينة الرئيسي ( المسكف ) , والبيت صغير لا يسع لامتلاك اكثر من اربعة او خمسة حمير في احسن الاحوال , والصويرة مدينة بسيطة مثل اي مدينة زراعية لم يدخل عليها الاعمار الا بعد ثورة 14 تموز عام 1958 , حيث قرر زعيمها عبد الكريم قاسم بناء دارهم والبيوت المجاورة له ثانوية للبنات , وتم بناؤها كصرح معماري عراقي متميز , وعلى يمينها شيد دار استراحة حديث . ويشرف الاثنان على استدارة نهر دجلة حول شبه جزيرة ربيضة التي كان مقررا لها ان تكون مدينة للسفارات والقنصليات وسكن الهيئات الدبلوماسية . واجهض المشروع بانقلاب 8 شباط البعثي عام 1963. ثانوية الزعيم للبنات ودار استراحة الصويرة شكلتا مع استدارة النهر تحفة فنية رائعة , خلدها الفنان الراحل زكي خلف بعشرات الصور الفوتغرافية , وتصدرت صورتها الروزنامة الوطنية التي اصدرتها وزارة الارشاد عام 1962 .

في الفترة الثانية لمجئ البعث , استولى عضو القيادة القطرية لحزب البعث عزيز صالح النومان بعد ان عينه صدام مسؤولا لمنطقة الجنوب ,على المساحة التي تقع بين دار الاستراحة واعلى ثانوية الزعيم , وبنى عليها سكنه , والتي كانت تمنح الموقعين فراغا يجسد تكاملهما الجمالي في المشهد البانورامي العام . فتحولت البنايتين الى كتلة واحدة واندثر الفراغ بينهما . بعد سقوط النظام الصدامي يوم 9 نيسان 2003 وبداية الفرهود , نهب بيت عزيز صالح النومان ودار الاستراحة بكل اثاثهما وشبابيك وابواب البنايتين . والغريب ان دار الاستراحة تم نهب حتى الطابوق الذي يفصل بين الغرف , وسقطت القطع الزجاجية الكبيرة التي شكلت بعض الجدران في الممرات والصالات . ولم يبق الا هيكل الكونكريت في السقوف والركائز . وتمكن بداي من الاستيلاء على بعض غرف بيت النومان وسكنها مع عائلته . واستغل بقايا بناء دار الاستراحة ( السقف والركائز ) وجعل منها زريبة كبيرة لتجارته التي توسعت الى اكثر من مئة وعشرين حمارا واتانا وبغلا .

علاقة بداي ليست محترمة ولا حميمة مع البغال مثلما تكون مع الحمير . وهو يمتلك ذكرى اليمة عن البغل الوحيد الذي جاء به والده يحمل اوراق التبغ المهرب من طوزخرماتو عبر ديلتاوه ( الخالص ) مرورا باطراف بغداد الى الصويرة . كان طفلا , وعندما رأى البغل ظنه حمارا ايضا , ولو انه اكبر واكثر نشاطا , فاراد ان يلعب معه مثلما يلعب مع الحمير , لكن البغل رفسه بحافره وكان حادا وثقيلا , فسبب له اصابة في رجله لفترة ليست قصيرة . عندما استلم تجارة الاهل لم يأتي على باله الاتجار بالبغال , ولكن بعد سقوط صدام , امتلئت بغداد وضواحيها بالبغال , واصبحت سوقها رائجة مثل الحمير ان لم تكن اكثر , لانها تستطيع ان تحَّمل اكثر . بعد مرور اكثر من سنة على السقوط ادرك بفطرته ان البغال والحمير لا يمكن ان تجمعهم سقيفة واحدة . في كثير من الليالي كان يسمع صوت النطح والرفس والنهيق الغاضب , تجاوزها في البداية , لكنها تكررت حتى اصبحت كل ليلة . اخذ اضوية السفري مع ابنيه وشقيقه ودخلوا دار الاستراحة (الحضيرة) , كانت الحضيرة مسيجة بخشب واسلاك شائكة تمنع على الحيوانات الذهاب كيفما تريد , الحيوانات عندما شاهدت بداي ومجموع الاضوية سكنت وتركت عراكها , ولكن بداي وعائلته في الصباح وجدوا الكثير من الكدمات والجراح ,رغم ان الطرفين يبدوان على احسن ما يكونا من الانسجام . تكررت هذه الحالة في الكثير من الليالي حتى اصبحت يوميا وفي النهار ايضا . بداي يحب راحته , جمع ابنائه وشقيقه واخبرهم بضرورة بيع البغال والتخلص منها . شقيقه لم يوافق , وعلق : نص عيشتنه على البغال . اجابه بدري : كل عمرنا وي المطايا عايشين وماكلين قسمتنه , البغال اول وتالي ما باقيات , متعودات على الجبال مو هنا . وفي احد الايام استفاقت عائلته ولم تجد البغال وكذلك بداي , وادركت ان بداي ذهب بالبغال ليبيعها ولو بنصف قيمتها في جلولاء , وهي اقرب سوق لشرائها . وعندما عاد بعد ثلاثة ايام كان معه بغلان اعادهما اكراما لرغبة شقيقه .

بداي كان يحب حيواناته , ويتعامل معها بلطف و( انسانية ) . يقول صديقه صبيح : شفايتلي لو الله خالقني مطي عند بداي . فيجيبه بداي : والله جان اتخمك شعير واحطلك وياه حنطة . صبيح : اعرفك شريف . بداي كان قد منح كل حيوان اسما , واغلب الحمير لا تعرف اسمائها الا ثلاثة او اربعة تمكنت من حفظ اسمائها . وعندما ينادي احدها يوتر الحيوان اذنيه ويلتفت اليه وياخذ بتدوير ذيله , وعندها بداي لا تلمه الدنيا من الفرح . بعكس ما ينادي آخر لا يعرف اسمه فيشوط بداي وبعصبية : لك معقولة آني كل اسمائكم اعرفها وانت اسمك ما تعرفه ؟! كان بداي يعتز اكثر بالحمير التي تعرف اسمائها ويجد صعوبة في بيعها . يقول صبيح : في احد المرات جاء احد التجار من الحلة واعطاه مبلغا محترما بحمار كان يسميه ودود , وباعه . ودود صغيرا ونشيطا , كان من بين ثلاثة حمير يذهب بهم يوميا الى دجلة الذي يبعد عن دار الاستراحة اكثر من خمسين مترا لكي يسبحهم , وكم كانت فرحة بداي حينما يراه وهو يتقافز ويحرك ذيله بعد ان سبح وتنشط . كان يصفق له حين يراه يدفع برجليه الخلفيتين مهاجما رفيقيه , ورفيقيه يهربان منه . تذكر بداي كل هذا في المساء وودود في الحلة وسالت دمعة كبيرة على وجنتيه ولعن الساعة التي باعه فيها .

صبيح معوق برجله اليسرى الاقصر من اليمنى , يصغر بداي كثيرا , والده قتل في الحرب العراقية الايرانية وتوفيت والدته بعد والده مباشرة , وتربى في بيت عمه محروما من الحنان , وتعلق ببداي الذي كان يسكن جيران بيت عمه بعد ان انتبه لطيب العلاقة التي تربط بداي بحميره . اراد صبيح ان يؤجج لواعج بداي اكثر بعد ان راى دمعته تسقط : ودود لو عند عزيز صالح النومان هم ما جان باعه .

بداي بعصبية : ولك هو هذا يعرف يحب احد ؟! بطل حيلي على ودود , والله احبه اكثر من عباس ( ابنه ) ومنك .(مقلدا صوت صبيح) عزيز صالح النومان , شذكرك بيه ؟ لان جان نازل هنا . هو اسماء حمايته ما يعرفهم ودود حتى اسمه يعرفه , شيجيبه على ودود ؟

عزيز صالح النومان كان لا يعرف اسماء جنوده فعلا , ليس بسبب كونه اكثر غباءا من ودود كما يقول بداي , بل كان جميع المسؤولين الكبار في زمن صدام ممنوع عليهم اقامة علاقات خاصة او صداقة مع افراد حمايتهم المرتبطين بجهاز مخابرات صدام الخاص , ويجري تبديل افراد الحمايات بعد فترات قصيرة . فلماذا يتعب نفسه بمعرفة اسماء حمايته ؟ صبيح يعرف هذه الحقيقة , ولكنه خاف ان يُقذف بالكَيوة ان هو اكدها لبداي مرة اخرى .

عاد الشرطيان اللذان ارسلهم القاضي خلف حصان بداي . قال العريف للقاضي : سيدي مو بس راح لبيت بداي , باب البيت مسدودة , دفعها براسه ودخل .












 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter