|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  12 / 4 / 2021                                علي عبدالواحد محمد                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

المقدس

علي عبد الواحد محمد 
(موقع الناس)

منذ بواكير التاريخ الملموس الممتد عميقا في عمر البشرية ومنذ أوائل طفولتها وليومنا الراهن، دأبت الأم الطبيعة،على منح البشر و على مختلف معتقداتهم،واطوارهم التاريخية،ذلك الذي يعتبر مقدسا.

في البداية ظهرت الأديان كتعبير عن حالة الضعف لدى الجموع البشرية على التعامل مع الطبيعة وعدم مقدرة الإنسان الفرد او تلك الجموع عن تفسير ظواهر الطبيعة وعجزهم عن التعامل مع هذه الظواهر الا عبر مسألة التقديس وفي غالب الأحيان عبر عبادتها وكنوع من الطوطم .

وفي واقع الأمر لم يكن من السهولة التمييز بين الحياة الطبيعية لهذه الجموع البشرية، والمراسيم الدينية التي صنعتها هذه الحياة., وكان المقدس مرتبطا بالحاجة الموضوعية للمجموعات البشرية، او للأفراد، أو منعكسا عنها ،فالجماعات الخارجة للصيد تمارس نوعا من الطقوس، قد لاتبدو دينية ،كالرسم على جدران الكهوف لعملية الصيد للحيوانات الكبيرة،او ممارسة نوع من الرقص، وبالمثل مارس صيادو الأسماك طقوسا معينة ، بما فيها تشمل أدوات صيد الأسماك وتقديسها.

في تلك الأيام، كان الأنسان خاضعا وبشكل مطلق للطبيعة،ضعيفا أمامها لايملك من وسائل للدفاع عن حياته سوى اللجوء الى من يعتقده هو الأقوى من الطبيعة وتقلباتها، فكانت تلك القوى التي تقيه عواقب تلك التقلبات، وهي كانت في البداية قوى ملموسة أمامه، لاحظ فعلها في درء المخاطر ،كأن تكون صخرة تمنع سيلا جارفا ،أو شجرة يتسلقها، لتقيه شر وحش كاسر أو غيرهما من الحوادث الصدفية، أدت به الى إنقاذ حياته،ويحدث العكس أحيانا ، حين تظهر حوادث أخرى تحدث بالصدفة تؤدي الى موت آخرين أمامه. ففي كل الأحوال حدوث تلك الحوادث المتنوعة، ترك في الوعي المتدني للفرد والجماعات تأثيرا يوحي بوجود شئ كامن في هذه الأشياء وغيرها، يلزمه بالخوف منها وإحترامها، وتقديسها.

ومن الجدير بالملاحظة هنا إن ظهور المقدس وتجذره في وعي الناس الإجتماعي ،يكون مصاحبا لظهور الدين وتغلغله في حياة الناس أنذاك ، بحيث يمكننا القول أن النزعة الدينة لا تكون موجودة بدون المقدس ، ولا يكون المقدس موجودا بدون هذه النزعة الدينة.هذا الإرتباط إستمر طويلا، الى أن ظهر الى الوجود شكل من المقدس غير المرتبط بالمعتقد الديني بشكل مباشر ،وإنما تربطه به علاقة هلامية غير مباشرة، لاتكاد أن تكون ملموسة، كمثل تقديس الثروة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة وقطعان الماشية، وحديثا إمتلاك السيارات الفارهة والأساطيل الجوية والبرية والبحرية ، وحب الملكية الخاصة، ونزعة الإستحواذ على منتوج عمل الغير .وظهرت بواكير هذه المقدسات مع تمكن أساليب الإنتاج الطبقية ومن ثم سيادتها وتحولها الى الأساليب المهيمنة. فعلى سبيل المثال إرتبط تقديس الحيوانات المدجنة، منذ أن تخصص مجموعة من الناس في الرعي، حيث أفرد اله خاص للرعي، كما في حال حضارة وادي الرافدين ،فكان الإله أشنار، ثم لاحقا الإلة ديموزي (تموز) الراعي، وبعد ذلك عند تطور الإنتاج أصبحت قطعان الماشية مقدسة بقدر ما تدر من الأرباح لمالكي المزارع الكبيرة،ولنا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية مثال صارخ عن زوال القدسية عن تربية الأغنام ورعيها لأنها اصبحت عائقا امام تربية الأبقار وتجارتها ، فاصبح ينظر الى رعاة الأغنام نظرة دونية وأرتكبت المجازر بحقهم.وفي الزراعة التي ارتبطت مراحلها ودوراتها بالأساطير المقدسة، حيث كان سكان وادي الرافدين يربطون بين طقوس زراعة محصول القمح ، وبين عودة الإله تموز (ديموزي) من العالم الأسفل، وإنبعاثه، الا أنه في الأوقات الراهنة أصبح المقدس الكامن في محصول القمح ، هو مقدار الأرباح المتحصلة من زراعته ، وليس غريبا أن الرأسمالي الذي يوظف رأسماله في هذا المجال أن يضرب المقدس عرض الحائط ويلجأ الى إتلاف أو حرق حقول محصول القمح، إذا كان العرض أكثر من الطلب في الموسم المعين، لتحقيق المزيد من الأرباح. وبدلا من ان نصل الى إستنتاج مهم ومتطابق مع الظواهر الحسية لمسار الموضوع نجد أن مسألة المقدس ،والتقديس خاصة في البلدان المتخلفة تأخذ مديات أوسع وتوظف في مجالات، لم تكن موظفة فيها سابقا،وارى إن هذه النتيجة المقلوبة، ادى إليها تخلف علاقات الإنتاج في البلد المتخلف والتي هي علاقات إنتاج تابعة لعلاقات الإنتاج في البلدان الرأسمالية المتطورة، وبالتالي إنعكاس ذلك على الوعي الإجتماعي، الذي اصبح هو الآخر متخلفا، ومتقبلا لكل الخرافات، ولنا في بلدنا العراق أمثلة صارخة تكاد أن تكون يومية ، في ظهور وتجلي أشياء مقدسة واضحة للعيان ، وممتدة من الجماد ، كالتركترات، واواني الطبخ، وحباة ألرز ، والحنطة وغيرها، مرورا بالحيونات المقدسة ، كالتيس الذي يدر الحليب ، والخروف الذي يتبارك به الناس ، الى آخره من الكيانات التي تفرض علينا وجودها إرتباطا بالمصالح الذاتية لمروجيها، ومنها المصالح السياسية والإقتصادية لهم.

عموما إن إنتعاش هكذا خرافات مرتبط بتخلف الإقتصاد والثقافة وسيادة الأمية وتدني التعليم، وتدهورالسياسة ، والإنفلات الأمني ولإسئصال هذه الظواهر ، ينبغي استئصال مسبباتها المرتبطة بالتخلف.


 





 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter