| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالآله السباهي

 

 

 

 

الخميس 4/6/ 2009

 

خروف البنجة (*)
(2)

عبدالآله السباهي

عيد البنجة
(1) لدى المندائيين مناسبة ينحر فيها الموسرون والقادرون الخراف التي يربونها في بيوتهم قبل شهر من تلك المناسبة على الأقل.
والبنجة مناسبة لأم خالد تتذوق فيها لحم الخراف بعد أن ترك تلك الممارسة منذ أن سجن ابنها الكبير والذي كان يعيل الأسرة بكفاءة
في تلك المناسبة درجت ابنة خالتها الساكنة قرب شارع الرشيد بتذكرها وإرسال بحصة من خروف البنجة كل سنة.
كانت أم خالد تذهب كل سنة في مثل هذه الأيام بحجة العيد لزيارة قريبتها التي أنعم الله عليها فتعود بحصة صغيرة من اللحم فيكون عندها العيد عيدا حقا.
كان اليافع خالد قد ورث القوة من أبيه الذي تركهم منذ أمد بعد أن ملّ من هذه الدنيا ليجاور ربه.فلم تمضي أيام عدة حتى استعاد خالد قواه وراح يصر في العودة إلى العمل على الرغم من أن يده لا تزال معلقة في رقبته.
ولتشغل الأم فتاها عن فكرة الذهاب الآن إلى العمل خوفا على يده من ذلك العمل المضني، كلفته بالذهاب إلى بيت أبو خلدون ليجلب ما تيسر من خروف البنجة فهذا هو اليوم الأول العيد المقدس عند المندائيين، فهم يعتبرون أيامه الخمسة بلياليها كلها أيام نور مباركة.
ذهب خالد إلى هناك على مضض، مارا بتلك "الأرجوحة" المشأمة فشتمها وتعداها مسرعا. وعندما وصل بيت خالته طرق الباب ففتحت له لبنى ابنة أم خلدون الصغرى. وكانت الفتاة أصغر سنا بقليل من خالد.
جمعت تلك الفتاة رغم حداثتها كل سمات الجمال التي كانت تميز أمها بين المندائيات.
راحت تتطلع بخالد الذي ظل واقفا صامتا أمامها.
لم تكلمه ونادت أخاها وظلت واقفة في الباب تتطلع بخالد الذي ظل جفلا مشدوها، خلدون هذا ولد واقف بالباب يريدك.
جاء خلدون مسرعا فعرف خالد ورحب به وأدخله الدار معرفا أخته بأنه خالد قريبها.
لم يرى خالد معالم العيد في دار خالته ولم يشم رائحة اللحم ولم يرى خالته كما كان يسميها، فظل بحيرة من أمره لا يعرف كيف يتصرف.
سأل عن خالته فأخذوه إليها وهي ممدة في سريرها.
ها خاله سلامتك كل سنة وأنت بخير ماذا جرى؟ ولماذا أنت راقدة ألف سلامة .
آنه زينه خاله اشلون أمك؟ ما جاءت معك؟ اشبيها ايدك ملفلفه؟
كنت ألعب وسقطت عليها فانكسرت ولكن جبروها في المستشفى والآن جيده.
نادت أم خلدون على ابنها وراحت تهمس في أذنه. بعد أن أصبح خالد وخلدون ولبنى في وسط الدار فلتت من بين شفاه الفتاة ضحكة خجلة، نهرها أخوها على أثرها وخالد في حيرة فيما يجري من حوله. وأخيرا تجرأ وسأل ألا يتفضل أحد منكم ويخبرني ماذا يجري هنا ؟
أجابته لبنى وهي لا تزال تضحك خجلة:
بالأمس صعد خروف البنجة الدرج للطابق الثاني،ليش محد يعرف، عجبه، ودخل غرفة ماما وبابا، وراح ينظر في مرآة خزنة الملابس، فشاهد خروفا ثاني " وهنا أخذت تضحك بصوت عالي" فراح يناطحه فكسر المرآة العزيزة على ماما. وعلى أثر الضجة صعدت ماما إلى الغرفة حيث مصدر الضجة، فرأت الخروف كسر المرآة ولا يزال يناطح بقاياها، فلم تتمالك نفسها، وفي ثورة غضبها حملت الخروف الثقيل وألقت به من فوق على الأرض فانخسف صدرها من ثقل الخروف، ومات الخروف من أثر الارتطام ببلاط الدار.
جاء أبي في تلك الأثناء وثارت ثائرته وعنف أمي بشدة وترك البيت غاضبا. وكما ترى لا نعرف ماذا نفعل أنا وخلدون. رمينا جثة الخروف خارجا في القمامة وطلبنا الطبيب ليعالج ماما، ثم عاد أبي ولكن ظل غاضبا لا يكلم أحد وكل عام وأنتم بخير . قالتها بجرأة و دلع ثم توارت في غرفتها .
هم خالد بالخروج من الدار فاستوقفه خلدون داسا بيده بعض النقود حسب أوامر أمه على ما يبدو، لكن خالد رفضها شاكرا وخرج مسرعا ضاحكا بعد أن أصابته عدوى الضحك الذي لم يترك لبنى..
في طريق عودته إلى البيت لم تفارقه صورة لبنى وضحكتها الغنجة رغم صغر سنها، وظل يستعيد بروايتها متخيلا خروف البنجة الأبيض وهو يرتقي سلالم الدار، وكيف راح يناطح صورته ليكسر المرآة الجميلة وإلى آخر القصة وهو يبتسم ويقهقه أحيانا غير مبال بنظرات المارة.
كانت أمه قد أعدت كل شيء لشواء اللحم فخاب أملها عندما قص خالد عليها قصة الخروف مرددة عرفت أنه يوم مشئوم وشلون خالتك؟ هل حالتها خطرة؟
"لا ماكو شي سلامتك"! .
كبر خالد سريعا وراح يتنقل من عمل لآخر وفي ذات الوقت راح يتابع دراسته المسائية وخيال لبنى لم يفارقه محاولا أن يجعل من نفسه إنسانا يستحق تلك المهرة الجامحة. فقد رسم صورة لمستقبله للبنى فيه حصة الأسد.
انخرط خالد في السياسة بعد أن شعر بعدالة قضيته، وقاده حسه المرهب للانخراط في صفوف الحزب الشيوعي السري، والذي لم يكن غيره على ساحة النضال ضد الظلم في تلك الحقبة.
ولكونه من عائلة لها ماضي معروف في إخلاصها للحزب ولذكائه الشديد و شجاعته شق طريقه سريعا في قيادات الحركة الشيوعية وأصبح من الكادر المتقدم رغم صغر سنه.
يذكر خالد بفخر أولى مساهماته في الكفاح من أجل البائسين في وطنه.
فبعد أن ازداد اضطهاد الحكام العراقيين لشعبهم عام 1952 فجر طلبة كلية الصيدلة في بغداد الوضع بعد أن اعتصموا وتظاهروا ضد قانون أصدرته كلية الصيدلة، ويقضي بأن يعيد الطالب كل المواد إذا رسب بواحد منها، واضطر لإعادته.
كان هذا القانون الذي أصدرته عمادة الكلية قانونا مجحفا وغير منطقي، وتطور مطلب الطلبة هذا إلى مطالب شعبية واسعة تطالب بالحرية بعد أن انضم للمضربين طلبة كليات أخرى وشرائح شعبية واسعة،
كان الشيوعيون على رأس شرائح الشعب الثائرة.
أبلغ المسئول الحزبي خالد بأنهم سوف ينطلقون في مظاهرة تضامن مع الطلبة في باب المعظم قرب منطقة الفضل، وطلب منه أن يتسلح بهراوة أو (مكوار) أو أي شيء يدافع به عن المتظاهرين.
وفي الموعد المحدد تجمع العشرات من العمال ورفعت الشعارات المطالبة بالحرية والديمقراطية، وانضمت مجاميع أخرى للمظاهرة حتى جاوزت المائة حسب تقدير مسئول المظاهرة.
سارت المظاهرة مسافة قصيرة وإذا بجدار طويل من رجال الشرطة المسلحين بهراوات جديدة لامعة لم تختبر بعد، وفي مقدمتهم يسير ضابط شرطة برتبة عالية. اقترب من المتظاهرين طالبا منهم التفرق. وهنا دوى صوت مسئول المظاهرة آمرا:
حرس استعد. برز خالد وأربعة شبان من عمره تقريبا ومع كل واحد منهم عصا هزيلة مقارنة بما فيد الشرطة. سادت دقائق صمت وربما هي ثواني عندها التحم الطرفان في معركة غير متكافئة،
كانت أعداد الشرطة كبيرة ومسلحة ومدربة لمثل تلك المعارك، أما المتظاهرون فلم يملكوا غير الجرأة والتصميم.
كيف جرت المعركة ؟ لا يتذكر خالد إلا أنه قد شاهد الشرطة بعد المعركة على مسافة لا تقل عن مئة متر عن المتظاهرين. تملكه شعور بالفخر كونه ظل صامدا ولم يجبن أو يخاف من رجال الشرطة. أما المتظاهرون الآخرون فلم يبقى منهم أحد، فالجمع قد انفض راكضا عدى مسئول المظاهرة وخالد واثنان آخران. أمرهم المسئول أن يفرقوا بعد ما راحت الشرطة تطارد الفلول.
وتعتقلهم. ركض خالد باتجاه سدة ناظم باشا وفي طريقه صادف كوخا تسكنه عائلة فقيرة فلجأ إليهم مستنجدا. آوته تلك العائلة وضمدت جرحه بقطعة قماش عتيقة. وهكذا نجا من الاعتقال. ولكن المظاهرات لم تنتهي وإنما استمرت في مناطق متفرقة من بغداد وراحت الجموع فيها تزداد.
ففي اليوم التالي انطلق خالد في مظاهرة أخرى في شارع غازي بالقرب من باب الشيخ. وعندما وصلت المظاهرة إلى حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني، وشاهد سياجها المرتفع تذكر بائع (النبق) الذي كان يجلس هناك فوق السياج العالي ويدلي بسلة صغيرة، يضع فيها الأطفال ما توفر لديهم من نقود لترتفع إلى الأعلى وتعود بنبق من النوع الذي لا ينسى مذاقه.
وخالد وهو في تأمله وذكرياته عن النبق سمع صوت أطلاقات نارية منطلقة من مركز الشرطة الذي يقع في الشارع المجاور للحضرة الكيلانية،
سقط أحد المتظاهرين بقربه ودماءه تنزف، ثم دوى طلق آخر وخر شاب آخر جريحا، واستمر الشرطي القناص الذي تمترس في مركز الشرطة يمارس هواية القتل بتلذذ. فأنطلق خالد ومجموعة من الشباب معه في الهجوم على مركز الشرطة وتحولت جموع المتظاهرين إليهم مساندة.
سقط مركز الشرطة بيد المتظاهرين واستولوا على سلاح المركز بعد أن فرّ أفراده عدى ذلك القناص الذي ظل يطلق النار على المتظاهرين، فما كان من المتظاهرين إلا أن هجموا عليه وأمسكوا به ثم سكبوا عليه صفيحة من النفط لا يعرف أحد من أين أتوا بها وأضرموا النار بذلك الشرطي وهو حيّ فمات محروقا.
وبعد أن تكرر الهجوم على مراكز الشرطة انسحبت الشرطة من الشوارع تاركة إياها بيد المتظاهرين.
حاول المتظاهرون إسقاط تمثال الجنرال مود الذي كان شامخا في الكرخ أمام السفارة البريطانية في محلة الكريمات، ثم أحرقوا المركز الثقافي الأمريكي في شارع الرشيد قرب ساحة الرصافي اليوم. بعد أن رموا محتوياته في شارع الرشيد.
انتهت وثبة تشرين بعد أن نزل الجيش إلى الشوارع وسيطر على المدينة وتشكلت حكومة عسكرية أعلنت الأحكام العرفية وزجت بالآلاف في السجون.
أنتقل خالد وأمه من محلة الطاطران ليعيشوا في كرخ بغداد بعد أن ازدادت مسؤولياته الحزبية ولم يعد يزور بيت خالته رغم شوقه الشديد، ولكنه كان يتابع أخبار لبنى التي أنهت دراستها الثانوية والتحقت بكلية الصيدلة.
وبحكم عمله القيادي في الحزب علم أنها منخرطة في صفوف الحزب بشكل نشط مما أفرحه وجدد أمله في لقياها.
بعد أن سقط النظام الملكي في العراق وأطلقت الحريات، توسع نشاط الحزب الشيوعي وأصبح الحزب الجماهيري الأكثر سطوة على الشارع. تعددت تنظيماته وبذلك توسعت مسؤوليات خالد الذي لم يترك الدراسة طامحا بأن يصبح محاميا على الرغم كثرة مسؤولياته.
حضر خالد ذات يوم اجتماع حزبي للجنة الطلبة الحزبية بناء على تعليمات القيادة. ليشرح خط الحزب للمرحلة الجديدة.
من عادة خالد أن يكون متأنقا دائما ولم يخالف هذه القاعدة هذه المرة.
حضر الاجتماع الذي انعقد في بيت أحد أعضاء اللجنة، وهناك تفاجأت لبنى والتي كانت عضوه في هذا التنظيم بأن المشرف الذي طال انتظاره هو خالد قربها بعينه. راحت تتأمله بإعجاب ظاهر مستعيدة لقاءه معها عندما مات خروف البنجة قبل سنين عدة.
حاول خالد أن يكبح جماح فرحته يلقياها ثانية، وأدهشه جمالها الأخاذ وحلاوة حديثها وتمسكها بآرائها وحدة ذكائها.
لم يبدو علية ولا هي بأنهم يعرفون بعض أو أقارب هذا ما يقتضيه العمل السري الذي اعتادوا عليه.
وهكذا انتهى الاجتماع دون أحاديث خاصة بينهم، ولكنهما ظلا مشدودين لبعضهما طيلة الاجتماع. فلم تنزل هي نظرها عنه وكان هو يسرق النظرات من مدة لأخرى.
بعد أن تأكد من حبه للبنى وإعجابها به، أخذ خالد يرتب ويخطط لخطبتها، فأخذ أمه ذات يوم لبيت خالته بقصد توثيق وتجديد العلاقة، وقد شعرت الخالة بميل ابنتها لخالد ولكن الأب كان جافا معه ومترفعا عن مجاملة خالد ناهيك عن فكرة تزويجه ابنته لهذا الشاب الفقير.
دار حديث بين أم خلدون وزوجها حول زيارة خالد وأمه لهم، ورغبتهم بخطبة لبنى. و راحت تطنب في مدح خالد وعائلته، لكن الأب انزعج كثيرا، كيف يرضى بخالد خطيبا لابنته وهي التي يتهافت شباب المندائيون الموسرون بطلب يدها. من هذا خالد الذي تردينه زوجا لابنتك؟ ولم تنفع مع الأب كل الأعذار التي ساقتها أم خلدون. لقد كانت مؤمنة بمستقبل هذا الشاب ومعجبة جدا بأخلاقه الرفيعة و وسامته، كما إنها تعرف حب ابنتها له وإصرارها على أن لا تقترن بغيره.
مرت الأيام مسرعة، استطاع خالد خلالها أن يلتقي بلبنا مرة أو مرتين وبحجج مختلفة مختلقة في الغالب.
صارحها بحبه لها وتعاهدا أن يكونا لبعض مها كانت الظروف.
وكما جرت عليه العادة فإن أيام السعادة قليلة وتمر سريعا،
لم تدم أيام الحرية طويلا في جمهورية 14 تموز فقد دبر المستعمرون القدامى والجدد انقلابا دمويا ضد الجمهورية الفتية وأسقطوها بعد أن قتلوا قادتها والآلف من المدافعين عنها وعلى رأسهم الشيوعيين.
غصت سجون بغداد ومدارسه وملاعبه الرياضية بالموقوفين وكان المئات منهم يموتون تحت طائلة التعذيب.
بعد قتال شرس في حي الأكراد وسط الرصافة غير بعيد من محلة الطاطران دار بين الحرس القومي الذي جندته سلطة الانقلاب ومجموعة من القيادات الشيوعية التي تحصنت هناك تم إلقاء القبض بعدها على خالد وأغلب قيادات الحزب.
اقتاد الحرس القومي خالد إلى قصر النهاية وعذب هناك بوحشية إلى أن مات تحت التعذيب، وكما روي أحد معذبيه متلذذا أنهم علقوه في المروحة السقفية وظلوا يلعبون برأسه كرة قدم إلى أن فارق الحياة دون أن يتخاذل أو يشي برفاقه.
كانت لبنى تقود مجموعة من الشباب في الدفاع عن الجمهورية وتقاتل معهم ضد قوات الحرس القومي من حيّ إلى حيّ ولكن بعد أن سيطرت قوات الانقلاب على مجريات الأمن في البلاد أخذت تتعقب كل الشيوعيين وأصدقائهم ، فتمكنت من إلقاء القبض على لبنى في يوم البنجة وزجت في أحد المعتقلات العشوائية.
كان المعتقل عبارة عن دار عادية في كرخ بغداد. وكانت لبنى محبوسة في غرفة في الطابق الثاني مع مجموعة كبيرة من الطالبات.
وهناك وصلها خبر مقتل خالد تحت التعذيب، فقنطت ولم تكلم أحدا وراح الحزن يفتك بقلبها الصغير.
جاءت مجموعة من أفراد الحرس القومي لتحقق معها، وحاول أحدهم الاعتداء عليها واغتصابها فما كان منها إل أن ألقت بنفسها من الطابق الثاني ليرتطم رأسها ببلاط الدار، ولم تنفع الإسعافات في إنقاذ حياتها وآخر ما أوصت به هو ادفنوني بجوار خالد وبسمة رقيقة على شفتيها متذكرة خروف البنجة .


(*) البنجة  عيد من أعياد المندائيين المهمة. ففيه تقام  أهم مراسيمهم الدينية وفيها تذبح ذكور الخراف
(1) عيد البنجة هو عيد الربيع وعيد الخليقة عند المندائيين ويمتد خمسة أيام يقضونا بتأدية الطقوس الدينية التي محورها الأرتماس في مياه النهر بملابس بيضاء خاصة

 

¤ خروف البنجة (1)
 

free web counter

 

كتابات اخرى للكاتب على موقع الناس