| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالآله السباهي

 

 

 

 

الأربعاء 3/6/ 2009

 

خروف البنجة (*)
(1)

عبدالآله السباهي

لا أعرف لماذا تفيض الذكريات هذه الأيام، فيدفع بعضها البعض لتظهر القديمة منها على السطح، فتصبغ شتاء شيخوختي القارص البرد بدفء لذيذ. لم أكن بعيدا عن أحداث قصة خروف البنجة ومرت بالذاكرة كما ارويها لكم:
كان خالد يعيش طفولته المتأخرة في محلة الطاطران القريبة من سوق (الشورجة) في رصافة بغداد، في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي.
سكن هذا الحي فقراء اليهود قبل هجرتهم إلى فلسطين. وسكنها معهم فقراء المندائيين وغيرهم من طبقات الشعب المسحوقة.
سوق طويل شبه مسقف. دكاكينه صغيرة فرشت امامها أنواع الخضار في سلال متهرئة تزاحمت عليها أسراب الذباب. توسطت السوق ساقية مفتوحة لتصريف المياه المسودة دائما.
تزدحم البيوت على جوانب الطرق الضيقة التي تتفرع من هذا السوق. أو التي تؤدي إليه.
لا أحد يعرف من أطلق تلك التسميات الغريبة على تلك الطرق الضيقة الملتوية والتي استقلت على شكل حارات واحتفظت ببعض الخصوصية، وراحت تميزها عن جاراتها وكل تلك الخصوصيات وهمية، فهي لا تخص الطرز المعمارية فكلها متشابهة حتى أنك لا تميز بينها، أو قد تتيه في وسطها إن كنت شارد الفكر.
إذا جازفت بقطع السوق من بدايته عند مقبرة اليهود لتنتهي في شارع غازي من الجهة المقابلة لسوق الشورجة، ستكون قد مررت بحلة أبو دودو ثم الطاطران ثم أبو سيفين، هذا من جهة اليمين، وبمحلة الكولات وبني سعيد من الشمال. من أين جاءت تلك التسميات لا أحد يعرف.
وسط زحام الناس في ذلك السوق وفي طريقهم إلى شارع غازي تجتمع كل يوم كلاب سائبة مرعبة لتتعارك أمام دكان القصاب.
وسط هذه الزحمة كان على خالد أن يجد فرصة للحاق بعمله كل صباح فقد بدأ العمل وهو في سن مبكرة جدا.
كل بيوت هذا الحي البائس مكونة من غرفتين أو ثلاث. وكانت تلك الغرف تؤوي أكثر من عائلة في بعض الأحيان. الكل غرباء لا يجمعهم غير هذا السكن البائس، ولا يلتقون إلا عند باب المرحاض الوحيد الذي يتوسط سلم الدار أو تحت السلم. تغطي بابه قطعة سميكة من قماش حيكت من خيوط القنب حولت السنين لونها إلى لون الرصاص القريب إلى السواد. سكنت هذه المراحيض على مرّ الزمن صراصر حمراء. كثرت وكبرت واسود لون أجنحتها الحمراء بشكل يبعث على الرعب وكأنها الساكن الرئيسي لتلك الدار والناس طارئون عليها.
حشر خالد في غرفة صغيرة مع أمه التي دخلت خريف العمر في بيت فيه غرفتان آيل إلى السقوط بعد أن تقادمت السنين عليه، تنير تلك الغرفة رازونة صغيرة مربعة الشكل في أعلى الجدار.
لم يكن هناك سكن أرخص منه في كل بغداد على ما أظن فكان مناسبا جدا لخالد وأمه. شغلت الغرفة الثانية عجوز طاعنة في السن نادرا ما تخرج منها وكأنها غير موجودة أصلا.
لم يكن خالد قد ودع الطفولة بعد، ولم يعرف حينها بالضبط أين حل الدهر بشباب الأسرة الآخرين.
نعم كانت لخالد أسرة كبيرة، وكانت تلك الأسرة نعيش في بيت يطل على دجلة قبل أن يسود العراق الحكم الإرهابي في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي هذا ما كانت تتخيله ذاكرة الطفل الرجل، يتذكر كيف تفرقت العائلة، فوجد على هذه الحال دون أن يجد تفسيرا لذلك.
كان خالد آخر العنقود، طفلا مدللا، يجب أن نؤكد على كلمة كان، فالعنقود لم يعد كذلك. نضجت حباته فرادا قبل أوانها. وبعضها لم تنضج أصلا.
كان معمل الكراسي الحديدية الذي وجد فيه خالد فرصة عمل بأجور يومية زهيدة لا تسد الرمق، يقع بعيدا عن محلة الطاطران قرب دجلة، وكان الطريق الذي يوصل إلى هناك يأخذ من يومه المرهق ما يقرب الساعة ذهابا ومثلها في طريق العودة، ولكنه كان يجد فيها المتنفس الوحيد في دأبه اليومي.
كان يغادر البيت قبل أن يغادر النوم عيونه، والشمس شديدة السطوع على السطوح، و كان يعود من العمل وقد اقتربت الشمس من أفقها الغربي.
الدرب إلى ورشة عمل خالد تمر عبر أزقة وبيوت شهدت أزمانا كانت بغداد فيها مدينة تغري السياح بزيارتها وصيتها طبق الدنيا!.
أما اليوم فهي بيوت شبه مهدمة وأزقة قذرة ورجال اصفرت أسنانهم من بقايا التبغ، أما النساء فقد أختلط سمارهن بلون العباءات التي اسمرت هي أيضا مع تقادم السنين والكل في عجلة من أمره.
امتدت شناشيل بعض تلك الدور لتقترب جدا من التي تقابلها، فتتيه شمس تموز الحارقة بينها ولا تجد طريقا لها للوصول إلى رؤوس الناس إلا ما ندر.
ظل خالد يتذكر أحد تلك الشناشيل والذي أسند إلى الجدار الذي اعتلاه بقضبان حديدية على شكل زاوية. يتجنب المارّة السير من تحتها خوفا على رؤوسهم من الاصطدام بها.
كان خالد وكل صباح يعبر من تحت تلك الزاوية الحديدية على حذر رغم قصر قامته حينها.
وذات يوم لأغراه ذلك القضيب الحديدي فتسلقه وتدلى منه كأنه قردا. راح يؤرجح جسمه الهزيل بلذة فسقط إلى الأرض. ورغم قصر المسافة بين القضيب والأرض، إلا أن ذراعه كانت تحت ثقل جسمه فانكسرت دون أن يدرك ذلك. واصل طريقه إلى محل عمله رغم الألم الذي راح يكبر.
كان واجبه في هذا المعمل بعد كنس أرضيته ورصيف الشارع الذي أمام واجهة المصنع والتي اكتظت بمخلفات الحديد، أن يحمل ما صنع في نهار الأمس من كراسي حديدية إلى مكان كانت تطلى به بمادة النيكل، في محلة سيد سلطان على، والتي تبعد عن المعمل حوالي خمسمائة متر.
كان العمال الذين يصنعون الهياكل لتلك الكراسي، يطوون برشاقة أنابيب الحديد التي تصنع منها، بأدوات حديدية ثقيلة، وكان خالد يقف أمامهم مشدوها مفتونا بعضلاتهم البارزة وهم يلعبون بتلك الأدوات، حاول مرة رفع واحدة منها فلم يفلح وسقطت على قدمه الحافي فآلمته.
كان هؤلاء العمال ضخام الأجسام وهيئاتهم مخيفة، ولم تعرف البسمة وجوههم يوما، فكانوا أشباحا مرعبة في ذاكرة الصبي.
مهمة خالد الرئيسية هو أن يضع مساند تلك الكراسي الحديدة واحدا واثنان في بعض الأحيان على متنه الصغير من كلا الجانبين، ويجري بها ذاهبا إلى معمل الطلاء، مجتازا شارع المستنصر المكتظ دائما بسيدات بغداد الجميلات وبكل حذر، وكان دائما يقارن بينهن وبين نساء محلتهم في الطاطران فيرثي لحال الأخريات، ليعود بعدها بزوج من تلك المساند و التي تكون قد طليت وأصبحت تلمع كأنها الفضة.
تتكرر العملية كل يوم. ولا يجد خالد خلال هرولته اليومية تلك راحة إلا عند ساعة الغداء، والذي ظل عبارة عن لفة من الخبز البارد الذي تخبزه أمه مع بعض الخضار والمخلخلات، وفي بعض الأحيان يطل منها بياض البيض أو صفاره والمسلوق بشدة.
جازف مرة بالوقوف قرب محل للمرطبات يقع في شارع الرشيد وراح ينظر بشراهة إلى علب الدوندرمة( الإيس كريم) المتعددة الألوان، محاولا تخيل طعمها في فمه، فظل واقفا فاغرا فمه مدة من الزمن رغم ثقل الكراسي التي على كتفه دون أن يفلح في تكوين فكرة عن طعمها إلى أن طردنه صاحب المحل معنفا.
بعد أن سقط خالد من تلك الأرجوحة واصل طريقه إلى المعمل رغم الألأم التي أخذت تزداد عليه، وهناك رفض صاحب المعمل أن يباشر خالد بعمله، وأقنعنه بالذهاب إلى مستشفى المجيدية الواقع في باب المعظم.
ركب خالد باص المصلحة رقم واحد، الأحمر اللون ذو الطابقين و الذي يربط بين الباب الشرقي لبغداد بالباب المعظم، حيث يقع المستشفى بالقرب من باب المعظم.
ظل خالد يراوغ ويتهرب من محصل التذاكر بين زحام الركاب صاعد فوق نازلا تحت وذلك كونه لا يمك عشرة فلوس ثمن التذكرة، ولكن بعد منطقتين أو ثلاث أمسك به قاطع التذاكر من يده التي تؤلمه وقذف به خارج الباص.
حاول أن يعيد الكرة مع الباص الثاني الذي أتى بعده، ولكن الألم الذي تركه محصل التذاكر في المرة السابقة منعه من تكرار المحاولة، فواصل السير مشيا على الأقدام.
وصل المستشفى ظهرا. و بعد أن قطع تذكرة مجانية جلس في صف طويل من المراجعين للدخول على الطبيب المختص في قسم الكسور.
جاء دور خالد فأخذ الطبيب يفحص يده ثم أرسله مع المساعد إلى قسم ثاني غير بعيد عن غرفة الطبيب وهناك أدخل إلى غرفة العمليات.
كانت تلك المرة الأولى التي يدخل فيها خالد إلى المستشفى وإلى غرفة عملياته المرعبة. فراح يتطلع فيها وهو يفكر بالهروب.
فقد أدخل إليها وهو متردد أصلا.
في غرفة العمليات والتي انتشرت فيها روائح غريبة. مدد على سرير حديدي غطي بجلدي أسود اللون. جاء طبيب بملابس بيضاء وأخذ يرش في أنف خالد مادة ذات رائحة مقرفة لم يجد وسيلة للهرب منها. و بعد عدة رشات من تلك المادة ودع خالد الدنيا وهو ينعم بخدر لذيذ.
أجرى له طبيب آخر العملية الجراحية وأعاد العظم المكسور إلى مكانه الطبيعي.
أفاق خالد من المخدر ليجد نفسه ممددا على إحدى المساطب في الممر المجاور لغرفة العمليات، وكانت يده ثقيلة بعد أن لفت مرات عديدة بالجبس وعلقت في رقبته.
نهض من على المسطبة بتثاقل و غادر المكان دون أن يرى الطبيب مرة ثانية، ولكن المساعد الذي يقف بباب الطبيب أخبره بأن عليه أن يعود بعد عشرين يوما ليرفعوا الجبس عن ذراعه.
كان أثر المخدر غريبا على خالد، فقد وجد فيه متعة ولذة وفي ذات الوقت شعورا بالقيء.
بعد أن سار خالد بضعة أمتار في حديقة المستشفى وجد نفسه أمام ساقية صغيرة تسقي الزرع في تلك الحديقة فجلس على ركبتيه وراح يتقيأ، لقد أرعبه القيء وظل خائفا منه طول الطريق الطويلة إلى البيت.
حزنت أمه كثيرا على مصاب ابنها ولكنها كانت غاضبة عليه كونه قد هدد حياته للخطر وكون أجوره اليومية ستنقطع طيلة بقاءه في البيت ورأت في تلك الحادثة علامة شؤم لم تجد تفسيرا له.
 

يتبع


(*) البنجة  عيد من أعياد المندائيين المهمة. ففيه تقام  أهم مراسيمهم الدينية وفيها تذبح ذكور الخراف

 

free web counter

 

كتابات اخرى للكاتب على موقع الناس