|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  16  / 1 / 2016                                 عبدالآله السباهي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

(كومونة) شنور

عبدالآله السباهي
(موقع الناس)

لم يظل في الذاكرة الشئ الكثير، والذي سأسرده هنا هو كل ما فيها، أو قل كل ما رأيته مهّما فيها، فحياة طفولتي بسيطة سهلة، ولدت ولا أعرف بالضبط متى، ولكن حتما حدث ذلك في أواسط العشرينيات من القرن العشرين.

بيتنا الصغير حشر بين أسواق المدينة، ولم يكن فيه غير أبي وأمي، وهي إمرأة كنت أراها أجمل نساء الدنيا ولا أعرف رأي ابي فيها، ولكنني كنت أراه يداعبها بحنان، و ما أخافني حقا هو إنني كنت أرى بطنها أخذت تنتفخ شهرا بعد شهر، فسألتها ذات يوم وأنا خائف، ماذا جرى لبطنك يا أمي؟ فأجابت بدّعة وهي تبتسم اسأل أباك. وقد سألته فعلا في ذات اليوم فراح يشرح لي كيف نزرع االبذور في الحديقة لتنبت خضارا، فالرجال يزرعون بذورا في بطن المرأة لتنتج أطفالا، لا تقلق قريبا سيكون لك أخ أو اخت.

حل صباح يوم صيفي شديد الحرارة، كنت قد عدت فيه من المدرسة مبكرا وذهبت للبيت مباشرة حسب أمر المعلم، فقد كان في المرسة احتفالا لا اذكر مناسبته.

لم يكن ذلك اليوم يوما عاديا لا في المدرسة ولا في البيت!

عندما عدت إلى البيت من المدرسة وجدت فيه حركة غريبة، ونساء لم أراهن من قبل وقد أغلقوا الباب على أمي، وعندها كثر الصراخ في تلك الغرفة، وقد انتابني ذعر لم أعرفه من قبل، ثم علا صراخ طفل لم ينقطع، وراحت النسوة يغادرن الغرفة ويدخلنها على عجل، وقد منعنني من الدخول لتفقد أمي.

قالت لي تلك المرأة القوية، التي خرجت من عند أمي للتو، وقد تلطخت يدها بالدم لا تخف إن أمك بخير، وقد جاءت لك بأخت جميلة، أجري بسرعة وخبر أباك بالخبر.

كان أبي في محل عمله وسط السوق ولم يكن بعيدا عنا فذهبت إليه راكضا لأخبره.
وجدت أبي قلقا ولم يعمل شيئا في ذلك النهار، وعندما رأني أركض إليه ضمني وراح يطمئن على صحة أمي، وعندما أخبرته بما قالته المرأة الغريبة، استبشر وضحك وراح يغلق دكانه ليعود بي للبيت في مثل هذا الوقت المبكر.

عدنا إلى البيت وفي يد أبي الكثير من السمك على غير عادته فقد كان يعود سابقا للبيت وبيده سمكة واحدة !

في البيت وجدنا النسوة منهمكات في أعمال لم أدرك مغزاها، فقد عزلوا أمي والطفلة ايضا ولم يسمحن لأحد بلمسهن، ووضعن أواني خاصة عند قدمي أمي ومنعنني من الاقتراب منها، راحت إحدى النسوة تشق السمك وأخرى توقد التنور ورأيت أبي يتنقل بينهن حائر قليل الحيلة في هذا الحشد من النساء، وهو الذي كان قبلها الآمر الناهي.

علمت أن ديننا المندائي يحرم لمس المولود الجديد وأمه وأغراضهم قبل سبعة أيام، وقبل ان يغتسلوا في ماء النهر. لذا بقيت اتحرق شوقا لضم أمي والطفلة الصغيرة طيلة تلك الايام.

ولدت أنا في مدينة (الكحلاء) والتي غفت في مكان قصيّ من ريف مدينة (العمارة) الشرقي، مجاورة للهور، وكانت تفخر بمدرستها الابتدائية فقد كانت المدارس نادرة في أيامنا. أضطررنا لترك تلك المدينة الجميلة الوادعة بعد أن أنهيت كل صفوف مدرستها الستة بتفوق. انتقلنا إلى مدينة العمارة لأحصل على دراسة أعلى حسب رغبة أبي الذي أصر على أن أنهي تعليمي كمعلم.

بنى العثمانيون سوقا مسقفا طويلا في مدينة العمارة موازيا لشارعها الرئيسي، ليمتد من النهر إلى النهر فالمدينة محاطة بالانهار من كل صوب.

عندما تدخل السوق من جهة الكورنيش تستقبلك المخازن الحديثة ببضائعها المستوردة من مملكة بريطانيا العظمى أو من الهند، وكلما تتوغل في السوق إلى الداخل تتبدل الحوانيت وتتبدل مناشئ البضائع فيها، وكذلك تتبدل جودتها أيضا حتى ينقشع السقف من فوق رأسك ليتركك تحت رحمة المطر شتاء، أو تحرق رأسك أشعة الشمس صيفا، وهناك ستجد سوق الخضار قد افترش الأرض ورائحة السمك تزكم الأنوف، وأصوات مطارق الحدادين تصم الاذان.

لو تابعت سيرك بين تلك الدكاكين البائسة التي انتشرت من جهتي السوق ستجد الدكان الذي اختاره أبي في سوق المدينة ليزاول عمل الحدادة فيه.

كان أبي حينها حدادا طويل القامة بارز العضلات كث اللحية اصلع الرأس، اسودت جبهته ويديه من سخام فحم القصب، فلم يعد يرى من سماره الحنطي الجميل شيئا.

كنت أرى أبي يقف أمام سندان ضخم لا أظن أن أربعة رجال قادرين على حمله، لذا كان يتركه ليلا في السوق وهو مطمئن، أما مطارقه التي يتركها ليلا في جردل من الماء، فلا أعرف من أين حصل عليها ولكنه كان يعتني بها كثيرا.

كنت أذهب إليه كل يوم بعد المدرسة، فدكانه يقع في الطريق إلى بيتنا، فيلاقيني باسما ويحمل حقيبتي بيده اليسرى، وهي عبارة عن كيس من القماش خاطته لي أمي لأحشر فيه كتبي وأقلامي وشيئا يمكن تناوله أثناء الفرصة لسد الجوع.

بعد أن أنهي دروسي أعود كل يوم مسرعا إليه فنغلق الدكان سوية ونسرع لتناول الغداء في البيت، والذي يكون في العادة السمك المشوى والخبز والبصل الاحمر.

كان عودة وهو أبي طبعا يحبني جدا ويرى فيّ مستقبلا عظيما، ويردد دائما أمام الجميع بأنني سأرفع رأسه، ولم أفقه حينها لماذا يحرص أبي على أن أرفع رأسه، ولا أعرف كيف ولماذا، فقد كنت أسمعه يقول لأصحابه مشيرا إليّ (مهدي) هذا هو سندي ورفعة راسي، وقد أدخلني في المدرسة المتوسطة في المدينة وظل يتابع يوميا تقدمي في الدروس حتى عندما كبرت والتحقت بمعهد إعداد المعلمين، لم ينفك من متابعة تقدمي في دروسي، إلى أن تخرجت من المعهد، وعندها راح يجند كل معارفه من المندائيين وغيرهم في تعييني في إحدى مدارس العمارة، لأكون قريبا منه، وقد تم ذلك فعلا ورحت أعمل في سلك التعليم في المدينة.

حياة الناس كانت صعبة جدا في تلك الحقبة، وخاصة الفلاحين منهم. كنت أتعاطف معهم، وكان العديد من أقراني يفعلون ذلك، وانتشرت بيننا أفكار تدعو إلى رفع الظلم عن هؤلاء الناس، والعمل على إسعادهم، وتحريرهم من بؤسهم ومن ظلم الأقطاع.

لم تدم فرحة أبي بي طويلا، فقد اعتنقت الافكار الماركسية بعد أن وجدت فيها الحل الأمثل لحل مشاكل الشعب، وأنخرطت في صفوف المناضلين من أجل قضيتنا العادلة، فأنتميت بقناعة للحزب الشيوعي الذي كان نشطا جدا في مدينة العمارة، خاصة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وانتصر فيها الأتحاد السوفياتي على الهتلرية.

رحت أبشر بأفكار الحزب بين الطلبة والمعلمين، بشكل نشط وبدون تحفظ.

لم تكن أجهزة الأمن بغافلة عن أي نشاط يضر بسياسة الدولة المعادية للأفكار التقدمية، ورأت في تلك الأفكار خطر يهددها، ويهدد مصالح شركات النفط التي راحت ترسم سياسة الدولة العراقية حسب مصالحها.
طردت من سلك التعليم بعد سنة واحدة فقط من عملي فيه، وفي تلك السنة التي كنت أشتغل فيها معلما، تبدلت أحوالنا في البيت بشكل جذري، فقد ترك أبي العمل بالحدادة بعد أن اعتمد على مرتبي الذي كنت أتقاضاه كل شهر وبعد أن ساءت صحته.

راحت العائلة تقاسي من الفقر بعد أن إنقطع عنها المرتب الذي كنت أعطيه إليهم كله رغم شحته.

لم اجد بدا من البحث عن أي عمل آخر يمكن أن يدر عليهم ما يسدون به رمقهم، وخاصة بعد أن عجز أبي وشاخ دفعة واحدة، ولم يعد يقوى على رفع مطارقه.

لم يجد أبي عندي رغبة وصبر على عمل الحدادة، فباع دكانه بعدته لحداد آخر وأخذنا نقتات على تلك النقود لحين حصولي على عمل.

زارنا في العمارة قريبنا (سام) وهو من أقراني وكان في طريقه إلى بغداد.

كان سام يعمل في شركة نفط البصرة فنصحني بتقديم طلب للعمل في الشركة، وساعدني في كتابة استمارة طلب العمل هذه، ونصحني أن لا أذكر شيئا عن فصلي من الخدمة في التعليم ولا شيئا عن أسباب الفصل.

سافرت إلى البصرة لتقديم طلب العمل، وهناك حصلت على فرصة عمل في قسم الحدادة "براد ميكانيكي" في شركة النفط، وارسلت للعمل في محطة كي ثري.

في طريقي إلى هناك مررت بالعمارة وودعت أهلي وأخذت بعض أغراضي الضرورية، وكان وداعا حزينا مؤلما فلم تفارق الدموع عيون أمي وأبي، أما أختي نجاة والتي راحت تكبر بسرعة فقد التصقت بي ولم تتركني إلا بعد أن راحت تجرها أمي بقوة.

انطلقنا بباص خشبي كبير من العمارة إلى بغداد، لقد كانت الطريق إلى هناك خطرة غير معبدة فعندما وصلنا بغداد كان التراب يغطي وجوهنا.

لم أزر بغداد من قبل وحين وصولنا إليها متعبين تفرق المسافرون كل إلى وجهته، ولم تكن لي وجهة أو أحد في بغداد لأزوره، فبقيت في محطة الباصات ونمت ليلتي على الأرض هناك.
في صباح اليوم التالي أرشدني أحد العاملين في تلك المحطة إلى السيارات التي تذهب إلى مدينة حديثه فركبت سيارة متوجهة إلى هناك، وكانت معاناة الطريق ذاتها ولم يتبدل فيها غير تراب الطريق الذي إنقلب رملا أخذ يترك أثرا في الوجوه.

وفي مدينة (حديثة) التي وصلتها ليلا قصدت مكتب الشركة في المدينة، ولكنني لم اجرأ على طرق بابه المغلق فقضيت ليلتي على الارض أيضا أمامه.

في صباح اليوم التالي أرسلت في السيارة المخصصة للمحطة إلى موقع عملي الجديد في قلب الصحراء.
بنت شركات النفط محطات ضخ كبيرة لها في (كي 1 في كركوك، وكي 2 في منطقة الفتحة، والمحطة الاكبر كانت في كي 3 قرب مدينة حديثة في الصحراء الغربية).

بعد محطة (ك3) يتفرع خطان من انابيب نقل النفط الخام، واحد عبر الاردن إلى ميناء حيفا في فلسطين، والاخر عبر سوريا إلى ميناء طرابلس في لبنان.

وهنا في محطة (كي ثري) وسط الصحراء، والتي وصلت إليها بصعوبة ستدور أحداث لم أكن أتخيلها.

قبل كل شيء أعرفكم بنفسي، أنا اسمي مهدي واسم أبي عودة واسم جدي والي أما أختي فأسمها نجاة ونحن ننحدر من عائلة (مندائية) فقيرة، أما ما هي المندائية؟ فهي ديانة توحيدية قديمة جدا، ولست هنا بصدد تعريفكم بها ولكنها كانت وما تزال مضطهدة من محيطها المسلم. لم أكن متخصصا بصناعة النفط ولا بنقله، ولا لي علاقة بتلك (النعمة) التي ابتلى بها العراقيون، فلم تتلوث يداي بلونه الاسود أو برائحته الكريهة قبل اليوم.

لم أنتمي للطبقة العاملة من قبل، ولا إلى الصحراء الغربية، فأنا بعيد جدا عن تلك الصحراء وعن لهجتها وتقاليدها البدوية، وكنت أسمع بها فقط ولكن للأقدار أحكامها.

بنت شركة النفط هناك في المحطة بيوتا صغيرة (كرفانات) لعمالها في تلك المنطقة الصحراوية النائية، وللمتزوجين منهم كانت البيوت أوسع قليلا، أما المهندسين والعاملين في الأدارة فبيوتهم بنيت من الحجر وأحيطت بحدائق عامرة، وراحت اشجارها العالية تدافع ببسالة عن ساكني تلك الدور أمام العواصف الرملية المتكررة، وكان أغلب العمال غير الحرفيين يأتون من مناطق مجاورة للمحطة، من الحقلانية وحديثة وهيت وغيرها، أما الحرفيين منهم فقد كانوا خليطا جاءوا من مدن عدة ومن أجناس مختلفة مثلي يمتلكون مهارات تؤلهم للعمل في المجالات الفنية في المحطة.

رتبت إقامتي في (بيتي) الجديد مستعينا بمقلاة من هنا وقدرا من هناك، وأخذت اتأقلم في عيشي الجديد، ساعدتني كثيرا تربية (عودة) لي بالصبر وحب الناس، ودماثة الخلق التي اكتسبتها من أمي وثقافتي التي كنت حريصا جدا على توسيعها، منحتني فرصة كسب الكثير من الاصدقاء، وأصبحت وبسرعة صديقا محبوبا من قبل أغلب العمال. لم أتوانى عن مساعدة الآخرين وبطيبة خاطر سواء في عملهم أو في أمورهم الحياتية، والبسمة لم تفارق شفتاي في أحلك الظروف وكل ذلك نعمة من الخالق ومن البيت الذي تربيت فيه.

لم يكن الحزب الشيوعي العراقي بعيدا عن ذلك التجمع العمالي الضخم، فالمحطة كانت تضم ما يزيد على ثلاثة الاف عامل.
إنتضمت في اللجنة القيادية للتنظيم فور وصولي وبتوصية من المركز، ورحت أمارس نشاطي الحزبي بهمة وإبداع، حتى أصبحت قائد التنظيم هناك.

بعد وثبة كانون عام 1948 أخذ المد الجماهيري يتسع بشكل غير مسبوق، وفي المقابل أصبح القمع البوليسي أكثر شراسة ولم يشهد الشارع العراقي مثله من قبل.

ازدادت إضرابات العمال في تلك الحقبة مطالبة بزيادة رواتبهم وتحسين ظروف عملهم القاسية، ولم تشذ محطة (كي ثري) عن هذا النشاط العمالي.

رحنا نحّضر العمال في المحطة للإضراب عن العمل في حالة عدم تلبية الشركة لمطالبنا التي إنحصرت بزيادة رواتبنا وتحسين ظروف عيشنا في تلك الصحراء القاحلة، ولكن الشركة لم تستجب لمطالبنا، وادّعت بداية أن وفدنا المفاوض لها لا يمثل العمال، وعندها قمنا بتجمع كبير للعمال أصدر قرارا بأن الوفد المفاوض يتكون مني ومن كاظم عبد الرضا النجفي وباركيف سركيس، واسطيفان ستركيان، وكنت مخولا بالتحدث باسم الجميع.

بدلا من تعاون إدارة الشركة معنا في تلبية مطالبنا وايجاد حلول وسطية استعانت بالاجهزة الامنية لقمع الاضراب، وبدأت لعبة الكر والفر.
راحت الاجهزة الامنية تبحث عن حجة لتضرب العمال، ولكن قيادة التنظيم في المحطة عملت جاهدة في تحاشى تحرشات الشرطة.

وضعت لجنة الاضراب مجموعات عمالية لحراسة المحطة ومكائنها حفاظا عليها من التخريب، ولكي لا نعطي حجة للشرطة بضربنا بالنار، وكذلك راحت لجنة الاضراب تمّشي دوريات لحراسة بيوت العمال وغيرها من الاماكن الحيوية، ثم سيطرنا على مفاتيح الضخ ومحطة الوقود التي تزوّد السيارات في البلدة بالبنزين، فأسقط بيد الشرطة ولم تجد حجة لإطلاق النار على العمال وخضعت للأمر الواقع.

بعد أن فشلت كل محاولات التوصل لحلولٍ وسط تلبي الحد الادنى من حقوق العمال بسبب تعنت إدارة الشركة وإصرارها على إنهاء الاضراب بالقوة، استعانت بالشرطة السيارة.

قطعت الشركة عن عمالنا المضربين الطعام والماء وغيرها من وسائل العيش، فشكلنا لجان سيطرت على ما توفر منها وراحت تقسمه بين العمال بشكل مدروس، حتى أن رفاقي أطلقوا اسم (كومونة شنور) (ربما تيمنا بكومونة باريس التي قرأنا عنها الكثير وكانت ملهمة لأفكارنا التحررية) على تلك اللجان.

لا تستغربوا فشنور هو أنا ولا أعرف أول من أطلق هذه التسمية والتي انتشرت بسرعة بين الجميع حتى اختفى اسمي مهدي وراح الجميع يطلقون عليّ اسم شنور عودة. أما موظفو الشركة فراحوا يسمونها (حكومة شنور)!

فشلت كل محاولاتنا مع الشركة في إنهاء الاضراب بشكل عادل، وامام إصرار العمال على تحقيق الحد الأدنى من مطالبهم وبفضل حسن تنظيمهم، فشلت كل خطط الشركة بإنها الاضراب، حتى بعد أن لجأت الشركة لقطع إمدادات المواد الغذائية، عندها بادر العمال في السيطرة على المحطة بالكامل.

كان العاملون الانكليز في المحطة يطلبون البنزين لسياراتهم من (حكومة شنور) بطلب تحريري موقع مني شخصيا إلى العامل المسؤول عن المحطة، فقد أشرفت شخصيا على محطة البانزين، وأمرت بأن لا يصرف لتر واحد منه إلا بموافقتي.

جاءني رئيس المهندسين (بريطاني الجنسية) طالبا تزويده بثلاثين لترا من البانزين، لأنه وعد أولاده بسفرة صيد سمك في نهر الفرات، فدار حديث بيننا عن مشروعية الاضراب وعن معاناة أطفال العمال من قلة المواد الغذائية وخاصة الحليب، وعن المعاناة الإنسانية التي يعانيها العمال وعائلاتهم وسط هذا الحر وخاصة بعد أن قطعت الشركة الكهرباء والماء عنهم، وهل يهتم الفرد البريطاني بمعاناة الناس هنا، تعاطف الرجل معنا ووعد بالعمل على زيادة حصة المواد الغذائية وأصبح البانزين محط مساومة بيننا وبين موظفي الشركة، فوفرنا حصص غذائية إضافية كثيرة كنا بأمس الحاجة لها.

بعد أن تجاهلت إدارة الشركة كل مطالبنا وبعد أربعة عشر يوما من الاضراب جاءت قوة مسلحة من الشرطة صبيحة الخامس من أيار 1948 ونصبت رشاشاتها في المناطق المهمة بالقرب من مساكن العمال، وقطعت عنهم الماء والكهرباء كليا، وظلت الشركة على تعنتها في عدم إيجاد صيغة لحلحلة الوضع رغم تكبدها الخسائر الكبيرة بعد توقف ضخ النفط تماما، فقد كلف الاضراب الشركة 75 الف ساعة عمل.

بعد أن قطعت الشركة عنا كل وسائل العيش التي كانت تحت اشرافها، وخوفا من تدهور الوضع المعيشي للعمال، وخوفا على حياتهم اقترحت على لجنة الاضراب بأن نقوم بمسيرة إلى العاصمة بغداد حاملين معنا مطالبنا العادلة عسى أن تتدخل الحكومة المركزية في العاصمة في تلبية مطالبنا، وربما حصلنا على دعم من شرائح الشعب الاخرى في العاصمة والمدن الأخرى.

بغداد تبعد 249 كم عن المحطة، وأغلب الطريق صحراوي ورماله حارقة ولا توجد مصادر للمياه قريبة من خط سيرنا إلى العاصمة.

كانت الفكرة مغامرة بحد ذاتها، ترى كيف ستقنع الآف العمال بخوضها؟ رحت أقنع الرفاق في اللجنة مسترشدا بمسيرة الصين العظمى، ورحت أشرح لهم كيف أن مئة ألف مقاتل صيني ساروا في بداية الثلاثينيات وقطعوا ثمانية الآف ميل في ظرف سنة، ورغم تضحياتهم الجسيمة لكنهم حققوا هدفهم.
كانت مسألة أن يخرج العمال (بخفي حنين) مع الشركة من دون أن يحققوا شيئا من مطالبهم تعد نكسة لنضالنا العادل، ناهيك عن الأجراءات الانتقامية التي ستطبقها الشركة ودوائر الامن على أنشط العمال.

أقامت لجنة الاضراب اجتماعا كبيرا للعمال وراحت تناقش معهم فكرة المسيرة ومدى استعدادهم لتحمل مشاقها، فسيطر الحماس على العمال وراحت الهوسات تصدح على الطريقة العراقية، واستعد الجميع لذلك فالمتزوجون أرسلوا عوائلهم لأهلهم في القرى القريبة وتزودا بما ينفعهم بمسيرتهم، وانطلقت مسيرتنا إلى بغداد تعلوها الهتافات الحماسية .

بدأت مسيرتنا فجر الثاني عشر من أيار عام 1948 وكنت في المقدمة على رأس المسيرة أسير تحت شعار كبير من القماش خط عليه (نحن عمال النفط جئنا نعلن عن انتهاك حقوقنا).

واصلنا سيرنا بحماس ورمال الصحراء من تحتنا تلتهب وكأننا نسير على درب من الجمر. وصلنا بمشقة إلى وادي (حوران)، أي أننا قطعنا في يومنا الأول مسافة 24 كم، ووادي حوران يبعد عن مدينة البغدادي مسافة 6 كم فقط ولكن أغلب العمال انهاروا من التعب وحتى أن بعضهم قد فقد الوعي.

لم يعد من الممكن مواصلة السير فشكلنا وفدا من القادرين على السير، وبعثنا بهم إلى مدينة هيت القريبة لطلب النجدة.

بعد ساعات جاءنا دعم جدي من أهالي مدينة هيت، حيث بعثوا لنا بعض وسائل النقل المتوفر في المدينة مع صهريج لنقل الماء وبعض الأغذية.

ارسلنا مع وسائل النقل تلك ، العمال غير القادرين على المسير وواصل الباقون مسيرهم إلى مدينة هيت، حيث وصلناها عند الفجر فقضى العديد من العمال ليلتهم في مساجد المدينة وفي أزقتها، وفضل آخرون النوم خارج المدينة فوق رمال الصحراء.

واصلنا مسيرتنا يوم 13 من هيت سيرا على الاقدام بعد أن منعت السلطات هناك وسائل النقل من نقل العمال، وبعد أن تعبنا إلى حدّ الأنهاك التجأنا إلى عرب (المحمدي) وكنا في ضيافتهم، فاستقبلونا بالاهازيج وباطلاق العيارات النارية في الفضاء ترحيبا بنا.

بعد أن ارتاح العمال المتعبون واصلنا السير ليلا وكنا ننام فوق رمال الصحراء وسط ظلام دامس حتى قطعنا مسافة 118 كم ولم يبقى لنا سوى كيلومتر واحد عن مدينة الرمادي في موقع (الورار).

بغداد أصبحت قريبة فلم يبقى من الطريق سوى نصفه تقريبا 126كم. قطعنا نهر الفرات سباحة أو بوسائل بدائية وكانت تلك عقبة كبيرة كون نهر الفرات عريض في ذلك المكان وأغلب العمال متعبين ولكننا اجتزنا تلك العقبة دون حوادث جدية.

رحب أهالي الرمادي بنا كثيرا ونحرت الذبائح و وفروا لنا شاحنات لتنقلنا إلى بغداد. فانتظم عمالنا بالشاحنات التي وفرها لنا الناس وانطلقنا إلى بغداد.

كان موقف الشرطة في الرمادي يثير الحيرة فلم يعترضنا أحد هناك، ولكن عند وصولنا إلى جسر الفلوجة وقعنا في فخ نصبته لنا الشرطة بعناية وراحت تضرب العمال بكل عنف.

اعتقلت الشرطة المجهزة بالاسلحة والبنادق والرشاشات العديد من قادة المسيرة وفرقت الآخرين دون السماح لهم في دخول بغداد، وهكذا تفرق العمال دون تحقيق مطالبهم .

أعتقلت أنا وغيري من قادة المسيرة وأحالونا للمجلس العرفي العسكري ثم سجنا لسنين عدة بعد أن طردونا من العمل.

أنهيت مدة محكوميتي ورحت بعدها امارس مهنة أجدادي (الصياغة) في بغداد في محلة (باب الشيخ)، ساعدتني أختي نجاة كثيرا فيها بعد أن تيتمت ولم يعد لها غيري، ولكن مضايقات الشرطة لي لم تنتهي، واعتقلت مرة أخرى بتهمة ملفقة، ثم أطلق سراحي من جديد. فانتقلت مع أختي إلى مدينة الخالص للعمل فيها ولنكن بعيدين عن أعين الشرطة.

في عام 1962 عدنا إلى بغداد لأقترن بإحدى قريباتي وأظل فيها حتى انقلاب شباط 1963 حيث جاء حزب البعث إلى السلطة وأطلقوا أفراد (الحرس القومي) في قتل الشيوعيين فلم أنجو من غضبهم بل نقلت موقوفا إلى مدينة الخالص، وقد تركت زوجتي حاملا بشهرها الخامس مع أختي ولا أعرف ماذا سيجري بعدها فهذا قدري وتلك مشيئة الله كما يقولون!

كانت تلك مذكرات مهدي عودة والي (شنور) رواها لواحد من رفاقه المعتقلين معه في مدينة الخالص القريبة من بغداد في الليلة التي أخذ بعدها إلى مركز للتعذيب قبل أن يقتلوه.

أشرف أحد قادة حزب البعث شخصيا على تعذيب شنور عودة بطريقة وحشية جنونية لم يعذب بها أحد من قبله على مدى تاريخ العراق القديم والحديث، فقد وضعوه وسط ساحة أمام رفاقه وراحوا ينفخون بطنه من دبره بمنفاخ كربائي يستخدم في نفخ إطارات السيارات حتى انفجرت بطنه، وكان معذبوه يرقصون فوق جثمانه بفرح مجنون، وهكذا انطوت صفحة نضال مميز لشاب مسالم أحب الناس أحب شعبه بكل صدق.

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter