|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  13  / 3 / 2016                                 عبدالآله السباهي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

السلة الملغمة

عبدالآله السباهي
(موقع الناس)

الآن وأنا أكتب هذه السطور، عادت بي الذاكرة لبداية الخمسينيات من القرن الماضي، إنها أيام المراهقة الأولى، لقد علا بعض الزغب ذقني وبدت ملامح شوارب عذراء لم يقربها الموس بعد، ترى كيف يمكن لأي فكر سياسي وحتى ديني أن ينتصر وهو يجند الصغار ويسرق عقولهم قبل ان تنضج ليزج بهم بمهمات غير محمودة العواقب، أو يعلمهم اللطم والنواح على ماضي ولىّ وليس على حب الحياة والإبداع؟

كان صبيح بعمرٍ مبكرة جدا قد احترف العمل الحزبي واصبح يشغل مراكز قيادية فيه !

بعد عودتي من سفرتي الأولى إلى البصرة بفترة قصيرة قصدني أخي صبيح والذي يكبرني بثلاث سنين فقط أي أنه لم يكمل سن الرشد بعد أو في بدايته، والذي حددوه بثمانية عشر عاما، أما لماذا 18 عشر ليس قبلها أو بعدها فتلك أحجية لم أدركها إلى اليوم؟ وطلب مني تنفيذ مهمة حزبية، وعلى عادته راح ينفخ في أوداجي حتى رحت أرى نفسي بأنني سأغدو من الخالدين، ربما سبارتكوس أو ماو تسي تونغ ! فأصبحت مستعدا لتنفيذ اي مهمة، والحمد لله لم تكن في تلك الأيام مهام إنتحارية فالحياة جميلة.

جاء موعد التنفيذ، أعطاني سلة محاكة من خوص النخيل (كوشر ، علاقه) وضعفت في اسفلها رزمة كبيرة من المناشير الحزبية ولا أعرف ما جاء فيها حتى، ثم خيطت فوقها قطعة من القماش الأبيض وضع فوقها كيس من الحلويات ولعب أطفال واشياء أخرى صغيرة لم أعد أتذكرها. ووضع في جيبي بطاقة قطار إلى مدينة البصرة وبضعة دنانير، وعنوان سأقصده في البصرة لأسلم لأهله سلة الخوص بمحتوياتها وأجلب معي رجلا عجوزا وابنته الشابة. وتوصية بأن أشتري لهما بطاقتي سفر إلى بغداد لأوصلهما إلى(الحزب)! وأن لا أبخل عليهم إن أرادوا شيئا، أمرت بأن ألبس ملابس رثة كي أبعد الشك عني وكأنني أملك ثياب أخرى غير رثة !

ركبت القطار النازل إلى البصرة ومعي سلتي (الملغمةّ) وكأنني أقوم بمغامرة من مغامرات "ارسين لوبين" أو إحدى مغامرات أجاثا كرستي وغيرها من القصص التي كانت تباع باسعار زهيدة جدا على أرصفة بغداد، وخاصة في سوق السراي، والتي كنت أقرأها بنهم. ولكن مغامرتي تلك مرّت مع الأسف دون أية أحداث مثيرة، فلا دورية شرطة اعترضت طريقي ولا طاردني رجال الامن فوصلت البصرة ظهرا دون منغصات، ونزلت من القطار وسلتي على كتفي.

ركبت الحافلة الخشبية الذاهبة من محطة القطار في المعقل إلى العشار، وأبقيت سلتي قريبة مني حيث سأنزل من الحافلة في منتصف الطريق في منطقة الجبيلة، وبالضبط في الشارع المؤدي إلى ضريح (مقام) سيد طاهر بن علي.

أوقفت الحافلة في مكان تنطبق عليه الأوصاف التي أعطوها لي في بغداد، فنزلت من الحافلة ومعي سلتي.

انطلقت السيارة فأصبحت وحيدا في شارع مقفر. سلكت دربا ترابية بين البساتين ورحت أسير قلقاً من أن تصادفني الكلاب الشرسة التي قد تنقض عليّ في أية دقيقة كما كنت أتخيل، ولكن القلق المهم كان هو هل إنني سلكت الطريق الصحيح، ثم ألم يتبعني أحداً من رجال الأمن؟

سرت وحيد حوالي عشرين دقيقة في ذلك الدرب المقطوع بين بساتين النخيل وأنا بين الشك واليقين.

لم أصادف أحدا على الطريق فراح اليأس يكبر في ذهني، ترى إن لم أهتدي إلى المكان المطلوب كيف سأتصرف، هل أذهب إلى المدينة مع هذه السلة الملغمّة، أم أرميها في البساتين وأعود أدراجي خائبا ؟ وأخيرا التقيت بشيخ وسيم الطلعة وهو في نوبة سعال حادة، تركته ليفرغ منها، فرحت أسأله وكأنني أتوسل به عن البيت الذي أقصده، فكان جوابه أنه هو الشخص المطلوب، رحب بي كثيرا واقتادني إلى كوخ صغير بني من القصب قرب ساقية تشق طريقها بصعوبة بين أحراش السوس وأنا غير مصدق، وعشت لحظات بين الشك واليقين .

اقتادني الرجل إلى داخل الكوخ، وهناك تحررت من حمولتي الخطرة ووضعتها في ركن من أركان االكوخ وتنفست الصعداء.
راح الرجل ينادي على ابنته التي كانت منشغلة بإيقاد النار في مكان قريب من الكوخ وعندها فقط انزاح الشك عن قلبي.

جاءت إلى الكوخ الذي جلست في إحدى زواياه، فتاة ممشوقة القامة، تحزمت بعباءة قديمة اسمرت من كثرة الاستعمال. كانت الفتاة سمراء حنطية البشرة رائعة الجمال ناهدة الصدر تعلو شفاهها بسمة ساحرة.

نهضت لها لأحييها فحيتني بجرأة ومدت يدها مصافحة وقد تفاجأت بتلك الحركة فلم تكن البنات في ذلك الزمان على تلك الجرأة لتصافح غريبا يدا بيد، ثم ترك الضيف الذي هو أنا طبعا واتجهت مباشرة ألى سلة المناشير المركونة قريبا مني ففتحتها وأخذت واحدا منها وانشغلت به.

صاح أبوها مذكرا الفتاة بأن الضيف متعب من السفر وربما هو جائع أيضا، وإنها ستجد وقتا للقراءة فالسلة لا تطير !.
راحت الفتاة تعتذر وهبّت لتجلب لي شيئا أشربه. بعد أن شربت قليلا من الماء الفاتر رحت أشرح لهم المهمة التي جئت من أجلها، وهي أخذهم معي إلى بغداد.

بدا التذمر على وجه العجوز ولكن الفرحة قد غمرت الفتاة ولسان حالها يقول لننطلق حالا.
تركتهما منشغلان بالسلة وبأمورهما الأخرى ورحت في قيلولة لم أفق منها إلا والشمس كانت تهرول لأفقها الغربي تاركة ظلال النخيل تشتبك بعضها ببعض لترسم جدرانا سوداء.

انطلقت أسراب البعوض تعض الاجسام بشراهة، ربما لو تركت لافترستنا جميعا لولا الدخان الذي راح يطهر الكوخ الصغير من أسرابها.

فرشت الفتاة لي حصيرا نسج من سعف النخيل وجلبت لنا بضعة أرغفة خبز احترق بعضها على النار وقدرا من اللبن وبيضات شويت على ذلك الموقد، ثم راح الفانوس النفطي ينير الكوخ بكفاءة بعد أن خيمت العتمة في المكان.

أنهينا عشاءنا على عجل فقد أعتادوا هنا على النوم مبكرا وكنت متعبا من السفر رغم القيلولة القلقة، فجاريتهم في ذلك ونمت مبكرا على غير عادتي.

مدت لنا الفتاة بساطا فوق تلك الحصيرة بعد أن أبعدت ما تبقى من المائدة ووضعت لنا وسائد من الصوف وتمددت هي في الركن الشمالي من الكوخ وتمدد بجنبها أباها في الوسط بيني وبينها.

بعد بضع سعلات راح الأب يشخر. لم يقترب النوم من عيوني فرحت أحصي أنفاس الفتاة وهي تتقلب قريبا مني، حتى اقترب الفجر عندها فقط أطبقت أجفاني دون إرادة مني وأخذت غفوة صحيت منها بعد أن صحى الجميع قبلي، وبعد أن راحت الشمس تطهّر المكان من بقايا الظلام.

لقد أفاقت الفتاة فجرا بكل نشاط وحملت سلة المناشير وذهبت بها إلى مكان أجهله، وبعد أن عادت راحت تحضر لنا الفطور، ولا أعرف من أين أتت بقدر من الحليب الطازج وخبز طازج أيضا وهكذا كان أفطرنا حليبا وبيض مشوي وخبز طازج.

قامت الفتاة تلملم كل شيء بسرعة وقد أوصت على من يشغل الكوخ بعد سفرهم وان يعتني بدجاجاتها، فهذا الكوخ ربما كان وكراً من أوكار الحزب استخدم ليختفي به المطاردون ولتحفظ فيه أدبياتهم الممنوعة.

انطلقنا ثلاثتنا بعد الظهر بعد أن لملموا كل شيء في الكوخ وكنست أرضيته وانطلقنا قاصدين الشارع الرئيسي بانتظار الحافلة الخشبية لتقلنا إلى محطة القطار. طال انتظارنا هناك فكل الحافلات كانت تأتي مملؤة بالركاب فلا تتوقف لنا، وأخيرا توقفت لنا واحدة وحشرنا فيها حشرا. ورغم هذا الانتظار وصلنا إلى محطة القطار مبكرا، فأسرعت أنا لشراء تذاكر لنا جميعا وشيء يصلح متاعاً للسفر، بضعة أرغفة وشيء من الخضار أخفته الحسناء في صرة كانت تحملها معها، وصعدنا إلى إحدى العربات بعد أن تأكدت إنه هو القطار الذي سيذهب بنا إلى بغداد.

لا يزال الوقت مبكرا فكنا أول من يصعد لتلك العربة، وهكذا اخترنا مكانا مناسبا عند باب العربة، أجلستني الفتاة جنبها وأجلست العجوز مقابلا لنا ففرحت بذلك، وراحت فتاتنا تتحكم بنا ونحن نطاوعها في كل شيء. أشارت إليّ أن أضع في يد أبيها نقودا ليشتري له علبة سكائر ويشرب الشاي في المحطة، فوضعت في يده ربع دينار وكان ذلك مبلغا كبيرا في الخمسينيات، فقد كانت الأجرة التي أتقاضاها ليوم عمل كامل لا تتعدى المئة فلسا. فرح الرجل بالنقود ونزل من العربة بعد أن أوصته ابنته بأن لا يذهب بعيدا ولا يطيل غيابه.

بعد أن نزل الأب من العربة راحت الفتاة تتفرس بي وكأنها تراني لأول مرة، وراحت تسألني عن بغداد، وهل أن ملابسها ملائمة، فرحت أتطلع إلى ملابسها بعد أن أزاحت العباءة من على صدرها الساحر.

أخذت أنظر لها فاغرا فمي مذهولا بذلك الجمال المميز وبتلك النهود الثائرة فتجاسرت ومددت يدا مرتجفة إلى صدرها مزيحا خيطا غليظا من الصوف علق هناك، فابتسمت لي بعد أن رأت نظرتي المفترسة وأعادت العباءة إلى سابق عهدها تحجب ذلك الأبداع الرباني شاكرة بشيء من الغنج يعد بساعات مميزة.

جاء الأب مسرعا كما أوصته ابنته وجلس في مقعده بعد أن أخذ المسافرون يدخلون العربة والعربات الأخرى، ولكن الزحام لم يكن شديدا، وظلت العديد من المقاعد فارغة وبذلك أخذ الأب راحته لا أحد يضايقه فرحا بعلبة سكائر (تركي) كان يحلم بها بعد أن تعب من تدخين سجاير (المزبّن و اللفّ).

حان موعد انطلاق القطار فراح ينفث دخانا ممزوجا ببخار الماء مع صفير يصم الأذن وأخذ يسير ببطئ في البداية ثم راح يطوي الأرض مسرعا وكان الوقت عصرا.

ظل القطار يطوي المسافات وأنا ملتصقا برفيقة دربي دون مبرر حتى وصلنا إلى مدينة السماوة بعد منتصف الليل. لم ننزل في تلك المحطة خوفا من أن نفترق وبقينا في أماكننا، ومن "الصرة التي مع الفتاة" أخرجت ثلاثة أرغفة من الخبز وبضع حبات من الطماطة وبعض القثاء فرحنا نسد الجوع بها.

انطلق القطار من جديد وراح الركاب يتمددون كيفما اتفق على مساطب العربة أو على أكتاف بعضهم البعض بعد أن أخذ النعاس يدب في العيون والتعب بدا باديا على الجميع.

تركت رأسي بحضن رفيقتي بعد أن غطتني بعباءتها وتظاهرت بالنوم وكل منا راح يحتضن الرغبة الجامحة قبل أن يحتضن الجسد وهكذا مضت الساعات المتبقية من تلك الليلة "الخالدة"

وفي محطة "المحاويل" القريبة من مدينة الحلة والتي وصلناها فجرا، أسرعت في النزول من العربة واشتريت صحنا من "القيمر مع ثلاثة أرغفة من الخبز الساخن وملأت كوبا كبيرا من الشاي بعد أن أضاف له البائع عدة ملاعق من السكر، وتسلقت العربة بعد أن تحرك القطار فوجدت الفتاة مذعورة ، وراحت تعنفني بقرصة قوية على فخذي ولكنني حسبتها مداعبة.

أكلنا القيمر والخبز بشهية وشربنا الشاي ثلاثتنا من قدح واحد وعيوننا محمرة من معاناة ليلة أمس.

بعد ساعات قليلة وصل القطار المحطة العالمية في بغداد وتهيأنا لمغادرة المحطة بعد أن توقف القطار تماما وراح الركاب يتزاحمون على مغادرة العربة. التقت عيني بعين الفتاة وبدا الاسف فيها على انتهاء الرحلة وكان وداعا صامتا.

عند الرصيف وجدت صبيح ينتظرنا بقلق فهرعت إلية مجرجرا "حمولتي" ورحت أعرفه بهم. وضعت في يده بقايا النقود دون أن يلتفت لمقدارها أو يحاسني عليها وانشغل بالترحيب بالفتاة وأبيها، أما الفتاة فقد تسمرت أمامه فقد كان صبيح وسيما للغاية فارع الطول وشوارب جميلة تزين وجهه.

انطلقت أنا مودعا ولكن لم يلتفت لي أحد وكأنني غريب بينهم، فذهبت إلى بيتنا في محلة "ابو دودو" ماشيا فعبرت جسر الملك فيصل الثاني قاطعا الدروب والأسواق، وهناك في البيت وجدت أما ينهشها القلق على غيابي .

سأترك تجاربي وسفراتي جانبا ، فهذه صفحات بائسة لا تسعها، وربما أدونها في كتاب إن أمتد بي العمر وأعود الآن لتجارب الآخرين.

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter