| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

أ.د. عبدالجبار منديل
Salal17@yahoo.com

 

 

 

الخميس 12/8/ 2010



المظاهرات السياسية في مدينة الديوانية
خلال عقد الخمسينات من القرن العشرين

(ذكريات شخصية )
(2)

أ.د. عبد الجبار منديل

لم تكن كل المظاهرات سياسية . بعضها كان يسعى الى ان يكون سياسيا ولكنها بالاساس ليست سياسية . من ذلك ما حدث مثلا في سنة 1953 او 1954عندما اعلنت السلطات انه سيتم تلقيح طلبة ثانوية الديوانية بلقاح مضاد لمرض السل الذي كان انذاك مرضا مستعصيا كما هو شان السرطان حاليا . كما انه كان منتشرا في كل انحاء العراق ولا سيما في الديوانية .
ازداد قلقنا نحن الطلبة عندما قيل ان من سيقوم بذلك هو النقطة الرابعة التي كانت مؤسسة امريكية لمساعدة البلدان النامية ولديها مقر في العراق . وراجت شائعات بان الدول الاستعمارية تسعى الى القضاء على شباب العراق . وقرر الطلبة الاضراب في ذلك اليوم . ويبدو ان خبر ذلك قد نما الى علم السلطات في اللواء (المحافظة) فاعلنوا عن الغاء موضوع التلقيح خشية من تطور الموضوع واستغلاله سياسيا ومع ذلك اضربنا ولم نحضر الى المدرسة . ولم تعاود الادارة الحديث عن موضوع اللقاح .
في احدى تينك السنتين (53و54) كان يجب على الطلبة كما تنص التعليمات التسجيل في بداية السنة الجديدة وذلك بملء استمارة مع دينار واحد رسوم وتقديمها الى مدير الثانوية من اجل تسجيل الطالب في السنة الجديدة وكان في حينه فراش المدير واسمه (موحي) يتصرف وكأنه هو المدير ولا يسمح للطالب بدخول غرفة المدير الا بعد جدال وبعد اخذ ورد واقتناعه بالسبب .في تلك السنة زاد موحي من تعنته وكان يرفق ذلك بالتهديدات بأن المدير الجديد سوف(يكسر روسنا) وسوف (يشوي البصل على اذاننا) وكان يردد ذلك على مسامع الطلبة عند دخولهم وخروجهم من غرفة المدير . وحدث نوع من الجو المرعب في المدرسة خوفا مما تاتي به تلك السنة من مصائب وويلات مع اني شخصيا لم المس من المدير الجديد ما يعزز كلام الفراش (موحي) . فقد كان رجلا وقورا هادئا بنظاراته الطبية الانيقة ولا يوحي بالصورة المرعبة التي صورها به موحي الذي بقي مصرا على اسلوبه بتهديد الطلبة وتخويفهم . وبذلك بدا جو الرعب يتصاعد مع مرور الايام الاولى من الدوام .
في الفترة التي تسبق بدء الدوام الفعلي ومباشرة القاء الدروس تكون عادة فترة فراغ كبير للطلبة المراهقين لا يجدون ما يشغلون به انفسهم سوى المزاح والتدافع والركض واحيانا الشجار .
في هذه الفترة بالذات تزايدت بشكل كبير كثافة الحوارات بين الطلبة حول الجو المرعب الذي خلقه المدير الجديد واسمه (محمد علي زوين) . وفي احدى تلك الايام اندلعت شرارة اللهب التي لا يعرف مصدرها . فقد دوت صرخة عالية بين مجموعة من الطلبة المجتمعين في الساحة على حين غرة بسقوط محمد على زوين وكان الجواب بالطبع ..يسقط.
ولست ادري هل حدث ذلك على اثر (كسر راس احد الطلبة )او (شوي البصل على اذنه). وبهذا تزايدت الاصوات المنادية بسقوط مدير المدرسة . واتسعت الشرارة لتصبح مثل كرة من اللهب التي اندلعت السنتها في كل زوايا المدرسة .وتحولت المدرسة كلها الى ميدان للصراخ والهتاف.
لم يعد بالامكان ضبط الطلبة او السيطرة عليهم . فكأنهم قد ركبهم الشيطان او ركبتهم الاف الشياطين . تطورت المسالة الى مظاهرات يومية وانقطع الدوام نهائيا ولم نر مدير المدرسة ولا مرة واحدة يطل على المظاهرات وكانه اختفى عن المدرسة . اصبحت المظاهرات لعبة الطلبة اليومية . وارتبكت سلطات المحافظة كلها . لا يعرفون ماذا يفعلون مع هؤلاء المتمردين . تم تعيين مدير جديد للمدرسة وكان من ضمن مدرسيها وهو (عبد الامير العميشي) وكان شخصا كيسا وطيبا ودمث الاخلاق وعلاقته جيدة مع الطلبة . ولكن ذلك لم ينفع في تهدئتهم . فمنذ اليوم الاول لاعلان تعيينه ارتفعت الهتافات (يسقط الكلب الحقير ...) وامام غرفة الادارة ...واستمرت المظاهرات .
بناية الثانوية تقع امام بناية المتصرفية (المحافظة) على الجهة الاخرى من شط الديوانية . وكانت بناية المتصرفية تضم بالاضافة الى ادارة المحافظة مديرية الشرطة والامن . وقد اصبح المسؤولين هناك يعيشون على انغام هتافات الطلبة الغاضبين الذين لايعرف سببا لغضبهم مع انه تمت الاستجابة لرغبتهم بتغيير المدير . وكان ذلك مازقا حقيقيا للقيادات الادارية في اللواء التي ركبتها الحيرة واوصلتها الى مرحلة العجز .
كانت الديوانية خلال سنوات العشرينات والثلاتينات والاربعينيات مكانا تفليديا للمتمردات العشائرية . ولكن خلال عقد الخمسينات وبعد ان اشتدت شوكة الذراع العسكرية والامنية للدولة العراقية تقلصت التمردات العشائرية . ولكن هاهم الطلبة يحلون محل اسلافهم ويغيرون قواعد اللعبة . فبعد ان كانت التمردات العشائرية تتم عادة في المناطق النائية من دون ان يسمع لها صوت هاهي التمردات الطلابية لمجموعة من (الزعاطيط) تتم في قلب المحافظة وامام اعين القادة الاداريين والعسكريين والامنيين الذين يعيشون صراخهم صباح مساء وهم عاجزين بلا حول ولا قوة .
تم نعطيل الدراسة عدة مرات ولكن ما ان يعود الدوام حتى يعود الطلبة الى لعبتهم المفضلة في التسقيط التي بدات بمدير المدرسة ووصلت الان الى نوري السعيد.
بعد ثلاثة اسابيع او اربعة من الفوضى تم تعيين المفتش الاقدم في التربية (عيسى الساجر) مديرا للمدرسة . واعلن انه سوف يجتمع بالطلبة . وعلى هذا وفي اليوم المحدد وفي الرواق الكائن امام غرفته وقف المدير الجديد ووقفنا جميعا امامه .
كان رجلا مهيب الطلعة وخطيبا مفوها وبدا انه على دراية بطبيعة المراهقين . بدا كلمته بالكلام عن الوطنية والوطن وعن ان خدمة الوطن تاتي عن طريق التفوق والدراسة وطلب العلم وليس عن طريق الصراخ والمظاهرات . ولكننا قابلنا كلامه بلا مبالاة ولم نعره اهتماما بعد ان شبعنا من مثل هذا الكلام .
بعد عدة دقائق من الحديث الذي لم يعجبنا وجه الينا سؤلا محددا قائلا ...ماذا تريدون ؟؟..ساد الصمت ... لم نكن نعرف حقا ماذا نريد . كرر سؤاله ... ماذا تريدون بالضبط حتى احقق مطلبكم. مرة اخرى صمتنا ونحن في حيرة من امرنا لعدم معرفة الجواب . احد الطلبة في الصفوف الخلفية همس قائلا ...نريد تنظيما طلابيا ...نريد اتحاد للطلبة . اجاب بسرعة ...موافق ..ولكن ذلك يحتاج الى انتخابات فليحضر كل طلبة المدرسة غدا الى قاعة المسرح في المدرسة لاجراء الانتخابات .
في اليوم التالي حضرنا في قاعة المسرح ولم يكن عدد الحضور يزيد عن (10ـ15) طالبا من مجموع (400). حضر المدير. وبعد ان تفحصنا قليلا . قال من يرشح نفسه كعضو في لجنة الاتحاد ؟! ...بعد صمت قصير رفع احد الطلبة يده قائلا ... انه يرشح نفسه . فالتفت المدير الينا قائلا من يزكيه ؟... لم نفهم معنى كلمة (يزكيه) .. ساد الصمت . كررها مرة اخرى . ولكننا بقينا صامتين . ويبدو انه ادرك اننا لم نفهم ففسر لنا ذلك قائلا يعني من يؤيد ترشيحه ؟ .. وهكذا تم اختيار اربعة او خمسة من الطلبة ليكونوا لجنة الاتحاد .
لا اعرف ماذا حل بلجنة الاتحاد ؟ وماذا فعلت ؟ ... وماذا انجزت ؟ فلم تلمس لهم نشاط معين . المهم ان الدوام عاد بشكل طبيعي . وتم حل المسألة بسهولة ويسر غير متوقعين بعد ذلك الضجيج الكبير .

بدأت المظاهرات بدون اسباب واضحة ... وانتهت بدون نتائج واضحة ولكننا اعتبرناها من ضمن النشاط الوطني !
 

 

- المظاهرات السياسية في مدينة الديوانية خلال عقد الخمسينات من القرن العشرين (1)
 

* اكاديمي عراقي / كوبنهاغن

 

 

 

free web counter