| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

أ.د. عبدالجبار منديل
Salal17@yahoo.com

 

 

 

الجمعة 30/7/ 2010



المظاهرات السياسية في مدينة الديوانية
خلال عقد الخمسينات من القرن العشرين

(ذكريات شخصية )
(1)

أ.د. عبد الجبار منديل

 في سنوات الخمسينات من القرن الماضي لم تكن نفوس مدينة الديوانية تتجاوز (35)الف نسمة وفقا لتعداد 1957 مع انها كانت مركز اللواء (المحافظة) وكان لواء الديوانية يعد من الاولوية الكبيرة في العراق مساحة ونفوسا فقد كان يضم مدينة السماوة التي كانت قضاء وما يتبعها من مدن وقرى ومساحات تمتد حتى حدود السعودية. كما كانت تضم مقر الفرقة الاولى للجيش العراقي الذي كان يتكون من ثلاث فرق فقط .  

 تمتد مساحة المدينة آنذاك من المحطة القديمة في الصوب الصغير غربا وحتى نهاية محلة السراي شرقا . ومن مزرعة سيد عباس التي يقع فيها مستشفى العزل (السل) شمالا وحتى سينما زهرة الفرات وثانوية البنات جنوبا . 

 كانت الثانوية الوحيدة في المحافظة تقع في الصوب الصغير امام الشط ومقابل مبنى المحافظة الحالي . وعندما دخلتها لاول مرة في بداية الخمسينات كطالب في الصف الاول المتوسط اذهلتني فخامتها قياسا الى مدرسة قريتنا (الفاضلية) التي كان عدد طلبتها بصفوفها الستة لا يتجاوز الخمسين طالبا . في حين ان عدد طلاب ثانوية الديولنية كان يناهز ال(400 ) وقد شاهدت بعد ذلك جامعات كبرى في الشرق والغرب وانتسبت اليها طالبا واستاذا ولكن لم يكن لها ذلك الاثر الصاعق الذي تركته تلك الثانوية على ذلك الطالب الصغير الذي كنته .

 كنا كطلبة صغار نسمع عن انباء الوثبة التي حدثت في الديوانية في كانون الثاني 1948 تضامنا مع تظاهرات طلبة بغداد (والتي اطلق عليها اسم الوثبة ) ضد وزارة صالح جبر وكان من هوساتها المشهورة هوسة( نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانه) . وكنا نتغنى بها كتراث عزيز ونستعيد انباء الوثبة في الديوانية وشخصياتها البارزة من الطلبة الذين اشتبكوا في معارك مع الشرطة .  

 التظاهرات السياسية الاولى التي حدثت في سنوات الخمسينات في الديوانية هي تظاهرات ما كان يطلق عليه اسم النهضة التي انطلقت في تشرين الثاني 1952 تضامنا مع طلبة بغداد . وما يزال اسم ساحة النهضة يطلق على بعض ساحات مدن العراق تخليدا لذكرى تلك المظاهرات .  

لم نكن كطلبة صغار نعرف اسباب تلك المظاهرات ولكن من الواضح انها كانت ضد الحكومة وضد النظام القائم اما الاسباب المباشرة لاندلاع تلك المظاهرات فكانت مجهولة بالنسبة لنا . ولكن يكفي ان يكون الطلبة هم من يقدمون بها ويكفي انها ضد الحكومة لكي تكون اسبابا وجيهة ووجيهة جدا لان نساندها ونشترك فيها .

 كانت المظاهرة تبدا عادة بأن يهتف احد الطلبة بصوت مدوي وبحماس (يسقط الكلب الحقير نوري السعيد) حتى يردد الجميع (يسقط) ومن ثم تبدأ المظاهرة بالهرولة في ساحة المدرسة وممراتها امام الصفوف الفارغة وامام الادارة مع ترديد الشعار التقليدي انذاك وهو (جددو الوثبة يلله يا شباب ) وننطلق نردد ذلك بصراخ هستيري اثناء الهرولة الصاخبة . 

 وعلى رغم من انه تم تعطيل الدراسة في الثانوية الا ان المظاهرات استمرت في الديوانية وفي كل انحاء العراق . وكان القائمون فيها بشكل رئيس في الديوانية هم طلبة الثانوية .

كانت مظاهرات الديوانية تبدا بالتجمع في شارع السراي ثم تنطلق مع الهتاف باتجاه المتصرفية (المحافظة) مرددين الهتافات ضد الحكومة ولم نكن نعرف من هو رئيس الوزراء آنذاك ومن هم الوزراء ولكن يكفي ان نعرف اسم نوري السعيد . كما لم نكن نعرف ما هي اهداف المظاهرات ولماذا ؟

 ومن الهتافات الغريبة التي كانت تعجبنا كثيرا وكنا نرددها احيانا هي ان يقف احد الطلبة ويهتف هتافا اشبه بالتلقين يقول ( نريد خبزا لا نريد رصاصا ...ماذا تريدون ؟) فيردد جمهور المتظاهرين (نريد خبزا لا نريد رصاصا ) مع اننا لم نكن جائعين ومع ان اغلب الطلبة هم من ابناء الطبقة الوسطى وكان غذائهم جيدا ولم يكونوا بحاجة للخبز . ولكن قيل انه من هتافات الثورة الفرنسية فضلا عن انه نداء فيه شاعرية ورومانسية تعجب المراهقين . وقد اطلقت الشرطة النار بالهواء تجاه احدى المظاهرات التي كانت تتجه نحو المحافظة واصيب احد الطلبة بجروح طفيفة وكان لذلك وقع حزين في المدينة . 

 توقفت المظاهرات في كل مدن العراق بما فيها الديوانية بعد تشكيل وزارة (نور الدين محمود) رئيس اركان الجيش والذي كان قبل ذلك بسنة واحدة قائدا للفرقة الاولى في الديوانية وكان ابناءه طلبة معنا في الثانوية . اعلنت الاحكام العرفية ونزل الجيش الى الشوارع واتخذت بعض الاجراءات لتهدئة ثائرة الشعب .  

 بعد تشكيل الوزارة الجديدة اخذ راديو بغداد يذيع برقيات التأييد للحكومة واغلبها من رؤساء وشيوخ العشائر وكانت هذه البرقيات لها صيغة ثابتة وهي (انا وعشيرتي نؤيد خطوتكم المباركة سيروا على بركة الله ونحن من وراءكم ) وقد اثار الالحاح في ذلك سخرية الناس وكانت الحكومة قد اصدرت امرا بتسعير الفواكه والخضر لابراز منجزاتها فابرق احد الخبثاء الى الحكومة البرقية التالية (تسعيركم الشلغم اثلج صدورنا سيروا على بركة الله ونحن من وراءكم ) وقد اصبحت تلك البرقية نكتة الموسم في العراق وقيل انه قد تم اعتقال مرسل البرقية .  

لم تهدأ المظاهرات الا لتبدأ بشكل اكثر اتساعا وعنفا في سنة 1956 ولكن لذلك حديث اخر .

يتبع القسم الثاني

 

* اكاديمي عراقي / كوبنهاغن

 

 

 

free web counter