عدنان حسين
     


|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  9 / 8 / 2016                                 عدنان حسين                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

شنــاشيــــل :

أمانةُ بغداد تَهدِمُ تاريخَنا!

عدنان حسين 
(موقع الناس)


من دون وجع قلب، بل بتباهٍ، أعلنت أمانة بغداد عن أنّها منحت منزل واحد من أهمّ الشخصيات في الدولة العراقية الحديثة إلى "مستثمر" قام في الحال بهدمه، ليتحوّل المكان لاحقاً ربما إلى كراجٍ للسيارات أو ملهىً ليليٍّ من الدرجة العاشرة (ماخور في الواقع) كملاهي شارع أبو نواس وسواه، أو في أحسن الأحوال دكان أو بناية لمكاتب تجارية أو سوى ذلك.

المنزل الكائن في شارع الرشيد الذي كان قلب بغداد التجاري على مدى ثمانية عقود، هو منزل ساسون حسقيل، أول وزير للمالية في الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الرحمن النقيب التي شكّلتها سلطات الاحتلال البريطاني (1921) وفي الحكومات الأُولى للملك فيصل الأول (1921- 1925) قبل أن يُصبح عضواً في المجلس النيابي حتى العام 1932.

وساسون حسقيل، لمن لا يعرفه، يُعدُّ من البناة الحقيقيين للدولة العراقية الحديثة، فهو من عائلة يهوديّة عريقة ومرموقة، وكان من أوائل الذين درسوا في أوروبا، وعُرف بوطنيّته ومهنيّته ونزاهته، حتى أنه لم يتساهل حتى مع الملك فيصل الأول ولا مع رؤساء حكوماته ووزرائها في تصرفاتهم المالية، وإليه يرجع الفضل في إصدار العملة الوطنية، الدينار، وكذلك ضمان دفع عائدات مستقرة لصادرات النفط بما يعادل قيمة الجنيهات الإسترلينيّة بالذهب.

أمانة بغداد برّرت فعلتها بأُطروحة بائسة ومتهافتة، هي أنّ المنزل البالغ من العمر مئة سنة، وهو عمر شارع الرشيد نفسه، لم يعد تراثيّاً! وفي المقابل فإن قسم التحريات التراثيّة في دائرة الآثار والتراث التابعة لوزارة الثقافة عدَّ إجراء أمانة بغداد «تجاوزاً على القانون»،.

حتى في الدول الصغير والمتخلّفة تهتمّ السلطات حتى بالحجر الصغير الذي يحمل تاريخاً، وفي البلدان المتقدمة تعدّ الحكومات وبلديات المدن من واجباتها الأساسيّة الحفاظ على الأوابد التاريخية. وما من مدينة أُوروبيّة لا تجد في شوارعها لوحاتٍ صغيرةٍ على منازل، تشير إلى سكنى كاتب أو فنان أو فيلسوف أو عالم أو شخصية سياسيّة أو اجتماعيّة فيه في وقت من الأوقات. وتحرص بلديات هذه المدن على العناية بالمنازل التي سكنتها -ولو لفترات قصيرة- الشخصيات التاريخية المرموقة.

محنة منزل ساسون حسقيل جزء صغير من محنة كبرى مع طبقة سياسية حاكمة تحتقر التراث والثقافة، ولا تُعير اهتماماً إلّا للموروثات التي تزيد تخلّف المجتمع تخلّفاً، كالنواح واللطم وشجّ الرؤوس... طبقة لا يستفزّها التلوّث البصري المتمثّل بتلطيخ الجدران بالصور الحائلة لأشخاص لم يقدّموا شيئاً ذا قيمة للمجتمع، بل إنّ معظمهم ممن كانوا جُزءاً من المحنة الراهنة التي يكابدها الشعب العراقي، ولا يثير حفيظتها تكدّسُ الأزبال في الشوارع والساحات، فكلّ ما يهمّها ويعنيها الاستحواذ على السلطة لنهب المزيد من المال العام والخاص.

أمانة بغداد تعجز عن صدّ تجاوزات السياسيين وأتباعهم والميليشيات وعناصرها على أملاكها، فتردّ بالتجاوز على تراث الشعب وتاريخه. أليس مسؤولو الأمانة جزءاً من الطبقة المتنفّذة في السلطة، الفاسدة والمُفسِدة؟


المدى
العدد (3710) 9/8/2016 
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter