| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. أكرم هواس

 

 

 

 

                                                                                    السبت 7/4/ 2012

 

الثورات العربية... و الحرب الباردة الجديدة...
(5)

د. اكرم هواس  *

الحضارات تتشابك و لا تشتبك بالضرورة و هذا يؤمن الامتداد العابر للحدود.. دون صراع على وزن... اما انا .. او انت... بل تؤسس لبنية جديدة او متجددة من العلاقات تضمن.. انا و انت.. ولكن كل على هيئته و قوامه... والاكثر قدرة على التمدد هو ليس بالضرورة الاكثر ثباتا على جذوره ... بل الاكثر قدرة على خلق اذرع لهذه الجذور... اما الذي يتصارع و يقاتل فهو الفكر القومي... او الانا الجمعية... سواء كان اساسها عرقيا عنصريا او حتى حضاريا تفوقيا... نعم... الحضارة ... مثلها.. مثل اي فكرة و تجربة تاريخية ... قد تصاب بأفة الانغلاق والتصورات الذاتية الرافضة لقيم الحضارات الاخرى... و تتحول حينها الى امبراطوريات تتجاوز القيم الاخلاقية و تسعى الى تمجيد الذات عن طريق اقصاء الاخرين و تصغيرهم و الحط من امكانية تطورهم و تفاعلهم... هنا نتحدث عن ما يمكن ان نطلق عليه.. الحضارات القومية...

اعود الان مرة اخرى الى ما بدأت به هذه المقالة السابقة.. اي مسألة الجمع بين فكر حضاري ينحو منحى لكل الانسانية مثل الاسلام و فكر قومي يبنى على ثقافة تستند الى قيمة محددة قد تكون جغرافية او عرق او تاريخ او بعضها او كلها معا... في الحقيقة فان الحضارات القديمة و الامبراطوريات التاريخية حققت هذا المؤالمة بدرجة او باخرى لكن العامل الحاسم في توسع هذه الحضارات و الامبراطوريات كان عامل القوة العسكرية الذي كان يسبق عادة التطبع الثقافي و انشاء الروابط الاقتصادية... لكن في بعض الحالات فان العامل التجاري الاقتصادي سبق الغزو العسكري... اما الاسلام فانه كان قد احدث نقلة نوعية في آليات التوسع ذلك انه استطاع الانتشار ايضا عن طريق التجار و الدعاة دون ان يتبع ذلك او يسبقه التمدد العسكري الامبراطوري... هذه الالية استخدمت بنجاح كبير في بعض مناطق افريقيا واسيا و ربما تكون قد استندت الى تجارب التجارة العربية السابقة لظهور الاسلام حيث ان بعض اسوأ الاعمال التجارية و منها تجارة الرقيق ظلت و استمرت حتى في ظل الاسلام لكنها لم تعتمد على القوة العسكرية للدولة الاسلامية و ان كانت توظف الامكانيات السياسية لبعض الامراء و القادة الميدانيين كما انها كانت ترتبط اساسا بقوة رؤساء القبائل الافريقية المحليين...

لكن ... لابد ان نستدرك ان التجربة العربية و الاسلامية في التوسع الثقافي الاقتصادي كانت اكبر و اثرى مما يمكن اختزاله في البقع السوداء مثل تجارة الرقيق... و اعتقد ان النموذج الاسلامي في الفتح العسكري و انشاء بنية ثقافية لخلق القبول عند الناس قد الهم الغربيين الذين عمدوا لاحقا الى تغليف توسعهم الاقتصادي بدعائم ثقافية و في العقود القليلة الماضية طوروا هذه الالية باستخدام جزء بسيط من الفائض الاقتصادي لبناء اسس ثقافية قوية و صلدة تشكل الاطار الحافظ للمصالح الاقتصادية و التي بدورها تستدعي في مراحل تاريخية معينة التدخل العسكري لاعادة ترسيخ و تفعيل تلك الدعائم الاقتصادية و الثقافية ...

هكذا تطور النظام الرأسمالي في القرن الاخير و حقق الامريكان طفرات هائلة بهذا الاتجاه و في فترة قياسية اي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية بينما جربها البريطانيون و الفرنسيون و الالمان و غيرهم من الاوروبيين منذ اواخر القرن التاسع عشر فيما يتعلق الامر بالعالم العربي.... اما في الوقت الراهن فقد تطورت الاليات بشكل اكبر... الحديث الان عن القوة الصلبة و القوة الناعمة في العلاقات الدولية... و هنا يمكننا ان نتساءل... هل يمكن تسمية العامل الثقافي و العامل الاقتصادي بالقوة الصلبة ام القوة الناعمة؟؟.. اعتقد ان ذلك يعتمد على تقييمنا الموضوعي لاهمية عاملي الثقافة و الاقتصاد في حياتنا... و شخصيا اعتقد ان قوة هذين العاملين لا تختلف ...ان لم اقل... تتفوق ... على القوة العسكرية... بل اعتقد ان هذين العاملين يتوافقان مع زمن العولمة رغم الحروب التي شهدتها و ما تزال تشهدها منطقة الشرق الاوسط ...و ايضا ما قد يتأتى من عودة روسيا القوية و التمدد الكبير في المشروع الصيني في العالم...

المشرع الصيني هو خليط بين الاسس الحضارية الصينية و مباديء الرأسمالية الحديثة و خاصة النموذج الامريكي رغم ان النخبة السياسية الحاكمة ما تزال تسمي نفسها الحزب الشيوعي لكنها في الحقيقة لا ترتبط بمباديء ماو تسي تونغ باي شيء سوى ما قد يجول في خواطر البعض دون ان تجد تلك الخواطر طريقا الى الواقع لا في الداخل الصيني و لا في علاقات الصين مع الخارج و خاصة آليات التمدد و التوسع الصيني في اسيا و افريقيا والاقيانوس و امريكا اللاتينية.... في كل هذه المواقع ... القانون الحاكم هو قانون الرأسمالية و الصينيون يحققون معجزات كبيرة... وهذه المعجزات تمنح قوة دفع هائلة للتمدد في موطن الرأسمالية و المنطقة الحيوية للولايات المتحدة و اعني بها اوروبا... التي ما تزال تحاول درء الوقوع في الشرك الصيني رغم الاغراءات الصينية الكبيرة لاخراج القارة العجوز من ازماتها المالية و الاقتصادية المتلاحقة..

و لعل الخطوة الاخيرة التي اقدم الاوربيون قبل حوالي الاسبوع في اجتماع كوبنهاغن الاقتصادي و ذلك برصد مبلغ خيالي يزيد على 1000000000 اي الف مليار دولار لدعم الاقتصاديات الضعيفة في دول الاتحاد الاوروبي انما يمثل نوعا من رفض الاغراءات الصينية و ان لم يعلن ذلك اي مسؤول اوروبي بشكل صريح... بكلام اخر ... يمكن اعتبار رصد هذا المبلغ نوعا من تحدي التوسع الصيني... او وضعه ضمن اطار آليات حرب باردة جديدة باليات اقتصادية.

اما روسيا فان مشروعها و ان بدت للعيان و كأنها تعتمد بشكل اكبر على القوة العسكرية الا ان المحور الاساسي في هذا المشروع هو اقتصادي ايضا و هذا ما اشار اليه بوتين في مقالته الشهيرة قبل اسبوع من الانتخابات التي فاز بها كما كان متوقعا سلفا.. كما ان دور العامل الثقافي ليس بغائب ابدا... الروس يحاولون من جهة اعادة تفعيل دور التراث السوفيتي في علاقاتهم مع جمهوريات اسيا الوسطى و هذا المشروع كان قد تم العمل به بالفعل منذ سنوات ولكن الفترة القادمة ستشهد خطوات جديدة و اكثر ترسيخا... كما انهم... اي الروس... يحاولون استثمار البعد الديني و خاصة فيما يتعلق بخصوصية الكنائس الشرقية ضمن التراث المسيحي و ربط ذلك بالتعايش التاريخي السلمي مع الاسلام... و لعل ذلك يلعب دورا و ان كان في الساحة الخلفية لمشهد التطورات الاليمة على الساحة السورية.... فشدة الصراع تؤشر بشكل او بأخر الى رفض الاسلاميين المتشددين و خاصة التقليديين لهذا التعايش و محاولتهم اسلمة المجتمع وفق آليات قاسية تضمنت الابعاد القسري لغير القابلين بالاسلمة على الاقل في صيغتها الثقافية العامة...

و... وسط تمدد الحضارات و تعدد المشاريع و عنفوان الثورات العربية يتكرر الكلام عن حرب ارماجيدون... او اللحظة التاريخية لانتصار الحق... هل هي مشكلة في الوعي ام استسلام للتاريخانية بشكل ما؟؟.. كل طرف ينسب هذا الحق لنفسه و يمني نفسه بتحقيق العدالة على الارض ... و من سخرية القدر ان ذلك لا يتم عن طريق تقديم مشروع يكفل لجميع اهل الارض الحق في الحياة... بل بسحق الاخرين ممن يختلفون معه في الرؤى ...نعم... بهذه السهولة تتحول القيم الاخلاقية عن الحق و العدالة الى نار تصب على رؤوس الناس و الى احقاد تعتمر نفوس اصحاب القرار... و بأسم الحق و العدالة تدفع البسطاء الى الهلاك... و تستأثر وسائل اعلام الاقوياء بتحريف عقول الثكالى و المساكين ...

و لكن ... لنتوقف قليلا عند اخر الصيحات و الموضات في سرد و تفسير الميثولوجيا التاريخية... قديما لم يكن هناك ذكر للصين و روسيا... كانت المعارك ستدور بين الاعداء التاريخيين... الاسلام و المسيحية - اليهودية... في النسخة الحديثة لهذه الميثولوجيا... تم ادخال الصين و روسيا كحلفاء للمسلمين ... لا اعرف الى اي مدى يمكن للصينيين البعيدين تاريخيا عن الاسلام و المسيحية و اليهودية ان يجدوا شيئا في تاريخهم عن هذه اللحظة التاريخية الحاسمة... لكن المؤكد هي محاولة لابعاد المسلمين عن الصين... دعونا نتذكر مرة اخرى نظرية سامويل هونتنغتون عن صراع الحضارات و التي توقعت تحالفا حضاريا بين الصين و الاسلام ضد الغرب... هناك شيء مؤكد ان الغرب بدأ يشعر بثقل التمدد الصيني و عليه فلابد له - اي الغرب - ان يضع ايضا استراتيجية خاصة للتعامل مع هذا التمدد و لعل النسخة الاخيرة لاستراتيجية انتشار القوات الامريكية و التي اشرنا اليها سابقا هي واحدة من اهم المؤشرات بهذا الاتجاه...

في هذا الصدد...و رغم النظريات الكثيرة حول افول نجم الامبراطورية الامريكية و الغرب عموما و تطبيل وتزمير الكثيرين في هذا العالم بقرب نهاية هيمنة الغرب ... فانني اعتقد ان الغرب قد يقبل بعالم متعدد الاقطاب و لكنه لن يستسلم بسهولة.. بل و لن يرضى بقيادة الصين او غيرها للعالم... وسيدافع بشراسة و بقساوة رهيبة عن تفوقه و هيمنته ... لقد تعلم الغرب كثيرا من تجارب التاريخ و عليه فقد طور نظاما اجتماعيا و سياسيا و اقتصاديا تتفاعل كل عناصره معا... رغم الخلافات و الاختلافات و الصراعات الكثيرة داخله... ليس فقط للدفاع عن نفسه بل بشكل واضح عن هيمنته و تفوقه... او انه يواجه الانهيار الداخلي تماما لان كل شيء مرتبط معا و من الصعب جدا ايجاد الثغرات للدخول اليها من الخارج...

اعتقد ان الصين الحديثة التي تطورت بتشجيع غربي و بشكل خاص اميريكي لمواجهة قوة الاتحاد السوفيتي في سبعينات القرن الماضي... يضمر لها الغرب شيئا رهيبا... وربما تكون الثورات العربية و محاولة سحب الصين الى اتون نارها التي لا تنطفيء... هي جزء من استراتيجية امريكية غربية لمواجهة التمدد الصيني... اما الروس فهم جزء من العالم الغربي... و هم يجيدون اللعب و التعايش..

في المحصلة يمكننا ان نرى مشهدا عالميا تتلاطم فيه القيم الحضارية مع الفكر القومي... هناك تشابك و تمدد سلمي اساسه الثقافة و الاقتصاد.. وهناك اشتباك قيمي و قومي في سعي مرير لفتح ممرات لهذا التمدد الثقافي الاقتصادي ... بين هذا التشابك و الاشتباك... تسيل الدماء و تتعرض امم و شعوب للقهر و التشرذم و الافقار... و ترفع رايات الانتصار للقوى التقليدية الامبراطورية منها و القومية و العصبية القبلية... و يختلط الامر بين القيم و القومية.. و بين الدفاع و الهجوم... بين الحق و الباطل... و بين التعايش و القسر... و بين التعصب و الانفتاح... هذا الخلط و الاختلاط... هو من اهم مؤشرات الصراع الخفي استرتيجيا و المعلن في بقع هنا و هناك... انها روح الحرب ...و الروح ليس لها بالضرورة كيان مادي ملموس... و لكنها تولد بالتأكيد احساسا.. قد يكون حارا هنا و باردا هناك...

قد يكون مصدر الحرارة هنا قرقعة السلاح او الدماء التي تسيل... و قد يكون مصدر البرودة هناك.. الهدوء والانانية وسط العاصفة و مشاعر البؤس الذي يلف الناس.. سنواصل في مقالة لاحقة

 

الثورات العربية... و الحرب الباردة الجديدة...(4)
الثورات العربية... و الحرب الباردة الجديدة...(3)
الثورات العربية... و الحرب الباردة الجديدة...(2)
الثورات العربية... و الحرب الباردة الجديدة...(1)

 

* اكاديمي عراقي - الدنمارك

 

 

free web counter