| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. أكرم هواس

 

 

 

 

                                                                                    الثلاثاء 20/3/ 2012

 

الثورات العربية... و الحرب الباردة الجديدة...
(4)

د. اكرم هواس  *

في خريف و تحديدا سبتمبر- ايلول 1997 كنت في زيارة الى مركز الفكر العربي في عمان و هناك التقيت رئيس المركز آنذاك الدكتور علي عتيقة ... تحدثنا عن المركز و نشاطاته و دوره في تطوير الفكر العربي ... لكن واحداً من اهم المواضيع او ربما اهم المشاريع المطروحة على الساحة العربية والاسلامية في ذلك الوقت كان مشروع المؤتمر القومي الاسلامي حيث كانت قد عقدت سلسلة لقاءات في عمان و غيرها من العواصم العربية لبلورة الافكار ووضع اسس تنظيمية لهذا المشروع الحضاري السياسي الكبير... و لذلك فقد كان من الطبيعي ان نتحدث عن هذا الموضوع .. سألت الدكتور عتيقة سؤالاً مباشراً... الا تعتقد يا دكتور ان هناك اشكالية في الجمع بين القومية و الاسلام خاصة انكم جميعاً ملتزمون بحدود اقطاركم ... اي انكم في الوقت الذي تتحدثون فيه عن الاسلام كأساس فكري وثقافي وايديولوجي لمنظومة سياسية و ربما اقتصادية تجمع العالم الاسلامي فإنكم تتحدثون عن خصوصية هذا البلد او ذاك الى درجة تصل احياناً الى القداسة ؟ اجابني الدكتور ... نعم هذه اشكالية و لكن هذا هو الواقع ... الا ترى ذلك حتى في خطاب رفسنجاني .. فهو يوظف البعد الثقافي الايراني التاريخي و يدمجه في المشروع الاسلامي في ايران؟

كان الدكتور عتيقة صادقاً فيما يتعلق بالخطاب السياسي في مرحلة ما بعد الامام الخميني ... لكن كان لابد ايضاً من ملاحظة مهمة ... و هي انه كان يبدو بوضوح ان ايران قد اصبحت نموذجاً رائداً يستخدمه الاسلاميون لقياس ما يصح و لا يصح في العمل الاسلامي ... في الحقيقة فان هذه المنزلة و المكانة النموذجية لايران كانت قد تحققت بعد الثورة التي سميت اسلامية عام 1979 حيث تسابقت كل الفرق الاسلامية والقومية والوطنية بل حتى الماركسية والليبرالية ليس في العالم العربي والاسلامي وانما ايضاً من جميع انحاء العالم الى ايران ... نعم لقد تحققت معجزة لم تكن تتخطى يوماً احلام هؤلاء .... لم يكن هناك من استطاع حتى ان يتصور ان هذه الدولة التي تحكمها نخبة من السياسيين تعمل بعقلية وآلية اعظم امبراطوريات التاريخ ... حضارات بلاد فارس التي امتدت من الصين الى اوربا ... و مزودة بدعم اقوى امبراطورية في التاريخ الحديث ... اي الامبراطورية الامريكية ... وتتمتع ايضاً بدعم اعتى قوة قاهرة للعرب والمسلمين ... اي اسرائيل ... كيف يمكن لهذا الخليط الرهيب ان يسقط امام شباب لا يحملون سلاحاً بأيديهم و انما يحملون الثورة في عقولهم ووجدانهم ولا يستخدمون الا صوتهم الهادر الملهم بخطاب سياسي لرجل عجوز لا يملك الا سبحة صغيرة ولا يرتفع صوته الا بقول ... الشعار التقليدي الذي يتكرر في كل حين ... الله اكبر ..؟ ... هكذا كان المشهد قبل تدّخل التحليلات السياسية التي ربطت هذا التغيير الهائل بإستراتيجيات امريكية لم يتم التأكيد منها رغم مرور اكثر من ثلاثة عقود حيث ان الصراع ما زال محتدماً ولعل واحداً من تجلياتها قيام حرب باردة جديدة تكون ايران و الولايات المتحدة على طرفي النقيض فيها.

لكن لنعود الى تلك اللحظة التاريخية ... مما لا شك فيه ان ما حصل في ايران كان يمثل للكثيرين معجزة تاريخية... او معجزة إلهية كما تصورها الميثولوجيا الدينية سواء الاسلامية منها او غيرها... و سواء كان ذلك وفق التفسير السائد في ايران او عند غير الايرانيين... والاسباب لمثل التدخل الالهي المباشر لابد ان تكون مختلفة عند الاطراف المختلفة في رؤاها... و لكنها اجتمعت في مفهوم المعجزة... والمعجزات تتبعها الناس عادة و تتفاعل معها بشدة في وعيها بل و تدخل في عقلها الباطن ... فالكثيرون يهتدون بها حتى وان تنكروا لها او حاولوا ان يتناسوها او حتى محاربتها... و لعل هذه الديمومة في عقول الاخرين تمنح النموذج نفسه قوة هائلة للاستمرار والتجديد وكذلك السعي للترسخ و التجذر بآليات ربما تختلف عن تلك التي تزامنت مع لحظة النشوء و الظهور بشكل او بأخر..

وهذا ما حصل في نموذج ايران ما بعد الامام الخميني او ما سمي بعهد رفسنجاني الذي اشار اليه الدكتور عتيقة... فهذا الداهية قد غيّر كثيراً من مسار الثورة و حوّلها الى دولة تعمل على بناء الذات النواة و التمدد او التوسع بآليات مختلفة عن الاليات الثورية التقليدية التي سادت في السنوات الاولى ، اي الثورة التي تسير الى الامام دون الالتفات الى مستحقات ما بعد الثورة خاصة الحماسة الثورية التي قد كانت اختلطت بشدة بدماء الذين كانوا يسقطون بأعداد هائلة في الحرب العراقية الايرانية و التي سماها الايرانيون الحرب المفروضة اي الحرب التي فرضتها القوى الاستعمارية ... او الاستكبارية كما تسميها الآلة الاعلامية الايرانية ... على الشعب الايراني بسبب ثورته ... هذه المرحلة انتهت بقبول ايران وقف اطلاق النار مع العراق... و عند ذلك المنعطف التاريخي دخلت ايران الى مرحلة جديدة و هي ثنائية الدولة و الثورة في تزاوج كونفدرالي حيث يعمل كل طرف بشكل مستقل بذاته و لكن في الوقت نفسه يدفع كل منهما الاخر باتجاه الاستمرار و التواصل و التطور...

في هذه المرحلة عمد الايرانيون الى الفصل بين الخطين الرئيسيين في الثورة و هما خط استمرار الثورة او تصديرها كما يطلق عليه وخط بناء الدولة القوية الراسخة الراعية لهذه الثورة .... و لترسيخ هذه الالية الجديدة كان لابد من العودة الى الجذور و دمجها مع المسار الجديد... و هكذا كان مشروع رفسنجاني في اعادة هيكلة العلاقات والبنى الاساسية في الجسد الايراني الهائل والتي تتشابك فيه الطموحات المادية والميثولوجيا الدينية والفكر والارث الحضاري والاسترايجيات السياسية التاريخية والرؤى الحداثية لبناء مجتمع يتمتع الجميع بحقوقهم بدرجة ملحوظة بحيث يختفي الفقر والتمييز الاقتصادي والنخبوية... لكنه ليس مجتمعاً متقوقعاً و انما مجتمع فاعل جداً خارجياً حتى وان كان ذلك باسلوب ثوري مستحدث و متطور لا يؤثر سلبياً على بناء الدولة و المجتمع داخلياً.... الى اي مدى نجحت هذه التجربة داخلياً هو سؤال كبير لان هناك الكثير من الكلام عن التسلط و القهر لكن من المؤكد ان هناك تطور مهم اقتصادياً و تكنولوجياً و عسكرياً و تنموياً و ان بقي سؤال العدالة الاجتماعية بلا جواب قاطع وواضح..

لكن ... في هذه المقالة نتحدث عن تطور العلاقة بين الدولة و الثورة ... تاريخياً اعتمدت الكثير من الحركات الثورية نموذج الخطين اي العسكري و السياسي لكن لم يحصل ان طبقت اية دولة هذا النموذج بشكل ناجح و فعال كما فعلت ايران ... نموذج رفسنحاني ايران يتمتع بخصوصية عن كثير من النماذج الاخرى ... فهناك دول تحولت الثورة فيها الى تقوقع مثل كوريا الشمالية و كوبا و كذلك الصين الى اواسط الثمانينات من القرن الماضي و هو تاريخ بداية مشروع رفسنجاني ... و هناك دول تحولت الثورة فيها الى ادوات قمعية قضت على امكانية التطور في المجتمع فسقط كل شيء مثل الاتحاد السوفيتي ... النموذج الايراني كان مختلفاً ايضاً بالقياس مع التصنيفات التقليدية مثل النظام الرأسمالي و النظام الاشتراكي ... فالنموذج الايراني لا تنطبق عليه الصفات المحددة لهذين النظامين بشكل كبير كما انه ليس مختلطاً مثل نظام السوسيالديموقراط ... انه نظام تلعب فيه الدولة الوظيفة الاساسية لتوفير قاعدة النمو والتطور للجميع و لكنها لا تتدخل في النمو الذاتي للافراد و الجماعات و لذلك فان الجميع اغنياء بدرجة او باخرى و لكن الجميع يشتكون في ذات الوقت... هكذا تقول الرؤية الايرانية نفسها..

لبناء هذا النموذج الخاص كان لابد من استدعاء كل القيم التاريخية بثقافاتها المختلفة و منها الاسلام و دمجها في بوتقة واحدة بحيث يجد الجميع اسساً و اهدافاً و دوافع للتطور الذاتي و التمدد الخارجي دون اي تصادم صراعي بين الخطين . في الحقيقة فان هذه الحالة ليست جديدة في ايران ... فقد تمت تجربتها سابقاً في عهد الدولة الصفوية ... لكن لابد من تغييرات مهمة... فالزمن الراهن لم يعد زمن الامبراطوريات التوسعية و عليه فان التمدد لابد ان يستند الى آليات مختلفة... نحن الان في زمن العولمة ... و في هذا الزمن فان المفاهيم تغيرت و معها تغيرت الاساليب و الاليات... الحديث عن المصلحة الخاصة لم يعد ذلك الذي شاع في زمن نشوء الدولة القومية ... الان اصبح كل شيء متحركاً و اهم هذه الاشياء هي مسألة الحدود ... فالجغرافيا مثلها كمثل الاشياء الاخرى لم يعد يقتصر معناها على حدود مرسومة على الورق و تتحكم بها الاسلاك الشائكة و الجيوش الجرارة ... الجغرافيا تعني المجال الحيوي للحركة بغض النظر عن الحدود الدولية ارضاً و جواً و مياهاً ... فالدول ما تزال تحترم الحدود الجغرافية التقليدية لكن من يستطيع ان يخترق الحدود فانه يفعل دون ان يسأل عن اذن او ترخيص لان الاختراق لا يكون بالجيوش و الدبابات ... الاختراق هنا يتم عن طريق الفضاء المفتوح... فضاء الاقتصاد والتكنولوجيا و الثقافة و الاعلام ... الاختراق يتم عبر بناء مؤسسات و شبكات التواصل و الاتصال ... هذا هو التمدد الذي فتحت ابوابه العولمة... لكن فقط الاقوياء يفعلون ذلك و الفقراء يدفعون الثمن دوماً ... ايران تريد ان تكون من الاقوياء لانها تعتبر امتداداً لحضارة كانت حتى وقت قريب من اقوى الاقوياء...

هذا ما تفعله الصين ايضاً الان و ربما ستحاول روسيا و الهند ان تفعله ... و هذا ما فعلته امريكا منذ ظهورها في اوروبا في سنوات الحرب العالمية الثانية ... الامريكيون بدأوا امتداهم الخارجي بانتصارات عسكرية في تلك الحرب ... و ايران حورت مبدأ التدخل المباشر و حققت انتصارين بالتدخل غير المباشر اي التدخل عن بعد في لبنان و غزة .. امريكا تبني نقاط ارتكاز سياسية و عسكرية و ثقافية و اقتصادية... هذا ما فعلته ايران ... امريكا تريد ان تنشر الديمقراطية... و ايران تريد ان تنشر الاسلام ... امريكا تريد ان تكون إلها... و ايران تريد ترسيخ الوهية الله ... امريكا تريد ان تهيمن ... و ايران تريد ان تحقيق العدالة ... امريكا تريد تفوق و اعلوية اليانكي ... وايران تريد اعلوية الحق ... امريكا تريد التحرر من التقليدية ... و ايران تريد التحرر من الذات....

هذه هي الثقافة السياسية للنخبة الايرانية كما تصورها لنا وسائل الاعلام و ادبيات الخطاب السياسي الايراني ... ومن المؤكد ان هناك من يرفضها تماماً و هناك من يشكك بمدى صدقيتها كما ان هناك من يقبل بها بدرجة او بأخرى ... و لعل واحداً من اهم عوامل الرفض او التشكيك او القبول هو عامل المقارنة وخاصة مع الثقافة السياسية لامريكا و ضرورة تلك المقارنة لا تتعلق فقط كوننا تحدثنا عن الثقافة السياسية الامريكية في المقالة السابقة و لكن هذه الاهمية تكمن بشكل خاص في الهيمنة الامريكية الكونية الحالية و بسبب الاتصال المباشر في ذهن الكثيرين لتلك الهيمنة مع الثورات العربية ... و ثالثاً لان هذه المقارنة قائمة عند الجميع من مثقفين و سياسيين من اصدقاء ايران و اعدائها...

كما هو الحال بالنسبة الى فرضية موضوع العلاقة التي ممكن ان تكون قد جمعت او قد تجمع بين امريكا..... الحضارة و الهيمنة... و الثورات العربية ... فان هناك الكثير من الكلام عن علاقة مماثلة بين ايران ... النموذج والتجربة ... و الثورات العربية... وهنا اود ان نعود قليلاً الى الوراء و خاصة لحظات منشأ الثنائية في ايران ... الدولة والثورة... في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي كما ذكرنا اعلاه... في تلك الفترة انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الاولى اي في نهاية سنة 1987. و هنا لابد ان نذكر ملاحظتين مهمتين اولاهما ان الانتفاضة كانت غير مسلحة الا بالحجارة و الشعارات الهادرة ... الله اكبر ... و ثانياً ان الانتفاضة انطلقت في غزة قبل ان تنتشر الى بقية الاراضي المحتلة... لاحقاً ... شهدت غزة الانفصال بين الدولة والثورة ... مؤسسات الدولة في الضفة ومؤسسات الثورة في غزة ... هذه الثنائية استطاعات ان تحافظ على الجسد الفلسطيني الذي نما بعد اتفاقيات اوسلو سنة 1993... وحافظت في الوقت ذاته على الثورة رغم حروب اسرائيل المدمرة .... يمكننا ان نتصور ايضاً اضافة اخرى ... حزب الله والدولة اللبنانية ... ثنائية فاعلة رغم الكثير من الظروف والتغييرات الداخلية والخارجية...

غير هذا و ذاك اي ثنائية الثورة والدولة في فلسطين و لبنان لم يستطع اي بلد عربي ان يستفيد من التجربة الايرانية في بناء الذات .... بل ان مشروع الاسلام القومي سقط مثل الكثير و الكثير جداً من المشاريع الاخرى التي تحولت الى حراب للصراع و الاقتتال .... و بدلاً من الاقتراب من ايران باعتبارها جزءاً من المنطقة ادخلها بعض العرب ضمن اجندة صراعاتهم بدعاوى كثيرة و احدثها تدخلها في الثورات العربية...

الملاحظة الاولية هي ان هذه الثورات قد بدأت على اساس المبدأ السلمي اي غير المسلح مع رفع شعار ... الله اكبر ... هل جاء الالهام من الغرب الليبرالي ام من التجربة الايرانية ؟؟... هناك ادعاءات بهذا الاتجاه و ذاك... ولكن هل يمكن ان تتطور المجتمعات العربية التي شهدت ثورات في الاونة الاخيرة بإتجاه التجربة الايرانية في ثنائية الدولة والثورة ؟ اعتقد ان هذه الاشكالية تمثل واحدة من اهم التقاطعات التي لعبت الدور الحاسم في غزارة الدماء المسفوحة في سوريا وفي تطور العلاقات الدولية التي يمثل الفيتو الروسي الصيني احد تجلياته المهمة.... اسرائيل تشعر لاول مرة منذ نشوئها قبل ستة عقود انها محاصرة بآليات يصعب التعامل معها بالطرق التقليدية.... وامريكا.... لا ترغب في المواجهة الا عندما تتأكد انها ستنتصر.... الى حين ذاك تبدو الامور و كأن الدماء تبقى تنزف في سوريا... والفقر والدمار يتوسعان في الشرق الاوسط ... و ايران والصين و روسيا تتمدد... والعالم يصغر... او هكذا يبدو...

في المقالة التالية سنناقش مسألة الحضارات القومية...

 

الثورات العربية... و الحرب الباردة الجديدة...(3)
الثورات العربية... و الحرب الباردة الجديدة...(2)
الثورات العربية... و الحرب الباردة الجديدة...(1)

 

* اكاديمي عراقي - الدنمارك

 

 

free web counter