|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  31  / 5  / 2024                                 د. أكرم هواس                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

حكاية غزة… حرب الاستراتجيات…
(1)

د. اكرم هواس *
(موقع الناس)

لاول مرة منذ اندلاع ازمات .. او حروب عزة المتكررة… لم اكتب عنها كما تعودت ان افعل سابقا … سأعود إلى تلك المقالات لاحقاً لانها تحتوي على نقاط مهمة يحاول بعض العرب الارتكاز عليها في البحث عن مخرج للحرب الحالية ..

و رغم ان الحرب الجديدة بدأت مدوية و خلقت انفجارا هائلا في الوعي السياسي العالمي إلا اني ارتأيت هذه المرة الانتظار لسببين رئيسيين .. أولهما ان اتأكد من فكرتي ان هذه الحرب ليست مثل الحروب السابقة من حيث كونها حروب تكتيكية .. انما هي حرب استراتيجية و لذلك كان لابد ان نتأكد من تفاعل القوى المتوقع حضورها في مشهد الحرب بدلا من التخمين … و ثانيا .. انني وضعت كتابا جديدا كان من المتوقع صدوره مع بداية حرب غزة إلا ان الامور تعقدت و تدخلت جهات عديدة و تعوّق صدور الكتاب و هكذا كان لابد من الانتظار حتى يصدر و ها قد صدر قبل شهر تقريبا في لبنان …

الكتاب لا يحتوي سوى جملة واحدة عن غزة .. و هي ان حربها هي امتداد لازمة أوكرانيا و التي بدورها امتداد لازمة كورونا و كل هذه الأزمات هي انعكاس للتطور السياسي الاجتماعي في منظومة العلاقة بين القوى المهيمنة على العالم بشكل يختلف كلياً عن مفاهيم الصراعات التقليدية و في ظل اهداف يصعب معرفة حدودها و جغرافية مكانها و زمانها و هكذا … و هكذا فان عنوان الكتاب … (مخيال عالم ما بعد الثقب الاسود… ادارة الفوضى الكونية)

A World Beyond the Black Hole
Management of Universal Chaos

ان تكون حربا استراتيجية يعني ان معايير دخول الحرب لا تعتمد على حساب عناصر القوة لهذا الطرف او ذاك.. فالحرب الاستراتجية تتعدى أهدافها الحدود الجغرافية و الحسابات الآنية .. اي في لحظة اندلاع الحرب.. بل تمتد إلى أبعاد مستقبلية و عابرة للقدرات و الامكانيات الذاتية..

بكلام اخر … ان حرب غزة ليست حرب بين اسرائيل و القوى الفلسطينية (حماس و اخواتها)… بل هي حرب بين مشاريع كونية كبرى (القوى المهيمنة و القوى الباحثة عن هيمنة بديلة) و ربما اختيرت غزة كونها احدى النقاط الساخنة في العالم و القابلة لبلورة حشد دولي سريع حولها استنادا الى البعد الجيوستراتيجي (غزة و محيطها هي نقطة عبور طرق المواصلات بين اسيا و اوروبا حيث يمتد طريق الحرير الجديد و معه طموحات الهيمنة الصينية في الشرق الاوسط و افريقيا و الصراع الجديد على اوروبا (العاجزة عسكريا و سياسيا)… في مواجهة قوى الهيمنة الغربية المتجددة … و بينهما روسيا و الهند و ايران و أحلامها الإمبراطورية ..

و على ذات الاساس فان الحرب لا تهدف الى "تحرير فلسطين" وفق الرؤية التقليدية و لا حتى في حدود 1967… و لا حتى تهدف إلى تسجيل "انتصار تاريخي" ضد اسرائيل و الاطاحة بفكرة التفوق الاسرائيلي و النموذج الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط …وكما انها من الجانب الاخر… لا تتعلق الحرب بمحاولة استئصال هيمنة حماس و القوى الاسلامية …. او افشال مشروع المقاومة و الصراع الايديولوجي .. او فتح الطريق امام اقامة دولة فلسطينية هشة مثل اغلب دول العالم (مجرد علم و مقعد في الامم المتحدة)..

وفق هذه المعادلة فان الهدف الاول لكل من إسرائيل و القوى الفلسطينية المحاربة كان يرتكز على السؤال المهم و هو ماذا يمكن ان تحقق في ظل "حرب المشاريع الاستراتيجية "… النخبة العسكرية - السياسية في إسرائيل ادركت ان كل الإنجازات الدبلوماسية و السياسية في تمددها في محيطها العربي و الخليجي لن تقوى امام متطلبات التعايش مع التحولات الكبرى القادمة… و كذا فان القوى الفلسطينية المحاربة ادركت ان اللحظة التاريخية لن تتكرر و الفرص الضئيلة للتفاعل الحيوي ستختفي سريعا … و لذلك "اقتنع المعسكران" بضرورة القيام "بعمل ما" يعيد الأمل في التواجد في المعادلات الدولية القادمة… و هكذا "نجحت" خطة 7 اكتوبر في تحقيق العبور من حالة "السكون القاتل" إلى "مرحلة التفاعل الدموي" …!!..

لكن هل كانت الحرب هي ضرورة تاريخية .. او.. فلنطرح السؤال بشكل معاكس… ألم يكن من المستطاع تحقيق هذا العبور بشكل سلمي ..؟؟.. من المؤكد ان السلم هو الأكثر ترسيخاً و اماناً.. لكن احيانا يرى البعض ان كلفة السلام اكبر بكثير من كلفة الحرب … و التاريخ يخبرنا عن حقيقة مؤلمة و هي ان اكثر الحروب في العالم كانت محاولة للهروب إلى الامام في ظل العجز عن توفير متطلبات ترسيخ السلام و الامان … و الحروب كانت دوما تعتبر افضل المخارج لفوران الأزمات … هكذا تعتقد النخب العسكرية السياسية التقليدية ..

و لا شك ان التحديات الحالية و القادمة هي اكثر تعقيدا و أشد وطأة لانها لا تتعلق بالأزمات الداخلية و لا حتى بصراع المصالح على مستوى العالم … بل تتعدى ذلك إلى ازمات متفاعلة و متمددة في كل مكان … او هي "طوفان" لا يمكن المهرب منه كما يرى البعض …

و كما كان متوقعا فان جميع قوى الهيمنة حضرت و كذا القوى الباحثة عن "هيمنة بديلة" … قوى دولية كبرى و أساتذة التاريخ الاستعماري … و قوى اقليمية و محلية و أذنابها و اتباعها و أحبابها و اعدائها… حيث تشكلت شبكة هائلة من التفاعلات الممتدة عبر كل قارات العالم بينما ظلت اغلب الدول العربية بعيدة عن المشهد الواقعي للحرب و أوزارها … ليس فقط بسبب مصالحها كما يعتقد البعض … بل ربما كونها تفتقر إلى اية رؤية حول ما يجري في العالم .. و لذلك اصبحت فجاعة اهل غزة كثيرة الأبعاد و تتلون كل لحظة بصرخات تشوه صور الحب و التضامن و قيم الحضارة و مفاخر التاريخ في ذاكرة الفرد و المجتمع…

و لعل الإشارة إلى هذه الحالة من "اللا أدرية" السياسية في الواقع العربي ازاء مستوى تطور العلاقات عند قمة العالم كان احد اسباب إعاقة نشر كتابي الأخير رغم انه لا يتضمن اي نوع من الانتقادات لأية دولة عربية بل يحاول كما هي مجمل كتاباتي الدفاع عن المجتمعات العربية و قضاياها ازاء هيمنة القوى الكبرى ..و لكن …

و حتى نعود إلى الثيمة الاساسية في الموضوع لابد ان نذكر بمعادلتين بسيطتين … أولاهما ان السلم العالمي لا يمكن بناؤه على الانعزال الذاتي مهما كانت المغريات و الامكانيات لان العالم اصبح قرية صغيرة كما يقال و ازماته تمتد إلى كل ركن مهما كان بعيداً او محصناً بامكانيات مادية او معنوية… ثانيا… الانخراط في الأزمات لا يعني بالضرورة دخول الحرب بل التحرك الفعال في وضع اسس لبدائل قابلة للتطبيق و الديمومة …

و لاشك ان السبات العربي .. او اللا أدرية السياسية … تشكل على المستوى الاستراتيجي انتكاسة هائلة في عملية صيرورة العناصر الاولية الداخلة في بناء هيكلية العالم القادم ..

في المقالة التالية سنناقش طبيعة الصراع و اهم الفاعلين في مقاربة للخطاب السياسي العربي و قدراته المفاهيمية التحليلية …

حبي للجميع

 

* اكاديمي عراقي - الدنمارك

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter