|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  2  / 3  / 2024                                 د. أكرم هواس                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

اعادة "عرقنة" العراق..؟؟..

د. اكرم هواس *
(موقع الناس)

ما يعنيه مفهوم "العرقنة" هنا هو محاولة اعادة بناء نموذج مثالي مترسخ في الذاكرة التاريخية عن العراق في مرحلة سابقة بحيث ان هذا النموذج يعد نوعاً من المعيار الذهني للمواطن في رؤيته للتطور المجتمعي و تعامله اليومي مع الواقع بكل إرهاصاته و تحدياته… لكن كيف يمكن ان يتحول النموذج الذهني إلى واقع و كيف يمكن تغيير الواقع بما يتناسب مع النموذج المثالي السابق فهذا يستدعي المرور بمرحلة انتقالية تحمل الكثير من التحديات و تتطلب العديد من التغييرات بهذا الاتجاه او ذاك …

تجارب المجتمعات التاريخية تخبرنا ان مفهوم المرحلة الانتقالية يعني تغييرات جوهرية في طبيعة المنظومات المجتمعية و خاصة تلك التي تلعب الدور الاهم في سيرورة التطور المجتمعي … و لعل من اهم العوامل الدافعة إلى المراحل الانتقالية هو وقوع احداث كبرى مثل الكوارث الطبيعة او الحروب او الثورات او ظهور افكار و فلسفات او اديان تعمل على خلق تغييرات جوهرية في البنية الاجتماعية او الاقتصادية - السياسية…

في المجتمعات الصغيرة و خاصة في زمن الدولة الحديثة فان اكثر العوامل المؤثرة هو قيام الانقلابات العسكرية او انتفاء النظام السياسي نتيجة مؤثرات خارجية او دخول المجتمعات في فوضى تعطل دور المؤسسات .. و هكذا فان المرحلة الانتقالية هي مرحلة تحاول فيها المنظومات المجتمعية المختلفة اعادة هيكلتها التنظيمية و الفكرية و بناها الاقتصادية و السياسية بشكل أو آخر لكن لابد ان تشهد عملية اعادة البناء محاولة ربط الخطط القادمة ببعض الاسس المجتمعية الماضية رغم ان الموضوع يتعلق بالسعي إلى الانتقال إلى نموذج مجتمعي جديد Paradigm … حالة الربط تشهد عادة اضطرابات و عدم توافق بين القوى المجتمعية المختلفة و قد تشهد أعمال عنف و صراعات و الدفع بمشاريع فكرية و سياسية و اقتصادية …

في الترمينولوجيا الماركسية كانت تستخدم مصطلحات الصراع بين القوى المحافظة و القوى الثورية .. لكن ليس بالضرورة هذه هي الحالة الوحيدة حيث هي ان هناك ايضا صراع بين كل القوى التي تمتلك مشاريع بغض النظر عن طبيعتها عند المقاربة بين المشاريع القديمة او الجديدة ..

و العراق يعتبر من اهم تلك النماذج التي حصلت فيها الكثير من التغيرات الجذرية بسبب الحروب و الانقلابات لكن الفترة منذ الاحتلال الامريكي عام 2003 شهدت ايضا الكثير من التحولات و هناك مؤشرات كثيرة الان تدل على ان العراق يشهد مرة اخرى مرحلة انتقالية حيث تتبلور مسارات قد تبدو مختلفة و ان كان بعضها يستند إلى شرعية سياسية تمتد إلى مراحل مرت و إلى مشاريع قد أقيمت بشكل او باخر .. كما ان البعض الاخر يحاول الوثوب إلى ما بعد الجغرافية التاريخية و الثقافية .. و بين هذا و ذاك هناك محاولات جادة لاعادة بناء نواة مركزية جديدة للدولة العراقية بعد سنوات من التشظي شديد التأثير على حضور الدولة في الفضاء العام للمجتمع و في طبيعة مساحات الصراع بين القوى السياسية و الاقتصادية و كذلك في الأبعاد الثقافية و دور القوى المجتمعية التقليدية .. لكن عملية اعادة بناء مركزية الدولة قد لا تتبلور بشكل سلس و في ظل آليات التغيير الديمقراطي… انما قد تاخذ مسارات متعرجة و تزيح العديد من التجارب "الإيجابية/ السلبية" في طريقها و هذا ما يزيد من مستوى الصراع في المرحلة الانتقالية و قد يتحول في بعض خطواته إلى مسارات “دموية” بشكل او باخر ..

الصراع المتجدد مع اقليم كوردستان رغم دستوريته القانونية و عودة الكلام عن انبعاث مجموعات داعش بكل ما يحمل ذلك من عدم استقرار لمناطق الغرب و انتشار روايات عن دور جديد لحزب البعث و بقايا أيدولوجيته و تراثه السياسي … كل هذا لابد ان يزيد من الاحتقان بين القوى السياسية التي تقف عاجزة امام تحديات جدية في الوضع الدولي مقابل طموحات "اعادة عرقنة العراق" في وجه "المد الإيراني" و بقايا "تركة الاحتلال الامريكي"…

لاشك ان تصفية الاستعمار هي حق كل الشعوب و لكن التجارب التاريخية تخبرنا ان عملية تصفية الاستعمار هي عملية مريرة و لعل اكثرها مرارا هي تلك التجارب التي تحولت إلى مكافحة الذات … اي صراعات داخلية و حروب اهلية تؤدي عادة في النهاية إلى عودة الاستعمار باعتباره "العارف بخبايا الأشياء" و "الأب الشرعي" للنقلة النوعية من "التخلف" إلى "المدنية" و التنمية و التعايش مع الاختلاف ..

هكذا يبدو ان "مشروعاً طموحاً" بهذا المستوى مثل "اعادة عرقنة العراق" لا يمثل تحدياً لمفهوم التطور التاريخي فحسب انما ايضا يستدعي تغييراً جوهرياً في المفهوم الثقافي العام للمجتمع بكل ما يحمل ذلك من اعادة تدوير الآليات الثقافية و مؤسساتها و بناها الفكرية و غيرها الكثير .. و ربما في هذا المضمار تجري هنا و هناك عمليات استهداف المثقفين و الفنانين و مؤسساتهم و دورهم المجتمعي .. و لعل حادثة تعرض رئيس مؤسسة "المدى" مؤخرًا يدخل في هذا الاطار … كون هذه المؤسسة تعتبر من اهم الفاعلين على الساحة الثقافية حيث انها تشرف على ادارة معرض العراق الدولي للكتاب بالاضافة الى اقامة نشاطات ثقافية و فنية عديدة طوال العقدين الأخيرين.. لكن الأخطر الذي "ينتظره البعض" هو عودة تجربة السنوات الاولى بعد الاحتلال الأمريكي… اي الفوضى الشاملة و الحرب الاهلية و دخول المجموعات المسلحة في صراع مباشر ضد بعضها البعض و اعادة "الإدماج القسري" لاقليم كوردستان و الإطاحة بالتنوع الثقافي - السياسي و خلق بؤرة اخرى لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط الذي يئن شديداً من وجع الحروب و الدمار و الفقر المتمدد في مجتمعات العالم الثالث …

ملاحظة مهمة ان هناك توسع في دائرة الاهتمام العربي و الدولي بالعراق… و هذا قد يكون مؤشرا مهماً في محاولة اعادة الدور العراقي إلى منظومة الدول الفاعلة .. او ما يسمى "المجتمع الدولي"… لكن هناك ايضا مؤشرات "مخيفة" مؤداها ان "بعضا" من هذا الاهتمام العربي و الدولي يصب في ذات المجرى التاريخي لاعادة "النموذج الاحادي" في الحكم و ادارة الدولة و الاصطفاف المجتمعي…

هناك أنماط جديدة للتدخل المباشر الذي يستهدف استفزاز المؤسسة العسكرية … و هناك البحث و اعادة تشكيل مجموعات تنظيمية New Proxies و هناك إعلام موجه و طروحات اقتصادية - سياسية تستهدف خلق الفوضى اكثر من توفير اية ضمانات للنجاح و هكذا الكثير ..

آخر الكلام … اعتقد ان مشروع اعادة بناء صورة العراق الموحد و دوره المستقل و حقه في التنمية و الاستقرار يبقى حلما جميلا للكثير من العراقيين و لا شك ان هناك قوى و شخصيات تحمل الكثير من القدرة و الامكانيات لتحقيق هذا الحلم… لكن كيف يمكن ترجيح هذا او ذاك من المشروعين المتناقضين … ؟؟.. سنتابع ..

حبي للجميع

 

* اكاديمي عراقي - الدنمارك

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter