|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  16  / 11 / 2018                                 د. أكرم هواس                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

عودة الفكر الإمبراطوري
(2)

د. اكرم هواس *
(موقع الناس)


في المقالة الاولى من هذه السلسة تركزت المناقشات حول التطور في القوى داخل الولايات المتحدة ... كان ذلك قبل انتخاب الرئيس ترامب ... و لكن ظهور نموذج الرئيس ترامب و تفكيك مركزية القرار الامريكي اثبت بشكل ما الثيمة الرئيسية للمقالة..

الان و قبل ايام حيث احتفلت القوى العالمية بذكرى الانتصار في الحرب العالمية الاولى فان مؤشرات اخرى فرضت نفسها... في البداية و لا ادري كيف يعتبر ذلك انتصار رغم ان لا احد يشك في ان الحرب العالمية الثانية كانت امتدادا "طبيعيا" للظروف و الدوافع التي أدت الى نشوب الحرب الاولى و النتائج الكارثية في مستوى الدمار و الهيمنة و الإقصاء التي صنعتها آلة الحرب و قواها المنتصرة و المنكسرة ... كما كانت الحرب العالمية الاولى هي نفسها امتداد للحروب الامبراطورية و صراع القوى الكبرى و المحلية على السلطة و الاقتصاد و الهيمنة السياسية و الاجتناعية...

لكن احد المؤشرات السياسية "الجديدة" التي تحدث عنها "المنتصرون" هو العودة الى الكلام عن الدولة الوطنية .. او اعادة بلورة مفهوم "الوطنية" في ظل اليات العولمة التي اختزلت و تجاوزت الحدود التقليدية لمفهوم الدولة و السيادة و المصالح الخارجية و الداخلية ... الخ..؟؟..

لاشك ان الكلام عن عودة "الروح الوطنية" ليست وليدة هذه الأيام فقد ظهرت في العديد من الدول الأوروبية قوى سياسية يسارية و يمينية اتسمت طروحاتها بنغمة معادية للعولمة و اليات السوق التي اختزلت القوى المحلية الى ما يشبه وكلاء كومبرادروية بسيطة في دورها و قوة تأثيرها على الساحة المحلية (الوطنية)... لكن سرعان ما تحولت هذه القوى السياسية "المعادية للعولمة" الى تكوينات تناهض الأجانب و تختزل "الوطنية" في أتون ايديولوجيا اثنو-عنصرية تذكرنا بظروف نشوء و هيمنة القوى النازية و الفاشيستية من حيث طبيعة تأويلها لمفاهيم "الانا الجمعية" و"الاخر غير محدد المعالم"... بدلا من الوقوف الجدي امام هيمنة قوى السوق و تفكيك اليات سيطرتها و هيكلياتها البنيوية ...

في محاولة للتهرب من هذه المقاربة التاريخية حاول الرئيس الفرنسي ماكرون الذي استضاف احتفالات النصر ان يفرق بين مفهومي "القومية" و "الوطنية" التقليدين و الذين شكلا أساساً للحروب العنصرية و الاستعمار الاقتصادي و العسكري .. حيث قال الرئيس ماكرون ... انا لا ادعو الى القومية و لا الوطنية ذات الحدود المقفلة... انا ادعو الى الاولوية الوطنية في تحديد السياسيات و العلاقات مع القوى الدولية... !!!.

بشكل يبدو ان الرئيس ماكرون لم يكن موفقا تماما في محاولاته إسدال صبغة معرفية لمشروع "امريكا اولا" ... هذا المشروع الذي احتل العناوين و الاهتمام العالمي منذ ان نطق به ترامب .. رغم ان الطرح ليس جديدا كما ذكرنا في اوروبا و غيرها من بلدان العالم و منها بعض دول الشرق الأوسط (وان كانت الدوافع و الرؤى مختلفة)... لكن مصطلح "الوطن اولا" يعود الى عقود ... و لذلك فان اعادة بلورتها الان في المجتمعات الغربية و خاصة في دول تهيمن على اليات العولمة تمثل اشكالية آنية و مستقبلية في تطور العلاقات في العالم ...

هنا اعتقد ان العودة الى طروحات "الوطنية و الوطن اولا" إنما تمثل مرحلة جديدة من مراحل تطور اليات العولمة حيث انها من ناحية توفر إمكانية تهرب القوى المهيمنة في العالم من المسؤلية الدولية وفق القوانين و الاتفاقيات و غيرها ... و من ناحية ثانية تخلق مساحة شاسعة للدول الكبرى لتحقيق مصالحها "الوطنية" وفق اليات و أخلاقيات تحددها ذاتيا دون الرجوع الى مستلزمات الالتزام بحدود السيادة و الخارطة الجغرافية و الاقتصادية للدول الاخرى..

بكلام اخر ... نحن ازاء حالة من التراجع التاريخي و التخلي عن مفهوم التنظيم المجتمعي الضامن لحقوق و وجود الكيانات المادية و الانسانية معنى الدول و المؤسسات و المنظمات و المصالح و كذلك الانسان أفراداً او جماعات...

هذه الحالة تعيد التاريخ الى مجموعة الهيكليات و الاليات التي كانت سائدة في عهد الإمبراطوريات السابقة حيث ان القوى العسكرية السياسة الاقتصادية كانت تتمدد و تتقلص وفق منطق القوة و الصراع المفتوح حيث لا حدود للطموحات و لا احترام للكيانات الاخرى ... و هي الحالة التي بنيت على أنقاضها مفهوم توازن القوى في بدايات ظهور الدولة القومية و التي على اساسها ايضا انتشرت ثقافة الاستقرار السياسي و المجتمعي في اطار حدود سيادة الدولة...

مفهوم سيادة الدولة تعرض الى اختراقات كبيرة في ظل اليات العولمة خلال العقود الثلاث الاخيرة... و تفريغ القانون الدولي و الاتفاقيات الدولية من قيمتها الإجرائية اصبح من هوايات الرئيس ترامب و استعراض القوة السياسي و الأيديولوجي و التنظيمي للقوى الشعبوية في أوروبا شرقها و غربها و في الولايات المتحدة و امتداد ذلك الى بعض دول العالم الثالث يمثل جرسا يرن بقوة... هل يجب ان نعتنق فكرة ان "الإمبراطوريات عائدة و على قيم احترام حقوق الانسان السلام"..؟؟.. ربما..!!

في المقالة القادمة سنتحدث عن مآلات هذا التطور في الفكر و المشاريع السياسية على امكانات المحليات "الدول الصغيرة و الضعيفة و قواها المختلفة" على التعاطي مع هذه الاشكالية ...حبي للجميع.








 

* اكاديمي عراقي - الدنمارك

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter