|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  31  / 7 / 2016                                 عادل حبة                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الانقلاب التركي ما هو إلاّ تصفية حسابات وصراع على الغنائم
بين تيارات الإسلام السياسي وذريعة للانقلاب على الديمقراطية ؟؟

عادل حبه
(موقع الناس)

تعد محاولة الانقلاب العسكري التي حدثت في ليلة الخامس عشر من تموز في تركيا المحاولة الخامسة التي يقوم بها الجنرالات الأتراك منذ عقد الستينيات. وعلى الرغم من أن هناك الكثير من الأمور الغامضة التي أحاطت بالانقلاب الأخير، إلاّ أن هذا الانقلاب يختلف عن كل الانقلابات التي أقدم عليها الجنرالات الأتراك. فطرفي الصراع هما أنصار التيارات الدينية المتطرفة، جناح أردوگان الطامح إلى إحياء تراث السلطنة العثمانية وجناح فتح الله گولن الذي يسعى إلى إحياء تراث خلافة "النبوة". ولذا فإن المواجهة التي جرت في 15 تموز الماضي هي ليست مواجهة بين مراكز أيديولوجية متعارضة، بل بين زمر تتمتع بقاعدة اجتماعية وهويات وايديولوجية متشابهة. وعلى هذا فإن الصراع ليس بين التيار السلفي المتطرف وبين التيار العلماني، بل يمثل إنشقاقاً خطيراً في التيار السلفي الديني المتطرف، وهو إشارة خطيرة إلى الهوة والمواجهة الدموية في داخل هذا التيار رغم إنحياز أجنحة في المؤسسة العسكرية والأمنية لهذا الطرف أو ذاك بما يمثل ظاهرة خطيرة لم تشهدها المؤسسة العسكرية التركية من قبل.

كما اتسمت هذه المحاولة، خلافاً لسابقاتها، بالعنف والمواجهات الحادة والدموية من قبل كلا الطرفين المتنازعين، حيث راح ضحيتها المئات في سابقة لم تشهدها كل الانقلابات السابقة. فجميع الانقلابات السابقة كانت انقلابات "بيضاء" لم تسكب فيها قطرة دم أثناء تنفيذها. ويلاحظ في المحاولة الانقلابية الأخيرة استعداد مسبق في تأسيس ميليشيات أنصار حزب العدالة والتنمية لمواجهة أي انقلاب عسكري محتمل ضده، إضافة إلى وجود خشية لدى الشارع التركي من عودة حكم الجنرالات السابق وإزالة المظاهر المقننة للديمقراطية في تركيا. لقد لعب هذان العاملان دوراً حاسماً في فشل الانقلاب.

لقد قضى الانقلاب الأخير على ظاهرة ازدواج السلطة والصراع المبطن في داخلها بين حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان وبين "حركة گولن" بزعامة فتح الله گولن الذي كان يبدي تأثيره وضغوطه على حكم من وراء الستار، ويمثل التيار الأكثر تطرفاَ من تيار رجب طيب اردوگان رغم أواصر العمل المشترك في السابق والتمويل الذي كان يقدمه فتح الله گولن لحزب العدالة والتنمية وموقفهما المشترك تجاه دعم التيارات الدينية المتطرفة والارهابية. فقد سخّر كلا القطبين، كل امكانيات حكومة حزب العدالة والتنمية وما يتمتع به تيار فتح الله من امكانيات لوجستية ومالية ونفوذ في مؤسسات الدولة وخارجها تحت تصرف الارهاب الدولي. وتحولت تركية إلى محور وقاعدة وموقع لوجيستي لانتعاش التيارات الارهابية الأكثر تطرفاً لنشر الارهاب في المنطقة وخاصة في العراق وسوريا، وفي خارجها.

إن هذا الصراع بين التيارات الدينية هي ظاهرة مرضية أصيبت بها كل الحركات الدينية المتطرفة رغم الشعارات التي ترفعها حول "الأمة الاسلامية"، ورغم ما يجمع كل هذه الحركات من التزام بالأركان الخمسة للأسلام. فجميع هذه الحركات لا تخوض في نشر الدين والتعريف به بقدر ما يهمها السطو على المال العام وتكديس الثروة وبناء مؤسسة مالية واقتصادية ضخمة، وهذا ما يجعل الدافع الرئيس للصراع هو السطوعلى الغنائم والجاه والسيطرة على عقول العامة. وتشترك كل الحركات الدينية المتطرفة وخاصة الاسلامية في سعيها لتكديس الثروة بشكل جعل من هذه الحركات صاحبة سلسلة من البنوك "الاسلامية" وشركات عملاقة بما فيها شركات الطيران وقنوات إذاعية وتلفزيونية وعقارات وحتى شراء محلات بكاملها في داخل بلدانها وفي بلدان "الكفر" كما يصفونها.

وخير شاهد على ذلك الثروات التي تتمتع بها هذه الأحزاب الدينية في بلد يعاني من الضائقة الاقتصادية كالعراق.وهكذا يدخل المال في لب الصراع بين التيارين في تركية بحيث يؤدي إلى هذه المواجهة الخطيرة الأخيرة التي ستدخل تركية في نفق خطير جدا. كما نجد هذه الظاهرة في الصراعات القائمة بين التيارات الدينية المتطرفة في العراق وسوريا وليبيا وتونس على اختلاف ألوانها، حيث لا تتنافس هذه الأحزاب على إرساء مشاعر الرحمة والتكافل وتوزيع الثروة بشكل عادل بقدر ما تتنافس على جني المال. ونجد الظاهرة نفسها في الصراعات التي يخوضها حزب الله في لبنان بحيث قام بتصفية كل من ينافسه في حركة " المقاومة" سواء أكان علمانياً أو دينياً. كما نشهد ذلك في الساحة السورية حيث تجري مواجهات دامية بين مختلف التيارات الدينية المسلحة المتطرفة. ويضاف إلى ذلك حملات التصفية التي قام بها التيار الديني المتطرف في ايران، فلم يشن حملاته ضد القوى الديمقراطية والوطنية فحسب، بل راح يلاحق جميع التيارات الدينية وبضمنها من ناصر الثورة الإيرانية والخميني لفترة طويلة. كل ذلك يتم تحت ذريعة احتكار الحقيقة الدينية دون الآخرين والتحدث نيابة عن الخالق تحت شعار "ولاية الفقيه"، كي يتم التستر على الدافع الرئيس وهو الهيمنة على المال العام واحتكار السلطة. وفي هذا لا تختلف كل الحركات الدينية المتطرفة والمسلحة التي توجت شرورها بظاهرة "داعش" أخيراً.


اللعب بالورقة الدينية الطائفية

إن ما حدث في تركية ليس انقلاباً واحداً، بل انقلابين متتابعين. الأول كما تؤكد عليه وكالات الأنباء هو تحرك وحدات من الجيش بتشجيع أو بإلهام من قبل "حركة گولن"، الذي استغل الاستياء الذي عم الجيش جراء حملات التطهير التي قام بها رجب طيب أردوگان ضد القوات المسلحة وسعيه لأزالة أي تهديد له من قبلها. وما أن بانت ملامح فشل الانقلاب حتى قام أردوگان بتنفيذ مخطط انقلاب ثان كي يفرض هيمنة حزبه وشخصه وفرض الاستبداد الديني على البلاد، وهو يفسر كمسعى لتشويه معالم الديمقراطية والنظام العلماني الذي شق طريقه في البلاد في السنوات الأخيرة. فقد اعتبر أردوگان أن الانقلاب هو :" هبة ولطف من الله كي نقوم بتطهير جيش البلاد ".

ونتيجة لذلك شرع أردوگان بإعلان حالة الطوارئ وحل الحرس الرئاسي واغلاق أبواب 1543 مرفق تعليمي و 1299 جمعية و2020 من الأوقاف الدينية و 35 مستشفى ومرفق صحي و 19 نقابة عمالية و 15 جامعة، بعضها يعود إلى "حركة گولن" وبعضها الآخر يعود إلى الأحزاب المعارضة. كما جرى اعتقال نصف عدد جنرالات الجيش التركي البالغ 358 جنرالاً. وحسب بيان للحزب الشيوعي التركي صادر في 23 تموز الماضي، فإن حملة الاعتقالات والتطهير شملت 100 ألف مواطن تركي عسكري ومدني وفي سلك التعليم، وتم طرد 21 ألف معلم و 1500 عميد كلية من العمل. كما شملت الحملة اعتقال 18 ألف عسكري ومدني وصحفي، ومن ضمنهم 8000 من أفراد الشرطة و 1600 من أفراد الجيش.

لقد وصف الروائي التركي أليف شفق لصحيفة "ورلد بوست" ما حدث بعد فشل الانقلاب على أنه بمثابة "دق المسمار في نعش الديمقراطية وانتقال السلطة كلياً بيد الرجل القوي أردوگان. فتراجعت البلاد إلى 20 سنة إلى الوراء. وستنتقل البلاد إلى حالة من الغلو والتطرف الديني والقومي وعدم التسامح وجنون العظمة، وبالطبع الهيمنة الذكورية وتهميش النساء. إن الديمقراطية الحقيقية تحتاج إلى الأخذ بمبدأ فصل السلطات وسيادة القانون وحرية التعبير وضمان حقوق المرأة وحرية الصحافة والاعلام واستقال المؤسسات الاكاديمية. ويمكن أن تكون لديك الأغلبية بدون هذه العناصر، ولكن هذه الأغلبية ليست هي الديمقراطية". وليس من قبيل الصدفة أن يعلن رئيس البرلمان الوطني التركي اسماعيل قهرمان أن "من الواجب أن لا يتضمن القانون الأساسي الجديد في تركية مبدأ العلمانية، والاستعاضة عنه بالقوانين المذهبية"، أي أن تركية ستدشن مرحلة جديدة جرى التحضير لها منذ عقد، حيث تتحول تركية الى حكم ديني وعسكري محافظ يؤمّن الانتصار الكامل للتيار الديني المتشدد على نظام الحكم في البلاد. لقد عمل أردوگان منذ بداية حكمه على تصفية مظاهر الديمقراطية، هذه الديمقراطية التي مهدت له الطريق للحكم. إنه يسير على نفس خطى التطرف الديني في إيران أيضاً بعد الثورة الإيرانية. فالتيار الديني المتطرف في كل مكان لا ينظر إلى الديمقراطية سوى وسيلة للوصول إلى كرسي الحكم، ثم يعقبها تصفية كل المظاهر الديمقراطية وفرض الاستبداد الديني. وليس من قبيل المصادفة أن يعلن أردوگان في عام 1996 إن :" الديمقراطية ليست هدفاً، فهي على شاكلة ترامواي المدينة الذي يتم الاستفادة منه للوصول إلى الهدف ثم تغادرونه بعد ذلك. إننا لا نؤمن بأن الهدف هو الديمقراطية، بل هي وسيلة من أجل بلوغ الهدف"، أي استلام السلطة وفرض الاستبداد الديني الطائفي.

إن هذا المنهج الذي يتبعه أردوگان وحزبه لا ينفصل عن أحلامهما في إحياء التراث الاستبدادي المشين للدولة العثمانية، وفرض نفوذه على الدول الإقليمية المحيطة بستار من التطرف الطائفي الديني. ولذا فإنه غالباً ما يتحدث في خطاباته الحماسية مستخدماً عبارات واصطلاحات "المدن الشقيقة" كدمشق وبيروت ومكة والمدينة والقاهرة ويتغزل ببغداد كتعبير عن طموحاته ومسعاه في إحياء النفوذ العثماني السيء الصيت على هذه المدن. هذه الطموحات تدغدغ المشاعر الطائفية والقومية المتطرفة عند أنصاره في تركية، بحيث أن رئيس البرلمان التركي شبّه أردوگان بسليمان الفاتح وغيرها من الصفات المدانة العثمانية من ناحية، كما إنها تدغدغ مشاعر بعض فرسان وسياسيي التطرف الطائفي في العراق وسوريا وغيرها من بلدان المحيط الاقليمي التي تحلم بالاقاليم الطائفية وتشحن مشاعر التطرف الطائفي المقيت التي لم تجلب لأهالي الموصل ومدن الانبار سوى الدمار والهلاك والعسف بعد سطو داعش على المدن بدعم من حكام تركية ومعارضيهم المتطرفين.

إن الذي شجع أنصار فتح الله گولن على التحرك ضد رجب طيب أردوغان هو المأزق الذي نصبه أردوگان لنفسه جراء تدخله الفظ في الشأن السوري والعراقي وفي دول المنطقة الأخرى والفشل الذي أحاط بكل مشاريعه وتدخلاته، إضافة إلى الأزمة التي فجرها مع روسية إثر اسقاط الطائرة الروسية وما جرّه كل ذلك من آثار مدمرة على الاقتصاد التركي وعلاقات ومكانة تركية الدولية. ويضاف إلى كل ذلك فشل أردوغان في ترتيب علاقاته مع الدول الأوربية وفشله في الحصول إلى أذن الانخراط في الاتحاد الأوربي، وما يشكل ذلك من توتر في علاقة تركية مع الغرب وآثاره الاقتصادية والسياسة وتصاعد موجة النقد للحكم في تركية من قبل الدول الغربية وبضمنها حليفة تركية الأساسية الولايات المتحدة الأمريكية.


لعبة الولايات المتحدة

كل هذه العوامل الداخلية والخارجية، دفعت فتح الله گولن وأنصاره في القوات المسلحة إلى التحرك صوب الانقلاب العسكري لتحقيق مآربهم. ولا يستبعد بعض المراقبين للشأن التركي بأن خيار الانقلاب قد جرى بفعل ضوء أخضر من الولايات المتحدة أو من قبل أجهزة فيها. وهناك الكثير من الأمثلة التاريخية على ذلك. بالطبع لا يحوّل هذا التدخل الخارجي رجب طيب أردوگان إلى بطل قومي تحرري معادي للأمبريالية، فحاله حال صدام حسين ونورويغا والقذافي من الذين كانوا يلعبون على الحبال في حلبة الصراعات الدولية.

وعلى الرغم من أن رجب طيب أردوغان عزز مواقعه في السلطة إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة، ووجه ضربة موجعة لحركة گولن، وسنحت له الفرصة لعرض نفسه على الشارع التركي كضحية لانقلاب العسكر ومدافع عن الديمقراطية، وتعزيز موقعه في حركته، إلاّ أنه ورث دولة مدمرة مريضة كحال الرجل المريض الذي خلفه السلاطين العثمانيين، وسيتعرض إلى تهديد دائم من الجهاز البيروقراطي التركي المدني والعسكري، وإلى ضغوط دولية غربية ومصاعب اقتصادية جمة نتيجة لذلك مما يضعف موقعه في إرساء نظام ديني طائفي في البلاد، وفي مواجهة الصراعات والتناقضات الداخلية والتهديد من قبل معارضيه في الحركة الكمالية والتيار اليساري والديمقراطي والحركة القومية الكردية والمجاميع الطائفية الأخرى، مما سيدفع تركية إلى الانزلاق في نفق مظلم في حالة إصرار حزب العدالة والتنمية في تنفيذ مخططاته.

إن الانقلاب وتبعاته يطرح أمام القوى الديمقراطية واليسارية في تركية مهمة التصدي لفرض الاستبداد الديني الطائفي على البلاد وانقاذها من مغبة الانزلاق إلى النفق المظلم. وأمام هذه القوى مهمتين أساسيتين هي توحيد هذه التيارات على أساس برنامج ديمقراطي للتحول السلمي صوب الديمقراطية ومعالجة التشتت في صفوفها من جهة، ومن جهة أخرى التخلي عن الأسلوب العنفي والمغامرة ومواجهة النظام بالعنف ، هذا الطريق الذي ثبت عدم جدواه عبر العقود التي مرت وحتى الآن وخاصة بقدر ما يتعلق بحزب العمال الكردستاني. إنها فرصة أمام هذه التيارات اليسارية والديمقراطية كي تستغل الصراع الدموي والانشقاق الخطير في صفوف التيار الاسلامي الطائفي المتطرف والموقف الدولي والاقليمي السلبي تجاه حكومة حزب العدالة والتنمية. أما بالنسبة إلى القوى السياسية العراقية التي راهنت على خيار حكم العدالة والتنمية واستخدام ورقته في الصراعات العبثية في العراق إلى حد التمهيد لتغلغل عساكره إلى الأراضي العراقية وبناء قواعد له، فهو الرهان الفاشل بعينه. فحكم "العدالة والتنمية" هو الرجل المريض، وعلى هذه القوى العراقية الكف عن المراهنة على ورقة الحكام الاتراك أو على ورقة أنظمة فاشلة أخرى كنظيرها التركي، وأن تركن إلى خيار الهوية الوطنية والحوار الوطني بعيداً عن المرض الطائفي أو القومي المتطرف، وعدم اللجوء إلى العامل الخارجي والارتهان إليه وإلى مخططاته، وعدم السماح للتدخل الخارجي أياً كان مصدره ولونه، وأن تلجأ إلى حل المشاكل عبر المؤسسات العراقية المنتخبة دون الاعتماد على العامل الخارجي في قيادة سفينة البلاد إلى جادة السلام والاستقرار والبناء.



30/7/2016


 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter