|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  28  / 10 / 2005                                 يوسف أبو الفوز                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

أوراق عائلية ـ 2

 انا وزوجتي و" مام جلال "

يوسف أبو الفوز
(موقع الناس)

الهاتف المحمول ، "الموبايل " ، هذا الجهاز العجيب ، الذي كان العراقيون في زمن صدام حسين يرونه في الاحلام فقط ، بينما في بقية دول العالم دخل كل بيت وغيّر من طريقة حياة الناس ، بل وحتى من طباع الشعوب . المعروف عن الاوربيين انهم ناس قليلوا الكلام ، تعالوا وشاهدوا كيف ان الهاتف المحمول غيرهم تماما واطلق السنتهم ، وصار الاوربي ثرثارا وبأمتياز . تركب في قطار الضواحي ، في طريقك الى بيتك ، متعبا بعد نهار طويل مزدحم بالكثير من الاشغال ، وتشعر بحاجتك للوصول الى بيتك والاستلقاء في فراشك والنوم فورا ، دون الحاجة الى متابعة التلفزيون وما يعرض من فضاعات جرائم الارهابيين اليومية في وطنك العراق ، من قتل نساء واطفال ابرياء بحجة مقاومة الأحتلال ، في المقعد المجاور لك تجلس سيدة ، محترمة ، تحاول خفض صوتها ، لكنك تسمع كل شئ عن برنامج عملها لاسبوع كامل وبما في ذلك قائمة مشترياتها التي قدمتها في تقرير مفصل لصاحبتها على الهاتف المحمول . وتسمع من اخرين ، وصفات طبخات اكل لا تعرف لها اسم ، وتقارير عن تطورات المزاج العاطفي لكلب اسمه " طومي " ، ونوايا للمساهمة في حفل عيد ميلاد ، واعتراض على مشروع تشييد عمارة سكنية ، و... ، وانتقلت العدوى الى العراقيين بسرعة ، كأنها المخاوف من انفلونزا الطيور. ها أنك تحضر مجلس تعزية ، وترن الهواتف المحمولة ، مثل فرقة سيمفونية تقدم عروضها الموسيقية ، ويبدو البعض كريما ويطيل الوقت في اخراج هاتفه للرد حتى يمنحك الفرصة الكاملة لاستماع واستعياب الشارة الموسيقية المتميزة التي حصل عليها بعد جهد بالغ لتكون علامة بارزة متميزة له . تسمع مكالمات لا حصر لها من زوجات وابناء وعمال وشركاء ، ومجبرا عليك ان تسمع كل شئ ، ومجبرا تعرف خصوصيات الاخرين :
ـ يا بنت الناس ساكون عندكم بعد ساعتين ، سأهاتفك حالما اغادر المكان وبعدها وضحي لي ما المشكلة .
ـ صديقي العزيز ، اسف جدا ، انا الان في مجلس تعزية لا استطيع الكلام اكثر ، المبلغ جاهز وسيكون عندك في اقرب فرصة فقط اصبر لي يومين او ثلاثة لانجز بعض الاشغال .
ـ لا عزيزي ، هذا النوع لا يناسبني ، اعرف ان زوجتي لا استطيع تغييرها ، فدعني الله يرحم والديك اغير سيارتي على مزاجي .
ـ لا عيني ، لا استطيع البيع بهذا السعر ، خسارة والله ، لا يناسبني .
ـ ....
وقاومت كثيرا ان يكون لي هاتف محمول ، ليس بخلا ، ولا تعففا ، ولا ... ، ولكني كنت اكره ان اضطر للاجابة والكلام ، واجبر الاخرين على سماع ما اقول ، اذ ربما فجأة يركبني شعور بأني خليفة الفارابي واترك نفسي اشرح نظريات الفلسفة بينما جليسي يتصور ان كلمة ليبرالية جاءت اشتقاق من كلمة " ليبيا " . كنت ـ ولا زلت ـ اعتبر الهاتف المحمول ورطة . ظلت زوجتي ولفترة تشاكسني بان رفضي الهاتف المحمول له علاقة بذلك الاعلان الذكي ، الذي تقف خلف صناعته كخبر شركة شهيرة لانتاج الهواتف المحمولة للتسويق لانتاجها ، وفي الوقت الذي رفضت نشره صحف اوربية ، نشر في بعض صحف الشرق الاوسط بأعتباره خبر صحفي ، ويتحدث الخبر ـ الاعلان عن تلك الزوجة التي اكتشفت خيانة زوجها بسبب نسيانه هاتفه المحمول ـ من ماركة كذا ـ مفتوحا فسمعت كل كلام الغزل والفحيح ، وبل وتمكنت من معرفة غريمتها . كنت ببساطة اقول لزوجتي :
ـ لا اريد ان ابدوا كالمجنون اتكلم وانا اسير لوحدي .
كم من مرات التفت الى شخص يسير بجانبي او خلفي ، وانا اظنه يحدثني ؟ كم من مرات اقابل ناس يتحدثون مع انفسهم ، خصوصا مع تطور التكنولوجيا حيث لم يعد الانسان مجبرا لحمل الهاتف بيده ، ليس اكثر من ازرار تعلق في اطراف الثياب ، وترى الشخص يضحك او يغضب مع نفسه وهو يسير في الشارع وتظنه مجنونا ، وتحتاج لبعض الوقت لتدرك انه يتحدث عبر ميكرفون الهاتف المحمول الدقيق المثبت في طرف سترته . وهكذا في يوم كالح ، مصخم ، ملطم ، في حياتي وجدتني اتورط وانضم الى جيش المجانين ، المستخدمين للهاتف المحمول ، على الاقل لامنح زوجتي فرصة لتتثبت من احداثيات وجودي :
ـ اين انت ؟
ـ في مركز المدينة .
ـ يعني اين ؟
ـ ليس بعيدا عن " المجزرة الاسلامية " .
ـ طيب ، اسأله عن موعد وصول حصتنا من اللحم الحلال .
وتغيرت اتجاهات المكالمات الهاتفية بعد ان حصلت زوجتي على اجازة قيادة السيارة ، وصارت تستخدم سيارتها الصغيرة في الذهاب الى العمل ومشاويرها اليومية ، فكنت ـ وخصوصا في الايام الاولى ـ اتصل بها لاعرف انها لا تزال حية ، ولم تعبر رصيفا ولم تدخل بوز سيارتها في لوحة اعلانات على الشارع ، ولم تفقس عين سيارة احد الجيران في موقف العمارة حيث نقيم . وبدأت اكتشف عوالم استخدامات الهاتف المحمول الكثيرة . فسوق المنافسة يجعل الشركات تلقي الى السوق كل يوم انواع جديدة ، وبمختلف الاستخدامات . ورحت اتسائل ، لو كان الهاتف المحمول متوفرا زمن الثورة الكوردية فهل استطاعت الحكومات العراقية المتعاقبة تحقيق اي نصر لها ؟ هاهم الارهابيون ، وهم يكفرون كل انسان ويذبحون كل من يخالفهم الراي ، يستخدمون الهواتف المحمولة ، المصنوعة في بلدان الكفر ، وينظمون منها شبكة واسعة نشطة من الاتصالات السريعة ، توفر لهم امكانية مراقبة شديدة وحيوية تنقل كل معلومة بلحظات ، وتحقق لهم كفاءة عالية في قتل وذبح الضحايا . وان كانت الشركات المصنعة ، تضع لانواع الهواتف سلسلة ارقام لتمييزها ، فابناء شعبنا العراقي تضع لانواع الهواتف اسماء والقابا طريفة . هكذا وجدتني اقتني هاتفا بيضويا ، قصيرا ، ببطن ممتلئة ، وجدت ان ابناء كوردستان يسمونه "مام جلال " . صار " مام جلال " بالنسبة لي مثل سكرتير شخصي ، اذ خزنت فيه كثير من المعلومات التي احتاجها في حياتي اليومية ، وصرت بدون " مام جلال " لا اتمكن من فعل اي شئ ، يرافقني الى كل مكان اذهب اليه ، حتى الى الحمام احيانا ، فهناك في بطنه تنام كل المعلومات الضرورية التي احتاجها ، ارقام هواتف ، عناوين ، ارقام حسابات بنكية ، ارقام مفاتيح مداخل بعض البنايات ، رسائل قصيرة صادرة وواردة ، وحتى صور التقطتها بعلم زوجتي او بغفلة عنها .

والى صيد الايائل اصطحبت " مام جلال " معي !
الى بلدة يعتبر اهلها مدينتهم تحتل موقعا على خارطة البلاد هو بموقع " السرة " في جسم الانسان ، كل عام يدعوني صديق رسام لتأمل الطبيعة والعيش لايام في في الغابات المترامية الاطراف ، والمساهمة في طقوس صيد الايائل . وانا اعد نفسي لرحلة الصيد ، التي تستمر عدة ايام ، كادت زوجتي ان تجعلني احمل بيتنا على كتفي في حقيبة تحوي كل ما تعتقد اني سأكون بحاجة اليه في الغابة ، حتى لا اعرضها الى النقد فيما لو عازني شئ ما . سألتني زوجتي عن وجود الدببة في المنطقة ، وكيف سنتصرف لو ظهرت فجأة امام مخيمنا . وكانت فرصتي لاروي لها اساطير الجنود العراقيين ، الذين يروون عن اناث الدببة التي تخطف الجنود وتصطحبهم الى الكهوف ، وتجبرهم على المعاشرة الجنسية لتنجب منهم اطفالا ، وكيف تلجأ الدبة الانثى الى لحس اقدام الجندي حتى لا يقو على الوقوف والهرب . ساعة مغادرتي ، وانا على سلم البناية ، وبدلا ان ترش خلفي حفنة ماء لتضمن عودتي ، مثلما كانت تفعل امهاتنا ، صاحت بي زوجتي بتأمر :
ـ خذ بالك لا يخطفك دب ارمل !

في الغابة ، اكتشفت كيف ان للهاتف المحمول اكثر من فائدة ، ودخل في عملية الصيد ايضا . لم يعد تقصي اثار الايائل وفضلاتها هو الطريقة الوحيدة لتتبع مسيرها . كانت مجموعة الصيد ترسم خطتها على الخارطة ، وتتوزع الى مجموعات ، مزودة باجهزة لاسلكي وهواتف محمولة ، وتمشط المنطقة ، وتدفع بالايائل بأتجاه مرمى بنادق الصيد . كنا مجموعة صيد من ثلاثة وعشرون شخصا ، بينا ثلاث سيدات . في المجموعة هناك خمس رماة مرخصون رسميا للصيد ، والبقية كنا متعقبي اثر ومطاردين. وكان سلاح المطاردين هو الصراخ والغناء واطلاق الاصوات بصوت عال لتجفل الايائل وتفر بأتجاه الفخ المنصوب لها . وهكذا توفرت لي فرصة في الغابة ليس لاغني بصوت عال ، فهذا الامر لا اجيده تماما ، ولكن لاشتم بصوت عال كل من احمل منه غيضا ، ولان القريبين مني من ابناء البلد لم يكونوا يفهمون كلماتي ، فلم اوفر شتيمة اعرفها لم اطلقها ، ضد ارهابيين ومجرمين وجلادين وخونة وانتهازيين وكذابين ومنافقين و... الخ . ضد ساسة واعلاميين وانصاف مثقفين و... الخ . ولم ينغص عليّ حريتي سوى " مام جلال" وهو يعزف " الفصول الاربعة " :
ـ اين انت ؟
ـ امارس حريتي في واحدة من اجمل تجلياتها الصراخ بصوت عال بكل ما هو مكبوت في داخلي .

ومن الغابة وعبر الهاتف المحمول راحت زوجتي وزميلاتها في العمل يسمعن صراخي ، وصواريخ شتائمي المنطلقة في مختلف الاتجاهات . وطااااااخ . نجحنا في اصطياد الحيوان الاول. ثم الثاني ، وفي غمرة الفرحة بالصيد الثمين وشق بطنه وتنظيفه وسحله ، ضاع مني "مام جلال ".

وعبثا بحثنا عنه ، انا وثلاثة اصدقاء عادوا معي . في وسط هذه الغابة الشاسعة ، حيث تتشابك الاغصان ، وحيث يسود الظلام ، كان من المستحيل العثور عليه رغم اعتماد اكثر من طريقة ، منها الاتصال ب" مام جلال " علنا نسمع صوته . واذا لم اكن قلقا كثيرا بسبب ضياعه ، فأنا مطمأن الى ان زوجتي لن تعاركني بحجة ارباك الميزانية ، فشركة التأمين ستعيد لي جزء من ثمن الهاتف المحمول المفقود ، لكن الشركة لن تعيد لي ارقام هواتف اصدقائي ومعارفي وكل المعلومات التي تحويها بطن "مام جلال " التي اكلها غصبا عني وضاعت مني ، وكانت خسارتي كبيرة بسببه . لكن وبحكم كون الغابة ، مكانا لمرور وعيش الدببة ، التي وخلال تعقبنا الايائل لاحظنا اثارها جيدا ، فقدت برزت امامي فرضية امكانية عثور دب او دبة على " مام جلال " في الغابة واصطحابه معه الى كهف ما ، وعندها كان علي التفكير بطريقة لاعلام اصدقائي المقربين على الاقل ، بأني لست مسؤولا وليس لي علاقة بأي مكالمة غريبة تصلهم من دب او دبة وتاتيهم عبر" مام جلال " ، فالنسبة لي اعلن هنا وفي كل مكان بأني انهيت خدماته عندي من زمن ، وغسلت يدي منه في سبع شطوط .



سماوة القطب
 

*  أوراق عائلية ـ 1



 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter