|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  18 / 7 / 2015                                د. عدنان الظاهر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

عِشْ أنتَ

د. عدنان الظاهر

( قصيدة للشاعر اللبناني بشارة الخوري / الأخطل الصغير لحّنها وغنّاها فريد الأطرش في آخر أفلامه : زمان يا حب حيث توفي في السادس والعشرين من شهر كانون الأول عام 1974 ).

ما مناسبة هذه المقالة أو الخاطرة القصيرة ؟
مناسبتها ما أعتقد جازماً أنَّ في مطلع هذه القصيدة خطأٌ منطقياً وشعريّاً بقيتُ على الدوام أفكّر فيه وأتحين الفُرص المناسبة للكتابة عن هذا الخطأ وكشف ما فيه من خطأ وخطل وأتساءلُ كيف جاز هذا العوار على شاعر القصيدة المعروف الأستاذ بشارة الخوري ثم كيف فات مغنّي القصيدة فريد الأطرش فغناه كما هو وكما كتبه الشاعر ثم كيف لم يلفت نظره المحيطون به من أصدقاء وشعراء وغيرهم فلحنه وغناه كما جاء في القصيدة الأصل.
يقول البيت الأول في هذه القصيدة :

عِشْ أنتَ إني مُتُ بعدكْ
وأطلْ إلى ما شئتَ صَدّكْ

أجلْ، الخطأ المنطقي شديد الوضوح يصرخُ أنَّ الخطأ هنا قتّال لا يمكن السكوت عليه إذْ أراد الشاعر أنْ يقولَ إنه يموت قبل محبوبه لأنه لا يحتمل عذاب وآلام فراقه وإنه يروح فداءً لهذا المعشوق وأُضحية له لكي يواصل البقاء حيّاً يُرزق فكيف كانت نتيجة هذا البيت الشعري ومنتوجه المنطقي غير المألوف وغير المتوقع ؟ جاءت بالعكس وبالضد من رغبة العاشق الصب المُتيّم : أنْ ينفق المعشوق قبل العاشق أو أنْ يموت العاشق بعد صاحبه فأية رغبة وأمنية مُنكرة يتمناها محبٌّ لمن أحب ؟ كيف يا عاشق تريد من معشوقك أنْ يموت قبلك أي أنك تتمنى لنفسك لا لمن عشقتَ طول العمر فأيُّ محب عاشق أنت يا هذا ؟
المفروض أنْ يقولَ :

عِشْ أنتَ إني مُتُ قبلكْ

أي أني أروح لك فداءً أفديك بروحي كما كانت أمّهاتنا تقول لنا في الكثير من المناسبات وفي شتّى مراحل أعمارنا.
لم يغادرني هذا الهاجس منذ اليوم الذي تعرّفتُ فيه على هذه القصيدة وخاصة بعد أنْ سمعتها مُغنّاة بلحن وصوت الراحل فريد الأطرش الرائعين. نسيتُ الموضوع جُملةً وتفصيلاً تقريباً حتى جاء يومٌ وجدتني فيه وجهاً لوجه مع قصة " مُتُ قبلك " كيف وأين ومتى ؟

وجدتُ في إحدى مطالعاتي في كتاب " البيان والتبيين " للجاحظ (1) ما يلي :
(( وقال إبراهيم بن سيابة : أنا لا أقولُ مِتُّ قبلك لأني إذا قلتُ متُّ قبلك مات هو بعدي ولكن أقولُ متُّ بدلك )).
كيف جانب هذا الرجل الصواب فأخطأ وانحرفَ عن جادةّ السواء ؟

لم يُبن هذا الرجل القصد وراء قوله هذا وهل قصد به شخصاً عزيزاً أو حبيباً أو غيرهما من المقرّبين إليه ؟ قوله " متُّ بدلك " يعني أني أروح لك فداء أو نفسي لك فداء أو أفتديك بروحي وهذا قول متداول ومعروف في الكثير من مناطق العراق شمالاً ووسطاً وجنوباً وليس فيه جديد يُلفت النظر ويبقى إعتراضي هو هو وكما كان قبل التعرف على قول هذا الرجل إبراهيم بن سيابة سوى أنه أكدَّ صحة ومنطقية السياق المترتب على تسلسل الموت وعواقب هذا الموت والفرق بين أنْ يموت العاشق قبل أو أنْ يموتَ بعد معشوقه ودلالة ذلك الحياتية والنفسية.

هل مرّت هذه الخاطرة في ذهن الشاعر بشارة الخوري حين كتب قصيدته عشْ أنتَ إني مُتُّ بعدك وهل كان قد قرأ أصلاً ما قال إبراهيم بن سيابة ؟

ليس معقولاً أنْ لا يعرف شاعر ومثقف كبير مثل بشارة الخوري الفرق بين الموت قبل والموت بعد المحبوب المعبود .... ليس من المعقول ذلك أبداً أبداً. إذاً ما تفسير الخطأ الذي أوقع نفسه فيه فقال عكس ما كان يريد قوله وضد المتوقع والمأمول منه ؟

ليس لديَّ ديوان الشاعر بشارة الخوري لكني أستطيع إرفاق الفيديو الخاص بأغنية فريد الأطرش " عشْ أنتَ " لمن يود الإستمتاع بسماعها والوقوف على إعتراضي ووجهة نظري لعلي غير مُصيب ولعلَّ مَنْ يصحح خطأي مشكوراً ويُريحني من هذا العبء الذي رافقني زمنأ خاصة حين يطيب لي سماع القصيدة مُغناة بصوت فريد الأطرش.

لعلّ من الطريف إضافة معلومة جديدة فوجئت بها قبل قليل إذْ وضعت الصُدف الجميلة أمامي تسجيلاً كنت أجهله يغني فيه فريد أغنية عشْ أنت في حفل خاص أُقيم لمناسبة معينة في عام 1972 أي قبل فيلم زمان يا حب بحوالي عامين وقد أهدى فريد هذه الأغنية لعبد الحليم حافظ وكان وقتها مريضاً يرقد في أحد المستشفيات ولمطلع القصيدة دلالة كبيرة الأثر ( عِشْ أنت ) يا حليم حافظ !
بعض أبيات هذه القصيدة :

أنقى من الفجرِ الضحوكِ وقد أعرتَ الفجرَ خدّكْ
وأرقُّ من طبعِ النسيمِ فهل خلعتَ عليهِ بُردكْ
وألذُّ من كأسِ النديمِ وقد أَبحتَ الكأسَ شهدكْ

أتصور الأبيات هكذا أو في بعضها خلل فأعتذر سَلَفاً وأتحجج بأنَّ الخلل في الذاكرة المسكينة التي نعلّق عليها أخطاءنا وعيوبنا فيا أيتها المسكينة الراضية المرضيّة اصبري وتحمّلي فلقد صبرنا قبلك وتحمّلنا ما لم تتحملي لا من قبل ولا من بعدُ !


فيديو أغنية وقصيدة عِشْ أنتَ
https://www.youtube.com/watch?v=sLsATBfCqeM

(1) البيان والتبيين / تأليف أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ / الجزء الثاني الصفحة 136 ، الناشر : مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع والتصدير، 2010 القاهرة الطبعة الأولى.


تموز 2015


 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter