|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  15 / 11 / 2014                                د. عدنان الظاهر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ما أشبه اليوم بالبارحة

د. عدنان الظاهر

هل يُعيدُ التاريخُ نفسه كلاًّ أو جزءاً... متى ولماذا وكيف ؟
عانى العراق بعد احتلاله عام 2003 من قبل أمريكا وحلفائها من أمور كثيرة شتّى يعرفها الجميع ولكن تلفت النظرمماطلة إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في أمر تسليح وتدريب الجيش العراقي رغم الإتفاقية العسكرية ـ الأمنية التي وقّعها العراق مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والتي طبّل لها وزمّر بالصوت العالي كلٌّ من وزير الخارجية يومذاك السيد هوشيار زيباري ثم الرئيس العراقي السابق مام جلال طالباني من أنها ستضع حداً لسيف البند السابع سئّ الصيت وستحرره من قيوده ومن تبعات هذه القيود. أجلْ، ماطلت إدارة أوباما ولم تلتزم بما وعدت وتركت الجيش العراقي وقواه الأمنية من غير سلاح ومن غير تدريب بل وأنكى من ذلك لم تُسلّم هذه الإدارة العراقَ الطائرات التي دفع ثمنها وأشيع في حينه أنَّ أمريكا واقعة تحت ضغطين هما ممانعة إسرائيل لتنفيذ هذه الصفقة ثم إعتراض حكومة إقليم كردستان بزعم أنَّ الجيش العراق وسلاحه الجوي سيستخدمان هذه الأسلحة والطائرات الحربية الأمريكية لضرب الكرد في شمال العراق كما كان يفعل بهم صدام حسين ! والنتيجة ؟ حين وقعت الواقعة ودخلت القاعدة ثم داعش على الخط واحتلتا محافظات بكاملها وأراضيَ عراقية شاسعة وقف الجيش العراق عاجزاً عن الدفاع عن حدود وأرض العراق بل وعاجزاً حتى عن الدفاع عن نفسه.

الآن ، أمامي كتاب (1) وضعه المرحوم الفريق الأول الركن صالح صائب مُحمّد الجبوري رئيس أركان الجيش العراقي الأسبق للفترة 1944 ـ 1951 تعرّض فيه إلى هذه المسألة بالذات ولكن كانت مع المستعمر البريطاني لا المحتل الأمريكي وكلاهما زعما أنهما جاءا العراقَ محررين لا فاتحين وكلمة جنرال مود البريطاني بهذا الشأن معروفة للكثير من العراقيين. حين أصرَّ صالح صائب الجبوري على ضرورة تسليح الجيش العراقي وواظب على إصراره قرر الإنكليز إبعاده عن رئاسة أركان الجيش ونفذ الوصي عبد الأله قرار الإنكليز فأبعد هذا الضابط الشهم والوطني الغيور وأصدر أمراً بتعيينه عضواً في مجلس الأعيان (
الصفحتان 309 و 310 من الكتاب) . من الطريف ذكر تعليق رئيس الوزراء نوري السعيد على ما قال الوصي لوزير الدفاع يومذاك شاكر الوادي من أنَّ الجهات البريطانية وافقت على تجهيز الجيش العراقي بالأسلحة والمهمات التي يحتاجها وربط ذلك بضرورة إجراء تغيير في رئاسة أركان الجيش وقيادة الفرق ... علّق نوري السعيد قائلاً : (ليت الأسلحة التي يعطونها لنا تساوي ثمن تنفيذ مطالبهم / الصفحتان 312 ـ 313).

عرض المرحوم الجبوري هذا الموضوع بكل دقة وموضوعية معززاً بالقرائن والأدلة والكتب الرسمية ولا سيّما الرسائل الخاصة المتبادلة بين السفارة البريطانية في بغداد ووزارة الخارجية في لندن إذْ نشر لها نسخاً مصوّرة بالأسماء والتواريخ والأدلة.

يكفي أنْ أنقل ترجمة واحدة من هذه الرسائل ليعرف العراقيون اليوم أثر وآثار تدخل سفارات وحكومات المحتلين والمستعمرين في شؤون العراق الداخلية ويجدون من يتعاون معهم وينفّذ ما يطلبون :

سرّي
السفارة البريطانية
بغداد
18/تموز ـ يوليو 1951

سيكون من المثير لإهتمامك أنْ تعلم أنَّ استقالة رئيس أركان الجيش العراقي، والتي كنا نعمل من أجلها منذ فترة ليست بالقصيرة، قد تمّت أخيراً. وقد قام معاون ملحقنا العسكري بإبراق هذه المعلومات إلى وزارة الحرب ونسخة منها إلى " روبرتسون " . آملُ أنْ تكون هذه هي الخطوة الأولى لسلسلة من التبدّلات في القيادة العراقية العليا. إنَّ الوصي من جانبه مقتنع جداً بضرورتها حيث أخبرني منذ فترة ليست بالبعيدة أنه كان يضغط من أجلها منذ عدة أشهر. ربما كانت مقابلة " روبرتسون " معه ومع نوري السعيد في الأسبوع الماضي هي التي أدّتْ إلى ذلك أخيراً.

موقعة ( بخط يد ) جون تراوتبيك
إلى : آر جي باوكر المحترم،
وزارة الخارجية ، لندن. أس دبليو  . (2)

هل يحتاج الأمر إلى توضيح ؟ روبرتسن يقابل الوصي ونوري السعيد ويعرب لهما عن وجهات نظر معينة تخص الشأن العراقي الداخلي فيمتثلان ويُنفذان ما طلب.

ما كانت أسباب رغبة الإنكليز في إبعاد رئيس أركان الجيش العراقي عن رئاسة الأركان ؟ فلسطين ... نعم فلسطين وتسليح الجيش العراقي فما أشبه اليوم بالبارحة ! لم يُسلّحْ الإنكليزُ الجيشَ العراقي خوفاً على إسرائيل أو بكلمة أكثر دقّة وواقعية : الخوف من رجحان ميزان القوى العسكري لصالح البلدان العربية التي شاركت في الحرب مع إسرائيل عام 1948 . ولنفس السبب، ولأسباب أخرى، ماطلت بل وامتنعت إدارة أوباما وخالفت ما كانت قد وقّعت وتعاهدت عليه مع الحكومة العراقية وقد مضى على احتلالها للعراق أكثر من أحد عشر عاماً.

ربَّ سائل يتساءل . وما علاقة إعفاء رئيس أركان الجيش العراق الأسبق المرحوم صالح صائب محمد الجبوري من منصبه بكل من موضوعي تسليح الجيش العراقي وقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي ؟

بخصوص الصراع العربي ـ الإسرائيلي والدفاع عن أمن دولة إسرائيل الجديدة التي انبثقت لأول مرّة في تاريخ البشرية وتاريخ الهيئة العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ... إنبثقت وبرزت للوجود بالتصويت في الهئية العامة للأمم المتحدة على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود في عام 1947 ... بخصوص هذا الموضوع أُحيلُ القارئ الكريم إلى التقرير الذي كتبه القائد الوطني الراحل في 25/6/1951 ووجّهه إلى وزير الدفاع بعنوان [ إسرائيل والوضع الراهن للدول العربية ] /
الصفحات 269 ـ 302 والذي (كان موضوع بحث في إجتماع الحبّانيّة بين السلطات العراقية والبريطانية وهو الذي سبب الإستعجال في خروجي (الصفحة 307 من الكتاب المرجع). مّن حضر إجتماع الحبّانية هذا ؟ حضره الوصي على عرش العراق عبد الإله بن علي ووزير الدفاع شاكر الوادي (لمواجهة قائد الشرق الأوسط الجنرال البريطاني براين روبرتسون بصورة سريّة لم يعرف بها أحدٌ / الصفحة 305).
كان عبد الإله خادم الإنكليز وأداتهم الطيّعة في رسم مصائر العراقيين عامة وقواته المسلحة على وجه الخصوص.

أنقل هنا ما دار بين الوصي ووزير الدفاع يومذاك شاكر الوادي (كلّم الوصي عبد الإله شاكر الوادي بوصفه وزيراً للدفاع عن موافقة الجهات البريطانية على تجهيز الجيش العراقي بالأسلحة والمهمّات التي يحتاجها، وبيّن الوصيُّ بهذه المناسبة ضرورة إجراء تغيير في رئاسة أركان الجيش وقيادة الفرق فاستغرب شاكر الوادي من ذلك وبيّن للوصي خطأ هذه الفكرة والأضرار التي ستنجم عنها إلاّ أنَّ الوضيّ لم ترًقْ هذه الملاحظات التي تخالف كل المخالفة ما طلب منه تنفيذه ... /
الصفحات 312 ـ 313).

لخّص المرحوم الجبوري أسباب إبعاده عن رئاسة أركان الجيش العراقي في عدّة نقاط إستهل بها الفصل الخامس عشر أنقلها لأهميتها كما جاءت في هذا الفصل :
1ـ إدارتي لحركات بارزان سنة 1945 التي أحبطت فيها خططهم ودسائسهم وتكلل تلك الحركات بالنجاح العاجل خلافاً لرغبات رئيس البعثة العسكرية البريطانية الجنرال رنتن.

2ـ إختلافي مع " الجنرال رنتن " في كثير من الأمور.

3ـ موقفي من معاهدة بورتسموث ومساهمتي في إخفاقها.

4ـ مواقفي في حرب فلسطين وبالأخص إختلافي مع الفريق " كلوب  Glubb البريطاني قائد الجيش الأردني آنذاك".

5ـ آرائي التي عبّرتُ عنها بتقارير رسمية إلى وزير الدفاع في مختلف المناسبات كتقريري بشأن البيان الثلاثي الذي أصدرته دول أمريكا وبريطانيا وفرنسا في سنة 1950 م وكان غرضه الحقيقي الخفي هو ضمان أمن إسرائيل واستغلال القوى المتيسرة في بلاد الشرق الأوسط ضد الحركات المحتملة من روسيا في الشرق ( راجع الفصل الثالث عشر من هذه المذكرات " البيان الثلاثي أو مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط ".

6ـ تقريري الذي طالبتُ فيه بعدم زجّ الجيش العراقي في حرب عالمية بين المعسكرين الشرقي والغربي، وحصر استخدامه في المحافظة على سلامة العراق وأمنه واستقراره.
7ـ مطالبتي المستمرة بتجهيز الجيش العراقي بالأسلحة الحديثة وتهيئته للقيام بواجبه عند تعرّض سلامة البلاد للخطر.

8ـ تصريحاتي عند اجتماعي بقائد قوّات الشرق الأوسط الجنرال " برايان روبرتسون " بحضور السيد نوري السعيد في القاهرة في 26/1/1951 م عن استخدام الجيش العراقي وواجبه في حالة نشوب حرب في المنطقة، وكان موقف البريطانيين في إيران حَرِجاً في ذلك الوقت وأخذوا يفكّرون في كيفية استغلال الجيش العراقي لصالحهم إذا تفجّر ذلك الموقف.

9ـ تشديدي في جميع المناسبات على ضرورة المسارعة في التهيؤ والإستعداد واتفاق الدول العربية ماديّاً وأدبيّاً لتهيئة القوّات اللازمة للحيلولة دون توسع إسرائيل، ومجابهة خطرها الذي يُحيقُ بالدول العربية.

في الصفحة التالية (305) يواصل المرحوم الجبوري حديثه عن مواقف الإنكليز منه ويكشف خفايا تواطؤ الوصي على العرش يومذاك ورئيس الوزراء نوري السعيد ثم وزير الدفاع شاكر الوادي وتجاوبهم وتنفيذهم لمخططات حكومة " صاحبة الجلالة البريطانية " ومنها إزاحة الرجل العراقي الوطني عن رئاسة أركان الجيش لأنه كان عراقيّاً صميماً وقف بشجاعة ووضوح مع الجيش العراقي وقضية تسليحه ثم موقفه الثابت والصريح من إسرائيل ونبوءته ومخاوفه من رغبتها بالتوسع على حساب أراضي وحقوق العرب في فلسطين وهذا ما حصل وما زال يحصل يوميّاً وعلى مدار الساعة وهذا هو حال مدينة القدس الشرقية اليوم وحال الضفّة الغربية ولا أذكر هضبة الجولان السورية المُحتلّة ومزارع شبعا اللبنانية.

لقد عاصر حرب 1948 / 1949 وعرف خفاياها وما حصل فيها من مناورات ومؤامرات وخيانات الرؤساء العرب وتواطؤهم مع اليهود والإنكليز وخاصة ملك شرق الأردن يومذاك عبد الله بن الحسين وقائد قواته الجنرال الإنكليزي كلوب باشا. لكأنه كان يرى ما سيحصل لفلسطين وللعرب من خسائر ونكبات وحروب فمن أين للعرب بأمثال هذا الرجل الفذ الذي مهّدت مواقفه الوطنية الشجاعة لقيام حركة الضباط الأحرار في الجيش العراقي وألهمتهم وأعطتهم الأمل القوي للقيام بثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 في العراق. عرف الإنكليز خطر هذا الرجل ـ المثال على النظام الملكي الخاضع لمشيئة بريطانيا فأشاعوا عزمه على تنفيذ إنقلاب ضد الحكومة في العراق كما كتب في الصفحة 305.
(( .. وقد علمتُ بعد خروجي من الجيش وفي أثناء وجودي في مجلس الأعيان، أنَّ أحدَ عملاء الإستخبارات البريطانية المدعو مستر " تك " الذي كان يعملُ في دائرة ري لواء الديوانية، كان يقدّم تقاريرَ إلى مستشار وزارة الداخلية، وهو بريطاني أيضاً، عن إحتمال قيام الجيش العراقي بقلب نظام الحكم بقيادتي أنا، وذلك هو بيت القصيد )).

هل صحيح أنَّ في كل وزارة عراقية اليوم مستشاراً أمريكياً ؟ نشر أحد المواقع قبل سنوات أسماء وديانات هؤلاء المستشارين فهل من تأكيد أو نفي رسمي تقوم به الجهات الحكومية المعنيّة ؟!

الإنقلاب الذي حذّروا من وقوعه في عام 1951 وقع ولكن في عام 1958 وكان ثورة لا إنقلاباً أو إنقلاباً عسكرياً سرعان ما تطور إلى ثورة كما كان شأن إنقلاب 23 تموز 1952 في مصر.

كان شرط الإنكليز لتسليح الجيش العراقي هو إزاحة صالح صائب محمد الجبوري من منصبه رئيساً لأركان الجيش العراقي. كتب المرحوم في الصفحة 305 ما يلي :
(( ... فقد أُضطرَّ البريطانيون أخيراً إلى كشف أوراقهم فصرّحوا للسلطات العراقية العليا في اجتماع الحبّانيّة الذي حضره الوصي ورئيس الوزراء نوري السعيد ووزير الدفاع شاكر الوادي، أنهم لا يسعهم تجهيز الجيش العراقي وتسليحه ما لم تُسلّمْ قيادته إلى أناس يطمئنون إليهم ويثقون باستجابتهم إلى طلباتهم والتعاون معهم، وما لم يتم إزاحة رئيس أركان الجيش الذي لا يرتاحون إلى وجوده على رأس الجيش ويخشون معاكساته في الحركات الجسيمة المقبلة )).

كان هاجس الإنكليز الأقوى هو أمن وبقاء دولة إسرائيل ثم غدا هذا الهاجس فيما بعدُ هاجس أمريكا وحلفائها في الناتو وبعض الأقطار العربية المتحالفة مع إسرائيل سرّاً أو نصف علانيّة فما أشبه البارحة باليوم واليوم بالبارحة !

لا بدَّ هنا من تقديم الشكر للسيد الدكتور عامر صالح صائب محمد الجبوري طبيب الإختصاص بأمراض وجراحة الجهاز البولي ومتعلقاته والمقيم منذ عام 1976 في الولايات المتحدة الأمريكية لحرصه على نشر بعض تراث المرحوم والده ثم لإهدائه هذا الكتاب لي سويةً مع كتاب آخر هو سِفر عظيم سجل والده فيه أحداث فلسطين تحت عنوان [محنة فلسطين وأسرارها السياسية والعسكرية] أرشحه مع الكتاب الآخر مصادر لطلبة الكليات العسكرية العراقية ولطلبة كليات الأركان ولكل ضابط في الجيش العراقي بل ولكل ضباط الجيوش العربية.
 

تشرين الثاني 2014
 


(1) صفحات من تاريخ العراق المعاصر 1914 ـ 1958
(2) مذكّرات الفريق أول ركن صالح صائب الجبوري / الناشر : منتدى المعارف، بيروت، لبنان. الطبعة الأولى، بيروت، 2012 .







 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter