|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  5 / 12 / 2012                               عباس العزاوي                                 كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مقارنات بائسة

عباس العزاوي
(موقع الناس)

مرَّ احد البسطاء من سكان البادية بمدينة كربلاء في خمسينيات القرن الماضي , وصادف مروره من جهة السوق الذي بين الحرمين الشريفين ,الذي يسمى " السوق المسكَف " وما ان توسط المرقدين , حتى وقع بصره على القباب اللامعة التي تعانق السماء في شموخها وارتفاعها وبريقها الذي يخطف الابصار, واعداد الحجيج الهائلة التي تتنقل بينهما ,وقف الرجل وهو يتطلع يمنة ويسرة فاغراً فاه لهذا المنظر المهيب, فبادر بالسؤال من احد الباعة , عن اسم المكان , فقال له انها مدينة كربلاء , ولمن هذه القباب الذهبية؟ فرد البائع, انهما مرقدي الامامين الحسين ابن علي واخيه العباس ابن علي عليهما السلام .... فتبسم الرجل ,ملوحاً بيده باستغراب.. وقال بلهجة دارجة " ماشاء الله ... ماشاء الله يعني اثنينهم ولد علي , عمي جا هاي الخلفه ( الابناء ) مو خلفة كَاطع " قاصداً بذلك ابناءه عديمي الفائدة والمكانة الاجتماعية!!.

اتيت بهذه الحادثة ( الطرفة) كمثال مع فارق القياس والنتائج , لتقريب فكرة مستلبة مطروحة في الاوساط العراقية حالياً حول المقارنات المضحكة وغير المنطقية التي يطلقها البعض في مناسبات معينة ومواقف مشابه , فقد بدأت في الآونة الاخيرة وعبر شبكات الانترنت انتشار ظاهرة المقارنة غير العقلية بيننا والشعوب الاخرى وبين مدننا البائسة والمحطمة والمدن الاوربية المتطورة بعمرانها وروعة مناظرها , فالكثير منّا مثلاً , يحسد الشعوب الاوربية على حياتها ونعيمها رغم قلة موارد الكثير من بلدانها, والبعض يقارن حياته الخاصة بحياة مواطنيها ,فيذهله الفرق الشاسع بين الحالتين, وتزداد بذلك حسراته وحيرته يوماً بعد يوم , ,حتى وصلت العدوى لبعض الكتّاب والاعلاميين ممن يعتبرون انفسهم خبراء بارعون وعارفون لا يشق لهم غبار بمجريات الامور في بلداننا وتلك البلدان, ولكن لا احد منّا يسأل نفسه كيف وصل هؤلاء لهذه النتيجة ؟ ولا يريد ان يعرف متى بدأوا ؟ ولا كيف واجهوا مشاكلهم ما بعد الحرب؟ شعوباً واحزاباً وقادة ,حتى انتهى بهم المطاف الى هذه الحياة المنظمة والراقية.

عندما انتهت الحرب العالمية الثانية وهُزمت المانيا وحلفائها في الحرب , بدأ الاوربيون يدركون ,المنتصر منهم والخاسر فداحة الحرب وآثارها السلبية عليهم , فشرعوا يبنون حياتهم من الصفر , رغم انهم ابناء هذه الحرب وجنودها , والمفترض ان نفوسهم متعبة ومحبطة نتيجة الموت الذي لحق بالملايين منهم! ولكنهم اثبتوا ان عزيمتهم كانت اقوى من قساوة الحرب ونتائجها المدمرة , ومنذ ذلك الحين اطلقوا شعار لا للحرب, وكلما وردت مفردة الحرب , قالوا , ياللغباء, كانوا متعاونين فيما بينهم متكاتفين في سبيل بناء اوطانهم , رغم جميع الصعوبات التي واجهتم من شحة المواد الغذائية او قيمة الضرائب التي اثقلت كواهلهم , ودفعتهم للعمل المضني لتوفير لقمة العيش, لكن النخبة ـ المثقفين ـ منهم من تصدى لعملية البناء وتنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وليس البسطاء او الجهلة من الجيل الذي لم يحض بتعليم كافٍ بسبب الحرب وظروف الحياة آنذاك.

في كل الازمات التي تمر بها الشعوب في العالم تتوحد فيها انفاسهم وقلوبهم وارواحهم , الاشرار منهم والاخيار ,الجهله والمثقفون , الكبار والصغار , وتتظافر جهودهم الخيرة لنصرة اوطانهم , والنهوض بها من ركام الحروب والخراب , لان عدوهم واحد ومصيرهم واحد ,الا في بلدنا العراق فالامر اصبح كأحجية مبهمة ,لا تفسير عقلي لها , فاصبح قتل الابرياء محاربة للاحتلال ومقاومة شريفة!! وتفجير الاسواق والبنايات نصرة للشعب المظلوم , وذبح المخالفين جهاداً مقدساً ,هذا مايخص الجهلة والارهابييون اما اصحاب العقول لدينا ـ النخبة ـ فحدث ولا حرج , فقد نصبوا محاكمهم قبل الجريمة , وطالبوا بالحقوق قبل الواجبات, وحاربوا حكومة بلادهم دون الارهاب, ودمروا النفوس قبل بنائها باعلامهم الكاذب وتهافتهم الغريب , واقاموا العزاء على الحريات قبل الاستقرار والامان! وذرفوا الدموع على حقوق المعتقلين ولم يقلقهم تزايد ضحايا الارهاب كل يوم, وصفقوا للمخربين وقادة المليشيات وليس للحكومة الشرعية!.

ثم نأتي بعد ذلك ونقول لماذا شعبنا جائع ؟ ولماذا تفشت ظاهرة التسول في الطرقات ؟ ولماذا لاتقدم الحكومة الخدمات في بلد ميزانيته عبارة عن ارقام فلكية؟ الجواب بسيط جداً ويعرفه الجميع , وذلك لاننا لسنا شعباً واحداَ حقيقة الامر ولانؤمن بالديمقراطية التي تأتي بغيرنا الى السلطة! ولانحب القانون الذي تفرضه حكومة من غير طوائفنا ورفاقنا في دروب النضال الطويلة, ولان التغيير لم يخدم مصالحنا الشخصية ,ولم يقدم لاحزابنا مقاعد كثيرة في البرلمان تمنحنا فرصة تشكيل الحكومة الملائكية! ولاننا لم نتفق على اوضح الواضحات وتركنا اعدائنا يسرحون ويمرحون ويقتلون ابنائنا بحرية مطلقة! ورحنا نتصارع فيما بيننا, فهل من المنطقي ان نتسائل بعد ذلك!؟ ونحن قد قررنا وبأرادة لا تُقهر خلق هذه الفوضى العارمة , لماذا العراق مازال يعاني الارهاب والفساد والازمات؟ بعد عشر سنوات من التغيير.




15.12.2012


 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter